معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّـٰكِعِينَ} (43)

قوله تعالى : { يا مريم اقنتي لربك } . قالت لها الملائكة شفاها ، أي أطيعي ربك ، وقال مجاهد : أطيلي القيام في الصلاة لربك ، والقنوت : الطاعة ، وقيل : القنوت طول القيام . قال الأوزاعي : لما قالت لها الملائكة ذلك قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسالت دماً وقيحاً .

قوله تعالى : { واسجدي واركعي } . قيل إنما قدم السجود على الركوع لأنه كان كذلك في شريعتهم ، وقيل بل كان الركوع قبل السجود في الشرائع كلها ، وليس الواو للترتيب بل للجمع ، يجوز أن يقول الرجل رأيت زيداً وعمراً ، وإن كان قد رأى عمراً قبل زيد .

قوله تعالى : { مع الراكعين } . ولم يقل مع الراكعات ليكون أعم وأشمل فإنه يدخل فيه الرجال والنساء وقيل معناه : مع المصلين في الجماعة .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّـٰكِعِينَ} (43)

فلما أخبرتها الملائكة باصطفاء الله إياها وتطهيرها ، كان في هذا من النعمة العظيمة والمنحة الجسيمة ما يوجب لها القيام بشكرها ، فلهذا قالت لها الملائكة : { يا مريم اقنتي لربك }

{ اقنتي لربك } القنوت دوام الطاعة في خضوع وخشوع ، { واسجدي واركعي مع الراكعين } خص السجود والركوع لفضلهما ودلالتهما على غاية الخضوع لله ، ففعلت مريم ، ما أمرت به شكرا لله تعالى وطاعة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّـٰكِعِينَ} (43)

33

( يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ) . .

طاعة وعبادة ، وخشوع وركوع ، وحياة موصولة بالله تمهيدا للأمر العظيم الخطير . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّـٰكِعِينَ} (43)

ثم أخبر تعالى عن الملائكة : أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع والخضوع والسجود والركوع والدؤوب في العمل لها ، لما يريد الله

[ تعالى ]{[5016]} بها من الأمر الذي قدره وقضاه ، مما فيه محنة لها ورفعة في الدارين ، بما أظهر الله تعالى فيها من قدرته العظيمة ، حيث خلق منها ولدًا من غير أب ، فقال تعالى : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } أما القنوت فهو الطاعة في خشوع{[5017]} كما قال تعالى : { بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ }{[5018]} [ البقرة : 116 ] .

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عَمْرو بن الحارث : أن دَرَّاجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كُلُّ حَرْفٍ فِي الْقُرآنِ يُذْكَرُ فِيهِ القُنُوتُ فَهُوَ الطَّاعَةُ " . ورواه ابن جرير من حديث{[5019]} ابن لهيعة ، عن دَرّاج ، به ، وفيه نكارة{[5020]}

وقال مجاهد : كانت مريم ، عليها السلام ، تقوم حتى تتورم كعباها ، والقنوت هو : طول الركوع{[5021]} في الصلاة ، يعني امتثالا لقوله تعالى : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ } بل قال الحسن : يعني اعبدي لربك { وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } أي : كوني منهم .

وقال الأوزاعي : ركدت في محرابها راكعة وساجدة وقائمة ، حتى نزل الماء الأصفر في قدميها ، رضي الله عنها .

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمتها من طريق محمد بن يونس الكُدَيمي - وفيه مقال - : حدثنا علي بن بحر بن بَرّي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير في قوله : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي } قال : سَجَدت حتى نزل الماء الأصفر في عينيها{[5022]} {[5023]} .

وذكر ابن أبي الدنيا : حدثنا الحسن بن عبد العزيز ، حدثنا ضَمْرة ، عن ابن شَوْذَب قال : كانت مريم ، عليها السلام ، تغتسل في كل ليلة .


