قوله عز وجل :{ وقال فرعون } ، لملئه ، { ذروني أقتل موسى } ، وإنما قال هذا لأنه كان في خاصة قوم فرعون من يمنعه من قتله خوفاً من الهلاك ، { وليدع ربه } ، أي : وليدع موسى ربه الذي يزعم أنه أرسله إلينا فيمنعه منا ، { إني أخاف أن يبدل } أن يغير ، { دينكم } ، الذي أنتم عليه ، { أو أن يظهر في الأرض الفساد } ، قرأ يعقوب وأهل الكوفة ( أو أن يظهر ) ، وقرأ الآخرون : ( وأن يظهر ) قرأ أهل المدينة والبصرة وحفص ( يظهر ) بضم الياء وكسر الهاء على التعدية ، الفساد نصب لقوله : ( أن يبدل دينكم ) ، حتى يكون الفعلان على نسق واحد ، وقرأ الآخرون بفتح الياء والهاء على اللزوم ، ( الفساد ) ، رفع وأراد بالفساد تبديل الدين وعبادة غيره .
{ وقَالَ فِرْعَوْنُ } متكبرًا متجبرًا مغررًا لقومه السفهاء : { ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } أي : زعم -قبحه الله- أنه لولا مراعاة خواطر قومه لقتله ، وأنه لا يمنعه من دعاء ربه ، ثم ذكر الحامل له على إرادة قتله ، وأنه نصح لقومه ، وإزالة للشر في الأرض فقال : { إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ } الذي أنتم عليه { أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ } وهذا من أعجب ما يكون ، أن يكون شر الخلق ينصح الناس عن اتباع خير الخلق هذا من التمويه والترويج الذي لا يدخل إلا عقل من قال الله فيهم : { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ }
فأما فرعون فكان له فيما يبدو رأي آخر ، أو اقتراح إضافي في أثناء التآمر . ذلك أن يتخلص من موسى نفسه . فيستريح !
( وقال فرعون : ذروني أقتل موسى ، وليدع ربه ، إني أخاف أن يبدل دينكم ، أو أن يظهر في الأرض الفساد ) . .
ويبدو من قوله : ( ذروني أقتل موسى ) . . أن رأيه هذا كان يجد ممانعة ومعارضة - من ناحية الرأي - كأن يقال مثلاً : إن قتل موسى لا ينهي الإشكال . فقد يوحي هذا للجماهير بتقديسه واعتباره شهيداً ، والحماسة الشعورية له وللدين الذي جاء به ، وبخاصة بعد إيمان السحرة في مشهد شعبي جامع ، وإعلانهم سبب إيمانهم ، وهم الذين جيء بهم ليبطلوا عمله ويناوئوه . . وقد يكون بعض مستشاري الملك أحس في نفسه رهبة أن ينتقم إله موسى له ، ويبطش بهم . وليس هذا ببعيد ، فقد كان الوثنيون يعتقدون بتعدد الآلهة ، ويتصورون بسهولة أن يكون لموسى إله ينتقم له ممن يعتدون عليه ! ويكون قول فرعون : ( وليدع ربه ) . . رداً على هذا التلويح ! وإن كان لا يبعد أن هذه الكلمة الفاجرة من فرعون ، كانت تبجحاً واستهتاراً ، لقي جزاءه في نهاية المطاف كما سيجيء .
ولعله من الطريف أن نقف أمام حجة فرعون في قتل موسى :
( إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد ) . .
فهل هناك أطرف من أن يقول فرعون الضال الوثني ، عن موسى رسول الله - عليه السلام - ( إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد )? ! !
أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح ? أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل ? أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادى ء ?
إنه منطق واحد ، يتكرر كلما التقى الحق والباطل ، والإيمان والكفر . والصلاح والطغيان على توالي الزمان واختلاف المكان . والقصة قديمة مكررة تعرض بين الحين والحين .
