اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَا كَانَ قَوۡلَهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسۡرَافَنَا فِيٓ أَمۡرِنَا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (147)

الجمهور على نصب { قَوْلِهِمْ } خبراً مقدَّماً ، والاسم " أنْ " وما في حيزها ، تقديره : وما كان قولهم [ إلا هذا الدعاء ، أي : هو دأبهم وديدنهم ] .

وقرأ ابن كثيرٍ وعاصم - في رواية عنهما - برفع " قولُهم {[6053]} " على أنه اسم " كان " والخبر " أن " وما في حيزها . وقراءة الجمهور أوْلَى ؛ لأنه إذا اجتمع معرفتانِ فالأولى أن تَجْعَل الأعرف اسماً ، و " أن " وما في حيزها أعْرَف ؛ قالوا : لأنها تُشْبِه المُضْمَر من حيثُ إنها لا تُضْمَر ، ولا تُوصَف ، ولا يُوصَف بها ، و " قولهم " مضافٌ لمُضْمَرٍ ، فَهُوَ في رُتْبَةِ العَلَمِ ، فهو أقلُّ تعريفاً .

ورَجَّحَ أبو البقاء قراءة الجمهور بوجهين :

أحدهما : هذا ، والآخر : أن ما بعد " إلاَّ " مُثبَت ، والمعنى : كان قولَهُمْ : ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا دَأبَهم في الدعاء ، وهو حَسَنٌ .

والمعنى : وما كان قولهم شيئاً من الأقوالِ إلا هذا القول الخاصّ .

فصل

معنى الآية : وما كان قولهم عند قَتْل نبيِّهم إلا أن قالوا : رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذنوبنَا ، والغرض مِنْهُ تحريضُ هذه الأمة بالاقتداء بهم .

قال القاضي : إنما قدموا طلب المغفرة للذنوب والإسراف ؛ لأنه - تعالى - لما ضَمِن النُّصرةَ للمؤمنين ، فإذا لم تحصل النصرة ، وظهر أمارات استيلاء العدو ، دلَّ ذلك ظاهراً - على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين ، فلهذا المعنى يجب عليهم تقديمَ التوبةِ والاستغفارِ على طلب النُّصْرَة ، فبيَّن - تعالى - أنهم بدءوا بالتوبة عن كل المعاصي ، فقالوا : { ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } أي : الصغائر { وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } أي : الكبائر ؛ لأن الإسراف في كل شيء هو الإفراط فيه ؛ قال تعالى : { قُلْ يَعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 53 ] وقال { فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ } [ الإسراء : 33 ] وقال : { وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [ الأعراف : 31 ] ويقال : فلان مُسْرِف - إذا كان مكثراً في النفقة .

قوله : { فِي أَمْرِنَا } يَجُوز فيه وجهانِ :

الأول : أنه متعلق بالمصدر قبله ، يقال : أسرفتُ في كذا .

الثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حَالٌ منه ، أي : حال كونه مستقراً في أمرنا . والأول أوجهُ . ثم سألوا - بعد ذلك - أن يثبت أقدامهم ، وذلك بإزالة الخوفِ عن قلوبهم ، وهذا يدلُّ على أن فعل العبد مخلوقٌ للهِ ، والمعتزلة يحملونه على الألطاف . ثم سألوا أن ينصرهم على القوم الكافرين ، وهذه النصرة لا بد فيها من أمر زائدٍ على ثبات أقدامهم .

قال القاضي : وهذا تأديبٌ من الله - تعالى - في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمِحَن ، سواء كان في الجهادِ أو غيره .

قوله : " فآتاهم الله " يقتضي أن اللهَ - تَعَالَى - أعطاهم [ الأمْرَين ] {[6054]} أما ثوابُ الدُّنْيَا فَهُوَ : النصرة والغنيمة ، وقهر العدو ، والثناء الجميل ، وانشراح الصدرِ بنور الإيمان ، وأما ثوابُ الآخرة فلا شك أنه ثواب الجنة .

وقرأ الجَحْدَرِيُّ{[6055]} فأثابهم - من لفظ الثواب - وخَصَّ - تعالى - ثواب الآخرة بالحُسْنِ ؛ تنبيهاً على جلالةِ ثوابِهِم ، وذلك لأنّ ثوابَ الآخرةِ كُلَّه في غاية الحُسْنِ .

ويجوز أن يُحْمَل قوله : " فآتاهم " على أنه سيؤتيهم ، كقوله تعالى : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] أي : سيأتي أمرُ اللهِ .

قيل : ولا يمتنع أن تكون هذه الآية مختصة بالشهداءِ - وقد أخبرَ - تَعَالَى - عن بعضهم أنهم أحياءٌ ، عند ربِّهِم يرزقونَ - فيكون حالُ هؤلاء - أيضاً - كذلك .

فصل

قال فيما تقدم : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ آل عمران : 145 ] فأتى بلفظ " من " الدالة على التبعيض ، وقال هنا : { فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ } ولم يذكر كلمة " من " لأن الذين يُريدون ثوابَ الآخرةِ إنما اشتغلوا بالعبادة لطلب الثوابِ ، فكانت مرتبتهم في العبودية نازلةً عن مرتبة هؤلاء ؛ لأنهم لم يذكروا من أنفسهم إلا الذنبَ والتقصيرَ ، ولم يذكروا التدبيرَ والنصرةَ والإعانة إلا من ربّهم ، فكان مقامهم في العبودية في غاية الكمالِ ؛ لأنَّهم أرادوا خدمة مولاهم ، وأما أولئك فإنما أرادوا الثواب .


[6053]:انظر: الشواذ 23، والمحرر الوجيز 1/433، والبحر المحيط 3/81، والدر المصون 2/230.
[6054]:في أ: الأجرين.
[6055]:انظر: البحر المحيط 3/81، والدر المصون 2/231، والقرطبي 4/149.