الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ ذَرُونِيٓ أَقۡتُلۡ مُوسَىٰ وَلۡيَدۡعُ رَبَّهُۥٓۖ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمۡ أَوۡ أَن يُظۡهِرَ فِي ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡفَسَادَ} (26)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وقال فرعون} لقومه القبط {ذروني أقتل}: خلوا عني أقتل.

{موسى وليدع ربه} فليمنعه ربه من القتل.

{إني أخاف أن يبدل دينكم} يعني عبادتكم إياي {أو أن يظهر في الأرض} أرض مصر.

{الفساد} يعني بالفساد.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره:"وَقالَ فِرْعَوْنُ" لملئه: "ذَرُونِي أقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبّهُ "الذي يزعم أنه أرسله إلينا فيمنعه منا، "إنّي أخاف أنْ يُبَدّلَ دِينَكُمْ" يقول: إني أخاف أن يغير دينكم الذي أنتم عليه بسحره...

فتأويل الكلام إذن: إني أخاف من موسى أن يغير دينكم الذي أنتم عليه، أو أن يظهر في أرضكم أرض مصر، عبادة ربه الذي يدعوكم إلى عبادته، وذلك كان عنده هو الفساد.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} قال هذا لما رأى أنه لم يمنعهم عن اتباع موسى ما ذكر من قتل الأبناء، قال عند ذلك: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى}

ثم يحتمل قوله: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} وجوها: أحدها: يحتمل أنه همّ فرعون أن يقتل موسى عليه السلام فمنعه قومه أو الملأ من قومه عن قتله، فقال عند ذلك: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى}.

والثاني: يحتمل أنه قال مبتدئا من غير أن كان منهم منع له عن قتله، وهو كما قال ربنا عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم {ذرني ومن خلقت وحيدا} [المدثر: 11] من غير أن كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم منع له عن ذلك.

والثالث: يحتمل {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} أي ذروني ولائمتي في قتل موسى، أي لا تلوموني إذا أنا قتلته.

{وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} يحتمل وجهين:

...

الثاني: يكون ذلك أمرا من الله عز وجل موسى بالدعاء على فرعون بالهلاك لمّا همّ بقتله، وعلى ذلك الرسل عليهم السلام قد أذن لهم بالدعاء على فراعنتهم ومعانديهم ومكابريهم إذا بلغوا في العناد غايته والتمرّد نهايته.

{إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} قد كان هناك تبديل الدين، فإنه قد أظهر موسى عليه السلام دين الحق، وآمن كثير من أتباعه، لكن كأنه أراد، والله أعلم، بقوله: {أن يبدّل دينكم} أي يذهب بدينكم من الأصل.

{أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} ذكر اللعين وقد سمى إظهار التوحيد في الأرض ودين الإسلام فسادا؛ ليعلم أن كل مدّع شيئا، وإن كان مبطلا في دعواه؛ فعنده أنه على حق، وأن خصمه على الباطل، فلا يُقبل قول أحد إلا ببرهان.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{ذَرُونِي أَقْتُلْ موسى} كانوا إذا هم بقتله كفوه بقولهم: ليس بالذي تخافه، وهو أقل من ذلك وأضعف، وما هو إلا بعض السحرة، ومثله لا يقاوم إلاّ ساحراً مثله، ويقولون: إذا قتلته أدخلت الشبهة على الناس، واعتقدوا أنك قد عجزت عن معارضته بالحجة، والظاهر أنّ فرعون لعنه الله كان قد استيقن أنه نبيّ، وأن ما جاء به آيات وما هو بسحر، ولكن الرجل كان فيه خب وجربزة، وكان قتالاً سفاكاً للدماء في أهون شيء، فكيف لا يقتل من أحس منه بأنه هو الذي يثل عرشه ويهدم ملكه، ولكنه كان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك.

{وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} شاهد صدق على فرط خوفه منه ومن دعوته ربه، وكان قوله:

{ذَرُونِي أَقْتُلْ موسى} تمويهاً على قومه، وإيهاماً أنهم هم الذين يكفونه، وما كان يكفه إلاّ ما في نفسه من هول الفزع.

{أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} والفساد في الأرض: التفاتن والتهارج الذي يذهب معه الأمن وتتعطل المزارع والمكاسب والمعايش، ويهلك الناس قتلاً وضياعاً، كأنه قال: إني أخاف أن يفسد عليكم دينكم بدعوتكم إلى دينه. أو يفسد عليكم دنياكم بما يظهر من الفتن بسببه.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{إني أخاف أن يبدل دينكم}، والدين: السلطان...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

من قبائح أفعال أولئك الكفار مع موسى عليه السلام ما حكاه الله تعالى: {وقال فرعون ذروني أقتل موسى} وهذا الكلام كالدلالة على أنهم كانوا يمنعونه من قتله، وفيه احتمالان:

الاحتمال الأول: أنهم منعوه من قتله لوجوه:

...

...

...

الثالث: لعلهم كانوا يحتالون في منعه من قتله، لأجل أن يبقى فرعون مشغول القلب بموسى فلا يتفرغ لتأديب أولئك الأقوام، فإن من شأن الأمراء أن يشغلوا قلب ملكهم بخصم خارجي حتى يصيروا آمنين من شر ذلك الملك.

{وليدع ربه} إنما ذكره على سبيل الاستهزاء يعني أني أقتله فليقل لربه حتى يخلصه مني...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

فأما فرعون فكان له فيما يبدو رأي آخر، أو اقتراح إضافي في أثناء التآمر. ذلك أن يتخلص من موسى نفسه. فيستريح!

(وقال فرعون: ذروني أقتل موسى، وليدع ربه، إني أخاف أن يبدل دينكم، أو أن يظهر في الأرض الفساد)..

ويبدو من قوله: (ذروني أقتل موسى).. أن رأيه هذا كان يجد ممانعة ومعارضة -من ناحية الرأي- كأن يقال مثلاً: إن قتل موسى لا ينهي الإشكال. فقد يوحي هذا للجماهير بتقديسه واعتباره شهيداً، والحماسة الشعورية له وللدين الذي جاء به، وبخاصة بعد إيمان السحرة في مشهد شعبي جامع، وإعلانهم سبب إيمانهم، وهم الذين جيء بهم ليبطلوا عمله ويناوئوه.. وقد يكون بعض مستشاري الملك أحس في نفسه رهبة أن ينتقم إله موسى له، ويبطش بهم. وليس هذا ببعيد، فقد كان الوثنيون يعتقدون بتعدد الآلهة، ويتصورون بسهولة أن يكون لموسى إله ينتقم له ممن يعتدون عليه! ويكون قول فرعون: (وليدع ربه).. رداً على هذا التلويح! وإن كان لا يبعد أن هذه الكلمة الفاجرة من فرعون، كانت تبجحاً واستهتاراً، لقي جزاءه في نهاية المطاف كما سيجيئ.

ولعله من الطريف أن نقف أمام حجة فرعون في قتل موسى:

(إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)..

فهل هناك أطرف من أن يقول فرعون الضال الوثني، عن موسى رسول الله -عليه السلام- (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)؟!!

أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح؟ أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل؟ أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادئ؟

إنه منطق واحد، يتكرر كلما التقى الحق والباطل، والإيمان والكفر. والصلاح والطغيان على توالي الزمان واختلاف المكان. والقصة قديمة مكررة تعرض بين الحين والحين.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

ومعنى: {ذروني} وذلك يستتبع كناية عن خطر ذلك العمل وصعوبة تحصيله لأن مثله مما يَمنع المستشارُ مستشيره من الإِقدام عليه، ولذلك عطف عليه: {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} لأن موسى خوّفهم عذاب الله وتحدَّاهم بالآيات التسع.

ولام الأمر في {وَلْيَدعُ رَبَّهُ} مستعملة في التسوية وعدم الاكتراث.

وجملة {إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ} الخوف مستعمل في الإِشفاق، أي أظن ظناً قوياً أن يبدل دينكم.

وحذفت (مِن) التي يتعدى بها فعل {أخاف}؛ لأنها وقعت بينه وبين (أنْ). والتبديل: تعويض الشيء بغيره. وتوسم فرعون ذلك من إنكار موسى على فرعون زعمه أنه إله لقومه فإن تبديل الأصول يقتضي تبديل فروع الشريعة كلها. والإِضافة في قوله: {دينكم} تعريض بأنهم أولى بالذبّ عن الدين وإن كان هو دينَه أيضاً لكنه تجرد في مشاورتهم عن أن يكون فيه مراعاة لحظ نفسه كما قالوا هم

{أتذر موسى وقومَه ليفسدوا في الأرض ويذَرَك وآلهتك} [الأعراف: 127] وذلك كله إلهاب وتحضيض. والأرض: هي المعهودة عندهم وهي مملكة فرعون.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

قول فرعون {ذَرُونِيۤ أَقْتُلْ مُوسَىٰ..} يعني: اتركوني أقتله دَلَّ على وجود تيار من القوم يمنع فرعون من قَتْل موسى، وإلا لما قال (ذَرُوني) فمَنْ هؤلاء؟ ربما كانوا من أتباع فرعون المؤمنين بصدق موسى، وبما جاء به، فأحبُّوا أنْ يدافعوا عنه بطريقة لا تثير شكَّ فرعون، فاحتالوا عليه.

وهذا دليل على أن أصحاب الخير يجوز لهم أنْ يحتالوا على أهل الشر لنصرة الخير وأن الله يعينهم. جاء هؤلاء وقالوا لفرعون: إنْ قتلتَ موسى سيقول الناس أنه على حق، وأنك لم تقدر على رَدِّ حجته فقتلته لتستريح منه، وعندها سيقفون ضدك.

ومن هؤلاء المدافعين عن موسى الرجل المؤمن من آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه خوفاً من بطش فرعون، والذي دافع عن موسى دفاعاً قوياً وقدَّم الحجج، فقال: {وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ..} [غافر: 28].

وتأمل هنا سُخْرية فرعون واستهزائه {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ..} أي: ربه الذي يدعو إليه ليناديه كي ينقذه ولو لم يكُنْ مستهزئاً لقال: وليدْع ربَّنا {إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُـمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} سبحان الله انظر كيف يحاول أهل الباطل قَلْب الحقائق، ففرعون يخاف من موسى أنْ يُبدِّل دين قومه ودينهم هو الإيمان بفرعون إلهاً لهم يعبدونه من دون الله.

{أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} ينشأ الفساد من أين؟ من وجود فريقين في المجتمع: فريق يؤمن بفرعون إلهاً، وفريق يؤمن بموسى وربه الحق، فالرعية كلها في شقاق ونزاع، وأصحاب مراكز القوى المستفيدون من ألوهية فرعون لن يسكتوا، ولا شكَّ أن هذه فتنة ستُحدِثُ فساداً في نظره.