وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ } كالتتميم والمبالغة في صلابتهم في الدين وعدم تطرق الوهن والضعف إليهم بالكلية ، وهو معطوف على ما قبله ، وقيل : كلام مبين لمحاسنهم القولية إثر بيان محاسنهم الفعلية ، وقولهم بالنصب خبر لكان واسمها المصدر المتحصل من { ءانٍ } وما بعدها في قوله تعالى : { إِلاَّ أَن قَالُواْ } والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء أي ما كان قولهم في ذلك المقام واشتباك أسنة الشدائد والآلام إلا أن قالوا { ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا } أي صغائرنا { وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا } أي تجاوزنا عن الحد ، والمراد كبائرنا وروي ذلك عن الضحاك ، وقيل : الإسراف تجاوز في فعل ما يجب ، والذنب عام فيه وفي التقصير ، وقيل : إنه يقابل الإسراف وكلاهما مذموم ، وسيأتي في هذه السورة إن شاء الله تعالى إطلاق الذنوب على الكبائر فافهم . والظرف متعلق بما عنده أو حال منه وإنما أضافوا ذلك إلى أنفسهم مع أن الظاهر أنهم برآء من التفريط في جنب الله تعالى هضماً لأنفسهم واستقصاراً لهمهم وإسناداً لما أصابهم إلى أعمالهم ، على أنه لا يبعد أن يراد بتلك الذنوب وذلك الإسراف ما كان ذنباً وإسرافاً على الحقيقة لكن بالنسبة إليهم ، حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وقيل : أرادوا من طلب المغفرة طلب قبول أعمالهم حيث إنه لا يجب على الله تعالى شيء ، وفيه ما لا يخفى ، وقدموا الدعاء بالمغفرة على ما هو الأهم بحسب الحال من الدعاء بقوله سبحانه : { وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا } أي عند جهاد أعدائك بتقوية قلوبنا وإمدادنا بالمدد الروحاني من عندك { وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } تقريباً له إلى حيز القبول فإن الدعاء المقرون بالخضوع الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة . ومن الناس من قال : المراد من ثبت أقدامنا ثبتنا على دينك الحق فيكون تقديم طلب المغفرة على هذا التثبيت من باب تقديم التخلية على التحلية وتقديمهما على طلب النصرة لما تقدم ، وقيل : إنهم طلبوا الغفران أولاً ليستحقوا طلب النصر على الكافرين بترجحهم بطهارتهم عن الذنوب عليهم وهم محاطون بالذنوب ، وفي طلبهم النصر مع كثرتهم المفرطة التي دل عليها ما سبق إيذان بأنهم لا ينظرون إلى كثرتهم ولا يعوّلون عليها بل يسندون ثبات أقدامهم إلى الله تعالى ويعتقدون أن النصر منه سبحانه وتعالى ، وفي الإخبار عنهم بأنه ما كان قولهم إلا هذا دون ما فيه شائبة جزع وخور وتزلزل من التعريض بالمنهزمين ما لا يخفى .
وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية عنهما برفع { قَوْلُهُمْ } على أنه الاسم والخبر { ءانٍ } وما في حيزها أي ما كان قولهم شيئاً من الأشياء إلا هذا القول المنبىء عن أحاسن المحاسن ، قال مولانا شيخ الإسلام : «وهذا كما ترى أقعد بحسب المعنى وأوفق بمقتضى المقام لما أن الإخبار بكون قولهم المطلق خصوصية قولهم المحكي عنهم مفصلاً كما تفيده قراءتهما أكثر إفادة للسامع من الإخبار بكون خصوصية قولهم المذكور قولهم لما أن مصب الفائدة وموقع البيان في الجمل الخبرية هو الخبر ، فالأحق بالخبرية ما هو أكثر إفادة وأظهر دلالة على الحدث وأوفر اشتمالاً على نسب خاصة بعيدة من الوقوع في الخارج وفي ذهن السامع ، ولا يخفى أن ذلك ههنا في أن ، مع ما في حيزها أتم وأكمل ، وأما ما تفيده الإضافة من النسبة المطلقة الإجمالية فحيث كانت سهلة الحصول خارجاً وذهناً كان حقها أن تلاحظ ملاحظة إجمالية وتجعل عنواناً للموضوع لا مقصوداً بالذات في باب البيان ، وإنما اختار الجمهور ما اختار والقاعدة صناعية هي أنه إذا اجتمع معرفتان فالأعرف منهما أحق بالإسمية ، ولا ريب في أعرفية أن ، قالوا لدلالته على جهة النسبة وزمان الحدث ولأنه يشبه المضمر من حيث إنه لا يوصف ولا يوصف به ، وقولهم مضاف إلى مضمر وهو بمنزلة العلم فتأمل » انتهى .