[5016]:زيادة من و.
[5017]:في جـ، أ: "الخشوع".
[5018]:في أ، و: (وَلِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتون)[الروم: 26].
[5019]:في جـ، أ، و: "طريق".
[5020]:تفسير ابن أبي حاتم (2/261) وتفسير الطبري (6/403) ورواه أحمد في مسنده (3/75) قال الهيثمي في المجمع (6/320): "في إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف" وفيه أيضا دراج قال أحمد: "أحاديثه مناكير" وضعفه النسائي وأبو حاتم وقال أبو داود: "أحاديثه مستقيمة إلا ما كان عن أبي الهيثم عن أبي سعيد".
[5021]:في أ: "الذكر".
[5022]:في ر: "عينها".
[5023]:تاريخ دمشق لابن عساكر (ص 369) تراجم النساء ط. المجمع العلمي بدمشق، ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور (26/78).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّـٰكِعِينَ} (43)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ يَمَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرّاكِعِينَ }

يعني جلّ ثناؤه بقوله خبرا عن قيل ملائكته لمريم : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكَ } أخلصي الطاعة لربك وحده . وقد دللنا على معنى القنوت بشواهده فيما مضى قبل .

واختلاف بين أهل التأويل فيه في هذا الموضع نحو اختلافهم فيه هنالك ، وسنذكر قول بعضهم أيضا في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معنى «اقنتي » : أطيلي الركود . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : أطيلي الركود ، يعني : القنوت .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج { اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : قال مجاهد : أطيلي الركود في الصلاة ، يعني : القنوت .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : لما قيل لها : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قامت حتى ورم كعباها .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : لما قيل لها : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قامت حتى ورمت قدماها .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي ليلى ، عن مجاهد : { اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : أطيلي الركود .

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : القنوت : الركود ، يقول : قومي لربك في الصلاة ، يقول : اركدي لربك ، أي انتصبي له في الصلاة ، واسجدي واركعي مع الراكعين .

حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : كانت تصلي حتى تورم قدماها .

حدثني ابن البرقي ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا الأوزاعي : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : كانت تقوم حتى يسيل القيح من قدميها .

وقال آخرون : معناه : أخلصي لربك . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد : { يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : أخلصي لربك .

وقال آخرون : معناه : أطيعي ربك . ذكر من قال ذلك :

حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : أطيعي ربك .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { اقْنُتِي لِرَبكِ } أطيعي ربك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا محمد بن حرب ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «كُلّ حَرْفٍ يُذْكَرُ فِيهِ القُنُوتُ مِنَ القُرْآنِ ، فَهُوَ طاعَةٌ لِلّهِ » .

حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد بن منصور ، عن الحسن ، في قوله : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ } قال : يقول : اعبدي ربك .

قال أبو جعفر : وقد بينا أيضا معنى الركوع والسجود بالأدلة الدالة على صحته ، وأنهما بمعنى الخشوع لله والخضوع له بالطاعة والعبودية .

فتأويل الاَية إذا : يا مريم أخلصي عبادة ربك لوجهه خالصا ، واخشعي لطاعته وعبادته ، مع من خشع له من خلقه ، شكرا له على ما أكرمك به من الاصطفاء والتّطهير من الأدناس والتفضيل على نساء عالم دهرك .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّـٰكِعِينَ} (43)

و{ اقنتي } معناه اعبدي وأطيعي ، قاله قتادة والحسن ، وروى أبو سعيد الخدري ، عن النبي عليه السلام قال :< كل قنوت في القرآن فهو بمعنى طاعة الله{[3167]}> ويحتمل أن يكون معناه ، أطيلي القيام في الصلاة ، وهذا هو قول الجمهور ، وهو المناسب في المعنى لقوله : { واسجدي واركعي } وبه قال مجاهد ، وابن جريج ، والربيع وروى مجاهد أنها لما خوطبت بهذا ، قامت حتى ورمت قدماها{[3168]} ، وروى الأوزاعي ، أنها قامت حتى سال الدم والقيح من قدميها ، وروي أن الطير كانت تنزل على رأسها ، تظنها جماداً لسكونها في طول قيامها ، وقال سعيد بن جبير ، { اقنتي لربك } ، معناه أخلصي لربك ، واختلف المتأولون ، لم قدم السجود على الركوع ؟ فقال قوم : كان ذلك في شرع زكرياء وغيره منهم وقال قوم : الواو لا تعطي رتبة ، وإنما المعنى ، افعلي هذا وهذا ، وقد علم تقديم الركوع ، وهذه الآية أكثر إشكالاً من قولنا ، قام زيد وعمرو ، لأن قيام زيد وعمرو ليس له رتبة معلومة ، وهذه الآية قد علم أن السجود بعد الركوع ، فكيف جاءت الواو بعكس ذلك{[3169]} ، فالقول عندي في ذلك ، أن مريم أمرت بفصلين ومعلمين من معالم الصلاة ، وهما طول القيام والسجود ، وخصا بالذكر لشرفهما في أركان الصلاة ، وإذا العبد يقرب في وقت سجوده من الله تعالى : وهذان يختصان بصلاتها مفردة ، وإلا فيمن يصلي وراء إمام ، فليس يقال له أطل قيامك ، ثم أمرت -بعد - بالصلاة في الجماعة ، فقيل لها ، { واركعي مع الراكعين } وقصد هنا معلم من معالم الصلاة ، لئلا يتكرر لفظ ، ولم يرد بالآية السجود والركوع ، الذي هو منتظم في ركعة واحدة والله أعلم .