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } وهذا عَزْمٌ من فرعون - لعنه الله - على قتل موسى ، عليه السلام ، أي : قال لقومه : دعوني حتى أقتل لكم هذا ، { وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } أي : لا أبالي منه . وهذا في غاية الجحد والتجهرم والعناد .
وقوله - قبحه الله - : { إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ } يعني : موسى ، يخشى فرعون أن يُضِلَّ موسى الناس ويغير رسومهم وعاداتهم . وهذا كما يقال في المثل : " صار فرعون مُذَكِّرًا " يعني : واعظا ، يشفق على الناس من موسى ، عليه السلام .
وقرأ الأكثرون : " أن يبدل دينكم وأن يُظهِر في الأرض الفساد " وقرأ آخرون : { أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ } وقرأ بعضهم : " يَظْهَر في الأرض الفسادُ " بالضم .
{ وقال فرعون ذروني أقتل موسى } كانوا يكفونه عن قتله ويقولون إنه ليس الذي تخافه بل هو ساحر ، ولو قتلته ظن أنك عجزت عن معارضته بالحجة وتعلله بذلك مع كونه سفاكا في أهون شيء دليل على أنه تيقن أنه نبي فخاف من قتله ، أو ظن أنه لو حاوله لم يتيسر له ويؤيده قوله . { وليدع ربه } فإنه تجلد وعدم مبالاة بدعائه . { إني أخاف } إن لم أقتله . { أن يبدل دينكم } أن يغير ما أنتم عليه من عبادته وعبادة الأصنام لقوله تعالى : { ويذرك وآلهتك } . { أو أن يظهر في الأرض الفساد } ما يفسد دنياكم من التحارب والتهارج إن لم يقدر أن يبطل دينكم بالكلية . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالواو على معنى الجمع ، وابن كثير وابن عامر والكوفيون غير حفص بفتح الياء والهاء ورفع الفساد .
الظاهر من أمر فرعون أنه لما بهرت آيات موسى عليه السلام انهد ركنه واضطربت معتقدات أصحابه ، ولم يفقد منهم من يجاذبه الخلاف في أمره ، وذلك بين من غير ما موضع من قصتهما ، في هذه الآية على ذلك دليلان ، أحدهما قوله : { ذروني } فليست هذه من ألفاظ الجبابرة المتمكنين من إنقاذ أوامرهم . والدليل الثاني : مقالة المؤمن وما صدع به ، وأن مكاشفته لفرعون أكثر من مسايرته ، وحكمه بنبوة موسى أظهر من توريته في أمره . وأما فرعون فإنما لجأ إلى المخرقة والاضطراب والتعاطي ، ومن ذلك قوله : { ذروني أقتل موسى وليدع ربه } أي إني لا أبالي عن رب موسى ، ثم رجع إلى قومه يريهم النصيحة والحماية لهم فقال : { إني أخاف أن يبدل دينكم } . والدين : السلطان ، ومنه قول زهير :
لئن حللت بجوٍّ من بني أسد . . . في دين عمرو وحالت بيننا فدك{[9984]}
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر : «وأن » . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي : «أو أن » ، ورجحها أبو عبيد بزيادة الحرف ، فعلى الأولى خاف أمرين ، وعلى الثانية : خاف أحد أمرين .
وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم والحسن وقتادة والجحدري وأبو رجاء ومجاهد وسعيد بن المسيب ومالك بن أنس : «يُظهِر » بضم الياء وكسر الهاء . «الفسادَ » نصيباً . وقرأ ابن كثير وابن عامر : «يَظهرَ » بفتح الياء والهاء «الفسادُ » بالرفع على إسناد الفعل إليه ، وهي قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم والأعرج وعيسى والأعمش وابن وثاب . وروي عن الأعمش أنه قرأ : «ويظهرُ في الأرض الفساد » برفع الراء . وفي مصحف ابن مسعود : «ويظهر » بفتح الراء .