البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ ذَرُونِيٓ أَقۡتُلۡ مُوسَىٰ وَلۡيَدۡعُ رَبَّهُۥٓۖ إِنِّيٓ أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمۡ أَوۡ أَن يُظۡهِرَ فِي ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡفَسَادَ} (26)

{ وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه } ، قال الزمخشري : بعضه من كلام الحسن ، كان إذا هم بقتله كفوه بقولهم : ليس بالذي تخافه ، هو أقل من ذلك وأضعف ، وما هو إلا بعض السحرة ، ومثله لا يقاومه إلا ساحر مثله ، ويقولون : إن قتلته أدخلت الشبهة على الناس ، واعتقدوا أنك عجزت عن مظاهرته بالحجة .

والظاهر أن فرعون لعنه الله ، كان قد استيقن أنه نبي ، وأن ما جاء به آيات وما هو سحر ، ولكن الرجل كان فيه خبث وجبروت ، وكان قتالاً سفاكاً للدماء في أهون شيء ، فكيف لا يقتل من أحس منه بأنه هو الذي يثل عرشه ، يهدم ملكه ؟ ولكنه يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك .

وقوله : { وليدع ربه } : شاهد صدق على فرط خوفه منه ومن دعوته ربه ، كان قوله : { ذروني أقتل موسى } تمويهاً على قومه وإيهاماً أنهم هم الذين يكفونه ، وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هول الفزع .

وقال ابن عطية : الظاهر من أمر فرعون أنه لما بهرت آيات موسى انهدَّ ركنه واضطربت معتقدات أصحابه ، ولم يفقد منهم من يجاذبه الخلاف في أمره ، وذلك بين من غير ما موضع في قصتهما ، وفي ذلك على هذا دليلان : أحدهما : قوله { ذروني } ، فليست هذه من ألفاظ الجبابرة المتمكنين من إنفاذ أوامرهم .

الدليل الثاني : في مقالة المؤمن وما صدع به ، وأن مكاشفته لفرعون خير من مساترته ، وحكمه بنبوة موسى أظهر من تقريبه في أمره .

وأما فرعون ، فإنه نحا إلى المخرقة والاضطراب والتعاطي ، ومن ذلك قوله : { ذروني أقتل موسى وليدع ربه } : أي إني لا أبالي من رب موسى ، ثم رجع إلى قومه يريهم النصيحة والخيانة لهم ، فقال : { إني أخاف أن يبدل دينكم } ، والدين : السلطان ، ومنه قول زهير :

لئن حللت بجوّ في بني أسد *** في دين عمرو وحالت بيننا فدك

انتهى .

وتبديل دينهم هو تغييره ، وكانوا يعبدونه ويعبدون الأصنام ، كما قال : { ويذرك وآلهتك } أو أن يظهر الأرض الفساد ، وذلك بالتهارج الذي يذهب معه الأمن ، وتتعطل المزارع والمكاسب ، ويهلك الناس قتلاً وضياعاً ، فأخاف فساد دينكم ودنياكم معاً .

وبدأ فرعون بخوفه تغيير دينهم على تغيير دنياهم ، لأن حبهم لأديانهم فوق حبهم لأموالهم .

وقيل : { ذروني } يدل على أنهم كانوا يمنعونه من قتله ، إما لكون بعضهم كان مصدقاً له فيتحيل في منع قتله ، وإما لما روي عن الحسن مما ذكر الزمخشري ، وإما الشغل قلب فرعون بموسى حتى لا يتفرغ لهم ، ويأمنوا من شره ؛ كما يفعلون مع الملك ، إذا خرج عليه خارجي شغلوه به حتى يأمنوا من شره .

وقرأ الكوفيون : أو أن ، بترديد الخوف بين تبديل الدين أو ظهور الفساد .

وقرأ باقي السبعة : وأن بانتصاب الخوف عليهما معاً .

وقرأ أنس بن مالك ، وابن المسيب ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبو رجاء ، والحسن ، والجحدري ، ونافع ، وأبو عمرو ، وحفص : { يظهر } من أظهر مبنياً للفاعل ، { الفساد } : نصباً .

وقرأ باقي السبعة ، والأعرج ، والأعمش ، وابن وثاب ، وعيسى : يظهر من ظهر مبنياً للفاعل ، الفساد : رفعاً .

وقرأ مجاهد : يظهر بشد الظاء والهاء ، الفساد : رفعاً .

وقرأ زيد بن عليّ : يظهر : بضم الياء وفتح الهاء مبنياً للمفعول ، الفساد : رفعا « .