[3167]:- أخرجه الإمام أحمد، وأبو يعلى في مسنده، وابن حبان، وابن أبي حاتم، وابن جرير عن أبي سعيد الخدري بلفظ: (كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة). "الجامع الصغير" 2/235. وابن كثير.
[3168]:- أخرجه ابن جرير في تفسيره. 3/265.
[3169]:- ذكر أبو حيان هذا الكلام عن ابن عطية، ثم قال: "وهذا كلام من لم يمعن النظر في كتاب سيبويه، فإن سيبويه ذكر أن الواو يكون معها في العطف المعية، وتقديم السابق وتقديم اللاحق يحتمل ذلك احتمالات سواء فلا يترجح أحد الاحتمالات على الآخر، ولا التفات لقول بعض المتأخرين في ترجيح المعية على تقديم السابق" البحر المحيط 2/457.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّـٰكِعِينَ} (43)

إعادةُ النداء في قول الملائكة : { يا مريم اقنتي } لقصد الإعجاب بحالها ، لأنّ النداء الأول كفى في تحصيل المقصود من إقبالها لسماع كلام الملائكة ، فكان النداء الثاني مستعملاً في مجرّد التنبيه الذي ينتقل منه إلى لازمِه وهو التنويه بهذه الحالة والإعجاب بها ، ونظيره قول امرىء القيس :

تقول وقد مال الغَبيط بنا معَا *** عقرتَ بعيري يا امرأ القيس فانْزِل

( فهو مستعمل في التنبيه المنتقل منه إلى التوبيخ ) .

والقنوت ملازمة العبادة ، وتقدم عند قوله تعالى : { وقوموا للَّه قانتين } في سورة [ البقرة : 238 ] .

وقدم السجود ، لأنّه أدخل في الشكر والمقَام هنا مقام شكر .

وقوله : { مع الراكعين } إذن لها بالصلاة مع الجماعة ، وهذه خصوصية لها من بين نساء إسرائيل إظهاراً لمعنى ارتفاعها عن بقية النساء ، ولذلك جيء في الراكعين بعلامة جمع التذكير .

وهذا الخطاب مقدمة للخطاب الذي بعده وهو { يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه } [ آل عمران : 45 ] لقصد تأنيسها بالخبر الموالي لأنه لما كان حاصله يَجلب لها حَزناً وسوء قالة بين الناس ، مهّد له بما يجلب إليها مَسرّة ، ويوقنها بأنّها بمحل عناية الله ، فلا جرم أن تعلم بأنّ الله جاعل لها مخرجاً وأنّه لا يخزيها .

وقوله : { وما كنت لديهم } إيماء إلى خلوّ كتبهم عن بعض ذلك ، وإلاّ لقال : وما كنت تتلو كُتبهم مثل : « وما كنت تتلو من قبله من كتاب » أي إنّك تخبرهم عن أحوالهم كأنّك كنت لديهم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّـٰكِعِينَ} (43)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكَ}: أخلصي الطاعة لربك وحده. فقال بعضهم: معنى «اقنتي»: أطيلي الركود. وقال آخرون: معناه: أخلصي لربك... أطيعي ربك: اعبدي ربك.

