البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمَا كَانَ قَوۡلَهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسۡرَافَنَا فِيٓ أَمۡرِنَا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (147)

{ وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } لما ذكر ما كانوا عليه من الجلد والصبر وعدم الوهن والاستكانة للعدو ، وذلك كله من الأفعال النفسانية التي يظهر أثرها على الجوارح ، ذكر ما كانوا عليه من الإنابة والاستغفار والالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء ، وحصر قولهم في ذلك القول ، فلم يكن لهم ملجأ ولا مفزع إلا إلى الله تعالى ، ولا قول إلا هذا القول .

لا ما كنتم عليه يوم أحد من الاضطراب ، واختلاف الأقوال .

فمن قائل : نأخذ أماناً من أبي سفيان ، ومن قائل : نرجع إلى ديننا ، ومن قائل ما قال حين فرّ .

وهؤلاء قد فجعوا بموت نبيهم أو ربيبهم لم يهنوا ، بل صبروا وقالوا هذا القول ، وهم ربيون أحبار هضماً لأنفسهم ، وإشعاراً أنَّ ما نزل من بلاد الدنيا إنما هو بذنوب من البشر ، كما كان في قصة أحد بعصيان من عصى .

وقرأ الجمهور قولهم بالنصب على أنه خبر كان .

وإن قالوا في موضع الاسم ، جعلوا ما كان أعرف الاسم ، لأن إنَّ وصلتها تتنزل منزلة الضمير .

وقولهم : مضاف للضمير ، يتنزل منزلة العلم .

وقرأت طائفة منهم حماد بن سلمة عن ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم فيما ذكره المهدوي برفع قولهم ، جعلوه اسم كان ، والخبران قالوا .

والوجهان فصيحان ، وإن كان الأول أكثر .

وقد قرئ : ثم لم تكن فتنتهم بالوجهين في السبعة ، وقدم طلب الاستغفار على طلب تثبيت الأقدام والنصرة ، ليكون طلبهم ذلك إلى الله عن زكاة وطهارة .

فيكون طلبهم التثبيت بتقديم الاستغفار حرياً بالإجابة ، وذنوبنا وإسرافنا متقاربان من حيث المعنى ، فجاء ذلك على سبيل التأكيد .

وقيل : الذنوب ما دون الكبائر ، والإسراف الكبائر .

وقال أبو عبيدة : الذنوب هي الخطايا ، وإسرافنا أي تفريطنا .

وقال الضحاك : الذنوب عام ، والإسراف في الأمر الكبائر خاصة .

والإقدام هنا قيل : حقيقة ، دعوا بتثبيت الأقدام في مواطىء الحرب ولقاء العدوّ كي لا تزلّ .

وقيل : المعنى شجّعْ قلوبنا على لقاء العدوّ .

وقيل : ثبت قلوبنا على دينك .

والأحسن حمله على الحقيقة لأنه من مظانها .

وثبوت القدم في الحرب لا يكون إلا من ثبوت صاحبها في الدين .

وكثيراً ما جاءت هذه اللفظة دائرة في الحرب ومع النصرة كقوله : { أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا } { إِن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } وقيل : اغفر لنا ذنوبنا في المخالفة ، وإسرافنا في الهزيمة ، وثبت أقدامنا بالمصابرة ، وانصرنا على القوم الكافرين بالمجاهدة .

قال ابن فورك : في هذا الدعاء ردّ على القدرية لقولهم : إن الله لا يخلق أفعال العبد ، ولو كان ذلك لم يسع أن يدعي فيما لم يفعله ، وفي هذا دليل على مشروعية الدعاء عند لقاء العدو ، وأن يدعو بهذا الدعاء المعين .

/خ152