البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّـٰكِعِينَ} (43)

{ يا مريم اقنتي لربك } لا خلاف بين المفسرين أن المنادي لها بذلك الملائكة الذين تقدّم ذكرهم على الخلاف المذكور ، والمراد بالقنوت هنا : العبادة ، قاله الحسن ، وقتادة .

أو : طول القيام في الصلاة ، قاله مجاهد ، وابن جريج ، والربيع ، أو : الطاعة ، أو : الإخلاص ، قاله ابن جبير .

وفي قوله : لربك ، إشارة إلى أن تفرّده بالعبادة وتخصصه بها ، والجمهور على ما قاله مجاهد ، وهو المناسب في المعنى لقوله : { واسجدي واركعي } وروى مجاهد أنها : لما خوطبت بهذا قامت حتى ورمت قدماها .

وقال الأوزاعي : قامت حتى سال الدم والقيح من قدميها .

وروي : أن الطير كانت تنزل على رأسها تظنها جماداً لسكونها في طول قيامها .

{ واسجدي واركعي مع الراكعين } أمرتها الملائكة بفعل ثلاثة أشياء من هيئات الصلاة ، فإن أريد ظاهر الهيئات فهي معطوفة بالواو ، والواو لا ترتب ، فلا يسأل لم قدم السجود على الركوع إلاَّ من جهة علم البيان .

والجواب : أن السجود لما كانت الهيئة التي هي أقرب ما يكون العبد فيها إلى الله قدم ، وإن كانت متأخراً في الفعل على الركوع ، فيكون إذ ذاك التقديم بالشرف .

وقيل : كان السجود مقدّماً على الركوع في شرع زكريا وغيره منهم ، ذكره أبو موسى الدمشقي .

وقيل : في كل الملل إلاَّ ملة الإسلام ، فجاء التقديم من حيث الوقوع في ذلك الشرع ، فيكون إذ ذاك التقديم زمانياً من حيث الوقوع ، وهذا التقديم أحد الأنواع الخمسة التي ذكرها البيانيون ، وكذلك التقديم الذي قبله ، وتوارد الزمخشري ، وابن عطية على أنه لا يراد ظاهر الهيئات .

فقال الزمخشري : أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئات الصلاة وأركانها ، ثم قيل لها { واركعي مع الراكعين } المعنى : ولتكن صلاتك مع المصلين أي في الجماعة ، أي وانظمي نفسك في جملة المصلين ، وكوني معهم وفي عدادهم ، ولا تكون في عداد غيرهم .

وقال ابن عطية : القول عندي في ذلك أن مريم أمرت بفعلين ومعلمين من معالم الصلاة ، وهما : طول القيام والسجود ، وخصا بالذكر لشرفهما في أركان الصلاة .

وهذان يختصان بصلاتها منفردة ، وإلاَّ فمن يصلي وراء إمام لا يقال له : أطل قيامك ، ثم أمرت بعدُ بالصلاة في الجماعة ، فقيل لها : { واركعي مع الراكعين } وقصد هنا معلم آخر من معالم الصلاة لئلا يتكرر لفظ .

ولم يرد بالآية السجود والركوع الذي هو منتظم في ركعة واحدة .

انتهى كلامه .

ولا ضرورة بنا تخرج اللفظ عن ظاهره .

وقد ذكرنا مناسبة لتقديم السجود على الركوع ، وقد استشكل ابن عطية هذا ، فقال : وهذه الآية أشد إشكالاً من قولنا : قام زيد وعمرو ، لأن قيام زيد وعمرو ليس له رتبة معلومة ، وقد علم أن السجود بعد الركوع ، فكيف جاءت الواو بعكس ذلك في هذه الآية ؟ انتهى .

وهذا كلام من لم يمعن النظر في كتاب سيبويه ، فإن سيبويه ذكر أن الواو يكون معها في العطف المعية ، وتقديم السابق وتقديم اللاحق يحتمل ذلك احتمالات سواء ، فلا يترجح أحد الاحتمالات على الآخر ، ولا التفات لقول بعض أصحابنا المتأخرين في ترجيح المعية على تقديم السابق وعلى تقديم اللاحق ، ولا في ترجيح تقديم السابق على تقديم اللاحق .

وذكر الزمخشري توجيهاً آخر في تأخير الركوع عن السجود ، فقال : ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع ، وفيه من يركع ، فأمرت بأن تركع مع الراكعين ، ولا تكون مع من لا يركع . انتهى .

فكأنه قيل : لا تقتصري على القيام والسجود ، بل أضيفي إلى ذلك الركوع .

وقيل : المراد : باقنتي : أطيعي ، وباسجدي : صلي ، ومنه { وأدبار السجود } أي : الصلوات ، و : باركعي : أشكري مع الشاكرين ، ومنه : { وخرّ راكعاً وأناب } ويقوي هذا المعنى ، ويرد على من زعم أنه لم تشرع صلاة إلاَّ والركوع فيها مقدّم على السجود ، فإن المشاهد من صلاة اليهود والنصارى خلوّها من الركوع ، ويبعد أن يراد بالركوع الإنحناء الذي يتوصل منه إلى السجود ، ويحتمل أن يكون ترك الركوع مما غيرته اليهود والنصارى من معالم شريعتهم .

و : مع ، في قوله : مع الراكعين ، تقتضي الصحبة والإجتماع في إيقاع الركوع مع من يركع ، فتكون مأمورة بالصلاة في جماعة ، ويحتمل أن يتجوز في : مع ، فتكون للموافقة للفعل فقط دون اجتماع ، أي : إفعلي كفعلهم ، وإن لم توقعي الصلاة معهم ، فإنها كانت تصلي في محرابها .

وجاء : مع الراكعين ، دون الراكعات لأن هذا الجمع أعم إذ يشمل الرجال والنساء على سبيل التغليب ، ولمناسبة أواخر الآيات قبل وبعد ، ولأن الاقتداء بالرجال أفضل إن قلنا إنها مأمورة بصلاة الجماعة .

قال الماتريدي : ولم تكره لها الصلاة في الجماعة ، وإن كانت شابة ، لأنهم كانوا ذوي قرابة منها ورحم ، ولذلك اختصوا في ضمها وإمساكها . انتهى .

/خ44