وقد بينا أيضا معنى الركوع والسجود بالأدلة الدالة على صحته، وأنهما بمعنى الخشوع لله والخضوع له بالطاعة والعبودية.

فتأويل الآية إذا: يا مريم أخلصي عبادة ربك لوجهه خالصا، واخشعي لطاعته وعبادته، مع من خشع له من خلقه، شكرا له على ما أكرمك به من الاصطفاء والتّطهير من الأدناس والتفضيل على نساء عالم دهرك.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

الأمر بالركوع {مع الراكعين}، وهو الصلاة بجماعة، ففيه الأمر بالصلاة مع الجماعة على ما هو علينا،...، لأنه قال: {واركعي مع الراكعين... فإن قيل: كيف أمرت بالركوع مع الراكعين؟ قيل: كانوا، والله أعلم، ذوي قرابة منها ورحم. ألا ترى أنهم كيف اختصموا في ضمها وإمساكها حتى أراد كل واحد منهم ضمها إلى نفسه على أنه الأحق بذلك؟ دل أن بينهم وبينها رحما وقرابة. ويحتمل {مع الراكعين}: أي ممن يركع، ويخضع له بالعبادة، لا على الاجتماع، والله أعلم كيف كان الأمر كذلك...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

لازمي بساط العبادة، وداومي على الطاعة، ولا تُقَصِّرِي في استدامة الخدمة، فكما أفردكِ الحقُّ بمقامك، كوني في عبادته أوحد زمانك...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود؛ لكونهما من هيآت الصلاة وأركانها؛ ثم قيل لها {واركعي مَعَ الراكعين} بمعنى: ولتكن صلاتك مع المصلين أي في الجماعة؛ أو انظمي نفسك في جملة المصلين وكوني معهم في عدادهم ولا تكوني في عداد غيرهم. ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع وفيه من يركع، فأمرت بأن تركع مع الراكعين ولا تكون مع من لا يركع...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

و {اقنتي}... أن يكون معناه، أطيلي القيام في الصلاة، وهذا هو قول الجمهور، وهو المناسب في المعنى لقوله: {واسجدي واركعي}... فالقول عندي في ذلك، أن مريم أمرت بفصلين ومعلمين من معالم الصلاة، وهما طول القيام والسجود، وخصا بالذكر لشرفهما في أركان الصلاة، وإذا العبد يقرب في وقت سجوده من الله تعالى: وهذان يختصان بصلاتها مفردة، وإلا فيمن يصلي وراء إمام، فليس يقال له أطل قيامك، ثم أمرت -بعد -بالصلاة في الجماعة، فقيل لها، {واركعي مع الراكعين} وقصد هنا معلم من معالم الصلاة، لئلا يتكرر لفظ، ولم يرد بالآية السجود والركوع، الذي هو منتظم في ركعة واحدة والله أعلم...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

قال تعالى: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي}... وبالجملة فلما بين تعالى أنها مخصوصة بمزيد المواهب والعطايا من الله أوجب عليها مزيد الطاعات، شكرا لتلك النعم السنية،... لم قدم ذكر السجود على ذكر الركوع؟. والجواب من وجوه: الأول: أن الواو تفيد الاشتراك ولا تفيد الترتيب. الثاني: أن غاية قرب العبد من الله أن يكون ساجدا قال عليه الصلاة والسلام: « أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد» فلما كان السجود مختصا بهذا النوع من الرتبة والفضيلة لا جرم قدمه على سائر الطاعات...

{واسجدي واركعي}... يعني استعملي السجود في وقته اللائق به، واستعملي الركوع في وقته اللائق به، وليس المراد أن يجمع بينهما،... أن الصلاة تسمى سجودا كما قيل في قوله {وأدبار السجود} [ق: 40] وفي الحديث « إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين» وأيضا المسجد سمي باسم مشتق من السجود والمراد منه موضع الصلاة، وأيضا أشرف أجزاء الصلاة السجود وتسمية الشيء باسم أشرف أجزائه نوع مشهور في المجاز...