وقال أبو البقاء : جعل ما بعد { إِلا } اسماً لكان ، والمصدر الصريح خبراً لها أقوى من العكس لوجهين : أحدهما : أن { أَن قَالُواْ } يشبه المضمر في أنه لا يوصف وهو أعرف ، والثاني : أن ما بعد { إِلا } مثبت ، والمعنى كان قولهم ربنا اغفر لنا ذنوبنا الخ دأبهم في الدعاء ، وقال العلامة الطيبي : كأن المعنى ما صح ولا استقام من الربانيين في ذلك المقام إلا هذا القول وكأن غير هذا القول مناف لحالهم ، وهذه الخاصية يفيدها إيقاع { ءانٍ } مع الفعل اسما لكان ، وتحقيقه ما ذكره صاحب «الانتصاف » من أن فائدة دخول { كَانَ } المبالغة في نفي الفعل الداخل عليه بتعديد جهة فعله عموماً باعتبار الكون وخصوصاً باعتبار خصوصية المقال فهو نفى مرتين ، ثم قال : فعلى هذا لو جعلت رب الجملة ( أن قالوا ) واعتمدت عليه وجعلت قولهم كالفضلة حصل لك ما قصدته ولو عكست ركبت التعسف ، ألا ترى إلى أبي البقاء كيف جعل الخبر نسياً منسياً في الوجه الثاني واعتمد على ما بعد إلا انتهى .
ومنه يعلم ما في كلام مولانا شيخ الإسلام فإنه متى أمكن اعتبار جزالة المعنى مع مراعاة القاعدة الصناعية لا يعدل عن ذلك إلى غيره لا سيما وقد صرحوا بأن جعل الاسم غير الأعرف ضعيف ، قال في «المغني » : واعلم أنهم حكموا لأن ، وإن المقدرتين بمصدر معرف بحكم الضمير لأنه لا يوصف كما أن الضمير أيضاً كذلك فلهذا قرأت السبعة { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الجاثية : 25 ] { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ النمل : 56 ] والرفع ضعيف كضعف الأخبار بالضمير عما دونه في التعريف انتهى ، وعلل بعضهم أعرفية المصدر المؤول بأنه لا ينكر .
/ وقد اعترضوا على كل من تعليلي ابن هشام والبعض ، أما الاعتراض على الأول فبأن كونه لا يوصف لا يقتضي تنزيله منزلة الضمير فكم اسم لا يوصف بل ولا يوصف به وليس بتلك المنزلة ؟ وأجيب بأنه جاز أن يكون في ذلك الاسم مانع من جعله بمنزلة الضمير لأن عدم المانع ليس جزءاً من المقتضى ولا شرطاً في وجوده ، وأما الاعتراض على الثاني فبأنه غير مسلم لأنه قد ينكر كما في { وَمَا كَانَ هذا القرءان أَن يفترى } [ يونس : 37 ] أي افتراءاً قاله الشهاب .
وأجيب بأن مراد من قال : إن المصدر المؤول لا ينكر أنه في مثل هذا الموضع لا ينكر لا أن الحرف المصدري لا يؤل بمصدر منكر أصلاً ، ويستأنس لذلك بتقييد المصدر بالمعرف في عبارة «المغني » حيث يفهم منها أن أن وإن تارة يقدران بمصدر معرف وتارة بمصدر منكر وأنهما إذا قدرا بمصدر معرف كان له حكم الضمير ، ومن هنا قال صاحب «المطلع » في معنى ذلك التعليل : إن قول المؤمنين إن اختزل عن الإضافة يبقى منكراً بخلاف { أَن قَالُواْ } ، بقي في كلام «المغني » أمور ، الأول : أن التقييد بأن وإن هل هو اتفاقي أم احترازي ؟ الذي ذهب إليه بعض المحققين الأول : احتجاجاً بأنه أطلق في الجهة السادسة من الباب الخامس ، أن الحرف المصدري وصلته في نحو ذلك معرفة فلا يقع صفة للنكرة ولم يخص بأن وإن وللذاهب إلى الثاني أن يقول فرق بين مطلق التعريف وكونه في حكم الضمير كما لا يخفى ، وابن هشام قد أخذ المطلق في المطلق وقيد المقيد بالمقيد فلا بأس بإبقاء كلا العبارتين على ما يتراءى منهما الثاني : أنه يفهم من ظاهره أن الأداتين لو قدرتا بمصدر منكر لا يكون في حكم الضمير وظاهر هذا أنه يجوز الوصف حينئذ وفيه تردد لأنه قد يقال : لا يلزم من عدم ثبوت مرتبة الضمير لذلك جواز الوصف ؛ لأن امتناع الوصف أعم من مرتبة الضمير ، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم . الثالث : أنه يفهم من كلامه أن المصدر المقدر المعرف بالإضافة سواء أضيف إلى ضمير أو غيره بمثابة الضمير ولم يصرح أحد من الأئمة بذلك لكن حيث إن ابن هشام ثقة وإمام في الفن ولم ينقل عن أئمته ما يخالفه يقبل منه ما يقول ، الرابع : أن ما حكم به من أن الرفع ضعيف كضعف الإخبار بالضمير عما دونه في التعريف بينه وبين ما ذهب إليه ابن مالك من جواز الإخبار بالمعرفة عن النكرة المحضة في باب النواسخ بون عظيم ، ويؤيد كلام ابن مالك قوله تعالى : { فَإِنَّ حَسْبَكَ الله } [ الأنفال : 62 ] وكأنه لتحقيق هذا المقام ولما أشرنا إليه أولاً في تحقيق معنى الآية قال المولى قدس سره : فتأمل فتأمل .
( هذا ومن باب الإشارة ) :{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا } استر لنا وجوداتنا بإفاضة أنوار الوجود الحقيقي علينا { وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا } أي تجاوزنا حدود ظاهر الشريعة عند صدمات التجليات { وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا } في مواطن حروب أنفسنا { وانصرنا } بتأييدك وإمدادك { عَلَى القوم الكافرين } [ آل عمران : 147 ] الساترين لربوبيتك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.