إذا ثبت هذا فنقول قوله {يا مريم اقنتي}: يا مريم قومي، وقوله {واسجدي}: أي صلي فكان المراد من هذا السجود الصلاة، ثم قال: {واركعي مع الراكعين} إما أن يكون أمرا لها بالصلاة بالجماعة فيكون قوله {واسجدي} أمرا بالصلاة حال الانفراد، وقوله {واركعي مع الراكعين} أمرا بالصلاة في الجماعة، أو يكون المراد من الركوع التواضع ويكون قوله {واسجدي} أمرا ظاهرا بالصلاة، وقوله {واركعي مع الراكعين} أمرا بالخضوع والخشوع بالقلب...

التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :

انتبه لمعنى الآية من قوله {اركعي مع الراكعين} ولم يقل: «اسجدي مع الساجدين»، فإنما عبر بالسجود عن الصلاة، وأراد صلاتها في بيتها. لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها مع قومها، ثم قال لها {اركعي مع الراكعين} أي صلي مع المصلين في بيت المقدس،...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{يا مريم اقنتي لربك} أي الزمي طاعته مع الخضوع له: {واسجدي مع الراكعين} السجود التطامن والتذلل، والركوع والانحناء ويستعمل في لازمه وسببه وهو التواضع والخشوع في العبادة أو غيرها. وركوعها مع الراكعين عبارة عن صلاتها مع المصلين في المعبد وقد كانت ملازمة لمحرابه كما تقدم. وقد أطلق الركوع والسجود في صلاتنا على العمل المعلوم وهو استعمال للفظ في حقيقته ومجازه إذ الدين يطالبنا بالخشوع واستشعار التواضع في هذا الانحناء والتطامن ولم تكن صلاة اليهود كصلاتنا في أعمالها وصورتها ولكنهم طولبوا فيها بمثل ما طولبنا من الخشوع والتذلل لله تعالى..

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين).. طاعة وعبادة، وخشوع وركوع، وحياة موصولة بالله تمهيدا للأمر العظيم الخطير...

.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

هذا الخطاب مقدمة للخطاب الذي بعده وهو {يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه} [آل عمران: 45] لقصد تأنيسها بالخبر الموالي لأنه لما كان حاصله يَجلب لها حَزناً وسوء قالة بين الناس، مهّد له بما يجلب إليها مَسرّة، ويوقنها بأنّها بمحل عناية الله، فلا جرم أن تعلم بأنّ الله جاعل لها مخرجاً وأنّه لا يخزيها. وقوله: {وما كنت لديهم} إيماء إلى خلوّ كتبهم عن بعض ذلك، وإلاّ لقال: وما كنت تتلو كُتبهم مثل: « وما كنت تتلو من قبله من كتاب» أي إنّك تخبرهم عن أحوالهم كأنّك كنت لديهم...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

{يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين} القنوت لزوم الطاعة والاستمرار عليها، مع استشعار الخضوع التام المطلق، والاستسلام لله وإسلام الوجه لله الكريم، فمعنى نداء الملائكة دعوتها إلى ان تستمر على ما هي عليه من خضوع لله وإسلام وجهها له سبحانه، وتفويض أمورها له. وتكرار النداء لإشعارها بقربهم منها وهم رسل ربهم إليها، وفي ذلك بيان قربها منه سبحانه وتعالى. وفي تكرار النداء إشعار بأن طلبهم الاستمرار على القنوت وهو من قبيل شكر الله على هذه النعمة؛ فهذا الاصطفاء يوجب الشكر بالاستمرار على القنوت... وقوله تعالى: {واسجدي} هذا الأمر هنا يفسر بملازمة الطاعة والعبادة؛ فالسجود الخضوع المطلق لله تعالى؛ لأن أظهر مظاهر الخضوع ان يتضامن الشخص فيضع جبهته على الأرض خضوعا لله تعالى، وشعورا بعظمته وجلالته،وعلوه سبحانه،وانخفاض العبد امامه...

وقوله تعالى: {واركعي مع الراكعين}... وهذا فيه فائدة،وهي إثبات أن الصلاة مع الجماعة من تمام النسك والعبادة. فمريم البتول كانت ملازمة للمحراب منذ نشأتها في كفالة زكريا عليه السلام، وهي بهذا تشبه أن تكون بعزلة عن عوجاء الحياة وما فيها، وما عند الناس حتى في عباداتهم، فبينت لها الملائكة عن الله سبحانه ان تصلى جماعة مع الناس،فإن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد...