ولما أخبرها سبحانه وتعالى بما اختصها به أمرها بالشكر فقال : { يا مريم اقنتي } أي أخلصي أفعالك للعبادة { لربك } الذي{[16678]} عودك{[16679]} الإحسان بأن رباك هذه التربية .
ولما قدم الإخلاص الذي هو روح العبادة أتبعه أشرفها{[16680]} فقال : { واسجدي } فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد . قال الحرالي : وكان من اختصاص هذا الاصطفاء العلي - أي الثاني - ما اختصها من الخطاب بالركوع الذي لحقت به بهذه الأمة الراكعة التي أطلعها الله سبحانه وتعالى من سر عظمته التي هي إزاره على ما لم يطلع عليه أحداً{[16681]} ممن سواها{[16682]} في قوله : { واركعي مع الراكعين {[16683]}* } كما قال لبني إسرائيل عند الأمر بالملة المحمدية{ واركعوا مع الراكعين }[ البقرة :43 ] - إلى ما يقع من كمال ما بشرت{[16684]} به حيث{[16685]} يكلم الناس كهلاً في خاتمة اليوم المحمدي ، ويكمل له الوجود{[16686]} الإنساني حيث{[16687]} يتزوج ويولد له - كما {[16688]}ذكر ، و{[16689]}ذلك كله فيما يشعر به {[16690]}ميم التمام في ابتداء{[16691]} الاسم{[16692]} وانتهائه ، وفيما بين التمامين من كريم التربية لها ما يشعر به الراء{[16693]} من تولي الحق لها{[16694]} في تربيتها ورزقها ، وما تشعر به الياء{[16695]} من كمالها الذي اختصت على عالمها - انتهى .
والمراد باتباع قصتها لما مضى التنبيه على انخراطها في سلك{[16696]} ما مضى من أمر{[16697]} آدم ويحيى إفصاحاً ، وإبراهيم في ابنيه{[16698]} إلاحة في خرق العادة فيهم ، وأن تخصيصها بالإنكار{[16699]} أو التعجب والتنازع مع الإقرار بأمرهم ليس من أفعال العقلاء ؛ والظاهر أن المراد بالسجود في هذا المقام ظاهره{[16700]} وبالركوع الصلاة نفسها ، فكأنه قيل : واسجدي مصلية ولتكن صلاتك مع المصلين أي في جماعة ، فإنك في عداد{[16701]} الرجال لما خصصت به من الكمال ، ولم يقل{[16702]} : مع الراكعات ، لأن الاقتداء بالرجال أفضل وأشرف وأكمل ، وإنما قلت هذا لأني تتبعت التوراة فلم أره ذكر فيها{[16703]} الركوع في صلاة إبراهيم عليه السلام ولا من بعده من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا{[16704]} أتباعهم إلا في موضع واحد لا يحسن جعله فيه على ظاهره ، ورأيته ذكر الصلاة فيها على ثلاثة أنحاء{[16705]} : الأول إطلاق لفظها من غير بيان كيفية ، والثاني إطلاق لفظ السجود مجرداً ، و{[16706]}الثالث إطلاقه مقروناً بركوع أو جثو أو خرور على الوجه ونحو ذلك ؛ ففي السفر الأول منها في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ماتت زوجته سارة رضي الله تعالى عنها وسأل بني حاث{[16707]} أهل تلك الأرض أن يعطوه مكاناً يدفنها فيه فأجابوه : فقام إبراهيم فسجد{[16708]} لشعب الأرض بني حاث{[16709]} وكلمهم ؛ وفيه في قصة ربانية قال : وسجد على الأرض وقال : يا رب - فذكر دعاء ثم قال : وصلى إبراهيم بين يدي الرب ؛ وفيه في قصة عبد لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه ذهب إلى بلاد حران{[16710]} يخطب لإسحاق عليه السلام امرأة فظفر{[16711]} بقصده : فجثى{[16712]} الرجل - أي عبد{[16713]} إبراهيم - على الأرض فسجد للرب وقال : تبارك الله رب سيدي إبراهيم ؛ وفيه لما{[16714]} أجابه{[16715]} أهل المرأة : فلما سمع غلام إبراهيم كلامهم سجد على الأرض قدام المرأة ، وفيه عند لقاء عيصو{[16716]} لأخيه{[16717]} يعقوب عليه الصلاة والسلام : فدنت الأمان{[16718]} وأولادهما فسجدوا - أي لعيصو{[16719]} ، ودنت{[16720]} ليا وولدها فسجدوا ؛ فلما كان أخيراً دنت راحيل{[16721]} ويوسف فسجدا ؛ وفيه في قصة يوسف عليه السلام : ودنا إخوته فخروا له سجداً وقالوا له : ها{[16722]} نحن لك عبيد ؛ وفي السفر الثاني عند قدوم موسى عليه الصلاة والسلام إلى بني إسرائيل وإخباره لهم بإرسال الله سبحانه وتعالى له{[16723]} وإظهاره لهم الآيات : فآمن{[16724]} الشعب وسمعوا أن الرب قد ذكر بني إسرائيل{[16725]} وأبصر{[16726]} إلى خضوعهم ، وجثا الشعب وسجدوا للرب ؛ وفيه في خروجهم من مصر : فركع الشعب كله ساجداً لله سبحانه وتعالى ؛ وفيه : فاستعجل موسى فخر على وجهه على الأرض ساجداً ؛ وفيه في تلقي موسى عليه السلام لختنه{[16727]} شعيب عليهما السلام إذ جاءه يهنئه بما أنعم الله عليه بعد غرق فرعون : فخرج موسى يتلقى ختنه وسجد له وقبله وسأل كل منهما عن سلامة صاحبه ؛ وفيه : وقال الله سبحانه وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام عند ما بشره بقتل الكنعانيين وغيرهم من سكان بلاد القدس : لا تسجدوا لآلهتهم ولا تعبدوها ولا تفعلوا كأفعالهم - بل كبهم كباً{[16728]} على وجوههم وكسر أصنامهم - واعبدوا الرب{[16729]} إلهكم ، وفي أوائل السفر{[16730]} الثالث في ذكر ظهور مجد الرب لهم في قبة الزمان التي كانوا يصلون إليها على حياة موسى عليه الصلاة والسلام : وعاين ذلك جميع {[16731]}الشعب وحمدوا{[16732]} الله سبحانه وتعالى وخر{[16733]} الشعب كله على وجهه ، وفي الرابع عندما هم بنو إسرائيل بالرجوع إلى مصر{[16734]} تضجراً{[16735]} من حالهم : فخر موسى وهارون عليهما السلام على وجوههما ساجدين بين يدي جماعة بني إسرائيل كلها ؛ وفيه : وكلم الرب موسى وهارون وقال لهما : تنحيا{[16736]} عن هذه الجماعة لأني مهلكها{[16737]} ، فخرا ساجدين على وجوههما ؛ وفيه عندما تذمروا عليه من أجل العطش : فجاء موسى وهارون من عند الجماعة إلى باب قبة الزمان فخرا{[16738]} على وجوههما فظهر لهما مجد الرب - فذكر قصة ضرب الحجر بالعصا وانفجار الماء ؛ وفيه في قصة بلعام بن باعور{[16739]} حين رأى ملكاً في طريقه فجثا على وجهه ساجداً .
وأما إطلاق لفظ الصلاة فقال في آخر السفر الثاني : وكان إذا خرج موسى عليه الصلاة والسلام إلى قبة الزمان كان جميع الشعب{[16740]} يقفون{[16741]} ويستعد كل امرىء منهم على باب خيمته ، وينظرون إلى موسى عليه الصلاة والسلام من خلفه حتى{[16742]} يدخل إلى القبة ، وإذا دخل موسى القبة كان ينزل عمود السحاب فيقف على باب القبة ، ويكلم موسى وكان جميع الشعب ينظرون إلى عمود السحاب واقفاً على باب القبة{[16743]} وكان يقف جميع الشعب ويصلي كل امرىء منهم على باب خيمته ؛ وفيه : و{[16744]}عمل سطلاً{[16745]} من نحاس فنصبه{[16746]} عند منظر النسوة اللاتي يأتين فيصلين على باب قبة الأمد .
وكل ما فيها من ذكر الصلاة فهكذا يطلق لفظه غير مقرون بما يرشد إلى كيفية{[16747]} ، {[16748]}فلا فائدة{[16749]} في سرده ؛ وهذه القبة أمر الله سبحانه وتعالى موسى عليه الصلاة والسلام باتخاذها مظهر المجد وأن يجعلها كهيئة الغمام الذي ظهر له مجده تعالى فيه في جبل طور سيناء ، وهي من غرائب الدهر في الارتفاع والسعة والهيئة ، ففيها من الخشب والبيوت{[16750]} والتوابيت والأعمدة والجواهر وصفائح الذهب والفضة والنحاس والسرداقات والستور من الحرير والأرجوان والكتان والأطناب وغير ذلك مما{[16751]} يكل عنه الوصف ، وكله بنص{[16752]}من الله سبحانه وتعالى على الطول والعرض والوزن والمحل بحيث إنه كان فيها من{[16753]} صفائح الذهب ومساميره ونحوها تسعة وعشرون قنطاراً و{[16754]}أربعمائة وثلاثون مثقالاً بمثقال القدس ، ومن الفضة مائة قنطار وألف وسبعمائة وسبعون مثقالاً ، ومن النحاس سبعون قنطاراً وألفان وأربعمائة مثقال ؛ وكانت هذه القبة تنصب في مكان من الأرض وينزل بنو لاوى سبط موسى عليه الصلاة والسلام وهارون حولها يخدمونها بين يدي هارون عليه الصلاة والسلام وبنيه ، ومن دنا منها{[16755]} من غيرهم احترق ، وينزل أسباط بني إسرائيل حول بني لاوى ، لكل سبط منزلة{[16756]} لا يتعداها من {[16757]}شرقها وغربها{[16758]} وجنوبها وشمالها ، كل ذلك بأمر من الله سبحانه وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام ؛ وكان السحاب يغشاها بالنهار ، وكانت النار{[16759]} تضيء عليها بالليل وتزهر ، فما دام السحاب مجللاً لها{[16760]} فهم مقيمون ، فإذا ارتفع عنها كان إذناً في سفرهم .
فالذي فهمته من هذه الأماكن وغيرها أن الصلاة عندهم تطلق على الدعاء وعلى فعل هو مجرد السجود ، فإن ذكر معه ما يدل على وضع{[16761]} الوجه على الأرض فذاك حينئذٍ{[16762]} يسمى صلاة ، وإلاّ كان المراد به مطلق الانحناء للتعظيم ، وذلك موافق للغة ، قال في القاموس : سجد : خضع ؛ والخضوع التطأمن ، وأما المكان الذي {[16763]}فيه ذكر{[16764]} الركوع فالظاهر أن معناه : فصلى{[16765]} الشعب كله ساجداً لله سبحانه وتعالى ، لأن الركوع في اللغة يطلق على معان{[16766]} منها الصلاة ، يقال : ركع - أي صلى ، وركع - إذا انحنى كبواً{[16767]} ، والراكع من يكبو{[16768]} على وجهه ، ولا يصح حمل الركوع على ظاهره ، لأنه لا يمكن في حال السجود ، وإن ارتكب فيه تأويل لم يكن بأولى مما ذكرته في الركوع - والله سبحانه وتعالى أعلم ، واحتججت باللغة لأن مترجم النسخة التي وقعت لي في عداد البلغاء ، يعرف ذلك من تأمل مواقع{[16769]} ترجمته لها ، على أني سألت عن صلاة اليهود الآن فأخبرت أنه{[16770]} ليس فيها ركوع ، ثم رأيت البغوي صرح في {[16771]}تفسير قوله{[16772]} سبحانه وتعالى :{ واركعوا مع الراكعين }[ البقرة : 43 ] بأن صلاتهم لا ركوع فيها ، وكذا ابن عطية وغيرهما .
ولما كان المقصود من ذكر هذه الآيات بيان الخوارق التي كانت لآل عمران من زكريا ويحيى وعيسى وأمه{[16773]} عليهم الصلاة والسلام للمجادلة بالحق في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ، وبيان أن ما أشكل{[16774]} عليهم من أمره ليس خارجاً عن إشكال الخوارق في آله ، وكان الرد على كل{[16775]} طائفة بما{[16776]} تعتقد أولى وجب {[16777]}ذكر ذلك من الأناجيل الأربعة الموجودة الآن بين أظهر النصارى : ذكر{[16778]} قصة يحيى عليه الصلاة والسلام في حمله وولادته ونبوته وما اتفق{[16779]} في ذلك من الخوارق من الأناجيل ، وقد مزجت بين ألفاظها فجعلتها{[16780]} شيئاً واحداً على وجه ألم بعضه بأول أمر المسيح عليه الصلاة والسلام ؛ قال مترجمها في أول إنجيل لوقا : كان في أيام هيرودس{[16781]} ملك اليهودية كاهن ، أي حبر إمام{[16782]} ، اسمه زكريا من خدمة آل أبيا{[16783]} ، وامرأته من بنات هارون واسمها اليصابات{[16784]} ، وكانا كلاهما تقيين قدام الله سائرين في جميع وصاياه وحقوق الرب بغير عيب{[16785]} ، ولم يكن لهما ولد لأن اليصابات{[16786]} كانت عاقراً{[16787]} ، وكانا كلاهما قد طعنا في أيامهما ، فبينما هو يكهن في أيام ترتيب خدمته{[16788]} أمام الله كعادة {[16789]}الكهنوت إذ{[16790]} بلغته نوبة{[16791]} وضع البخور فجاء ليبخر ، فدخل إلى هيكل الله وجميع{[16792]} الشعب يصلون خارجاً في وقت البخور ، فتراءى له ملاك الرب قائماً عن يمين مذبح البخور ، فلما رآه زكريا اضطرب ووقع عليه خوف{[16793]} فقال له الملاك : لا تخف يا زكريا ! قد سمعت طلبتك ، وامرأتك اليصابات{[16794]} تلد{[16795]} ابناً ، ويدعي{[16796]} اسمه يوحنا ، ويكون لك فرح وتهلل ، وكثير يفرحون بمولده ، ويكون عظيماً قدام الرب ، لا يشرب خمراً ولا سكراً ، ويمتلىء من روح القدس وهو في بطن أمه ، ويعيد كثيراً من بني إسرائيل إلى إلههم ، وهو يتقدم أمامه{[16797]} بالروح وبقوة ألياء ، ويقبل{[16798]} بقلوب الآباء على الأبناء والعصاة{[16799]} إلى علم الأبرار ، ويُعد للرب شعباً{[16800]} مستقيماً ، فقال زكريا للملاك : كيف أعلم هذا وأنا شيخ وامرأتي قد طعنت في أيامها ؟ فأجاب الملاك{[16801]} وقال : أنا{[16802]} جبريل الواقف قدام الله ، أرسلت أكلمك{[16803]} بهذا وأبشرك ، ومن الآن تكون{[16804]} صامتاً{[16805]} ، لا تستطيع{[16806]} أن تتكلم{[16807]} إلى اليوم الذي يكون هذا .
وكان الشعب منتظرين زكريا متعجبين من إبطائه في الهيكل ، فلما خرج لم يقدر يكلمهم ، فعلموا أنه قد رأى{[16808]} رؤيا في الهيكل ، فكان يشير إليهم ، وأقام صامتاً ، فلما كملت أيام خدمته مضى إلى بيته ، ومن بعد تلك الأيام حملت اليصابات{[16809]} امرأته ، وكتمت حملها خمسة أشهر قائلة : هذا ما صنع بي{[16810]} الرب في الأيام التي نظر إليّ فيها لينزع عني{[16811]} العار{[16812]} بين الناس ، ولما كانت في الشهر السادس أرسل جبريل عليه الصلاة والسلام الملاك من عند الله سبحانه وتعالى إلى مدينة في {[16813]}الجليل{[16814]} تسمى ناصرة إلى عذراء خطيبة لرجل اسمه يوسف من بيت داود ، واسم العذراء مريم ، فلما دخل إليها الملاك قال لها : افرحي يا ممتلئة نعمة الرب معك ! مباركة أنت في النساء ، فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت قائلة{[16815]} ما هذا السلام{[16816]} ؟ فقال {[16817]}لها الملاك{[16818]} : لا تخافي يا مريم ! فقد ظفرت بنعمة من عند الله سبحانه وتعالى وأنت تقبلين حبلاً وتلدين ابناً{[16819]} ، ويدعى اسمه يسوع{[16820]} ، هذا يكون عظيماً ، وابن العذراء يدعى ، ويعطيه الرب الإله{[16821]} كرسي داود أبيه ، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ، ولا يكون لملكه انقضاء{[16822]} ، فقالت مريم للملاك : كيف يكون هذا ولا أعرف رجلاً ؟ فأجاب الملاك{[16823]} وقال لها : روح القدس يحل عليك وقوة العلي تقبلك ، فإنه ليس عند الله سبحانه وتعالى أمر عسير ، فقالت مريم : هانذا{[16824]} عبدة{[16825]} الرب فيكون فيّ كقولك{[16826]} ، وانصرف عنها الملاك ، فقامت{[16827]} مريم في تلك الأيام ومضت مسرعة{[16828]} إلى عين كرم إلى مدينة يهودا ، ودخلت إلى بيت زكريا فسلمت على{[16829]} اليصابات{[16830]} ، فلما سمعت اليصابات{[16831]} صوت سلام مريم تحرك الطفل في بطنها ، فامتلأت اليصابات{[16832]} من روح القدس وصرخت بصوت عظيم وقالت : مباركة أنت في النساء ! ومباركة ثمرة بطنك ! من أين لي هذا أن يأتي{[16833]} أمر ربي إليّ ، منذ وقع صوت سلامك في أذني تحرك الطفل بتهليل في بطني ، فطوبى للتي آمنت أن يتم لها ما قيل{[16834]} من الرب ! فقالت مريم : تعظم{[16835]} نفسي بالرب ويتهلل روحي بالله مخلصي{[16836]} لأنه نظر إلى تواضع عبدته ، وقدوس اسمه ، ورحمته لخائفيه{[16837]} ، صنع{[16838]} القوة{[16839]} بذراعه{[16840]} وفرق المستكبرين{[16841]} بفكر قلوبهم ، أنزل القادرين عن الكراسي ورفع المتواضعين ، أشبع الجياع من الخيرات ، فأقامت مريم عليها السلام عندها نحواً من ثلاثة أشهر{[16842]} وعادت إلى بيتها .
ولما تم زمان اليصابات{[16843]} لتلد ولدت ابناً ، فسمع جيرانها وأقاربها أن الرب قد أعظم{[16844]} رحمته معها ، ففرحوا لها ، فلما كان في اليوم الثامن جاؤوا ليختنوا{[16845]} الصبي ودعوه باسم أبيه{[16846]} زكريا فأجاب أمه قائلة : لا ولكن ادعوه يوحنا ، فقالوا لها : ليس أحد{[16847]} في جنسك يدعى{[16848]} بهذا الاسم ، فأشاروا إلى أبيه : ما تريد أن تسميه{[16849]} ؟ فاستدعى لوحاً وكتب قائلاً{[16850]} : يوحنا ، فتعجب جميعهم ، وانفتح فوه قائلاً{[16851]} من ساعته ولسانه ، وتكلم وبارك ، ووقع خوف عظيم على جميع جيرانهم ، وتُحدث بهذا الكلام في جميع تخوم{[16852]} يهودا ، وفكر جميع السامعين في قلوبهم قائلين : ماذا ترى يكون من هذا الصبي ! ويد الرب كانت{[16853]} معه ، فامتلأ زكريا أبوه من روح القدس وبدأ قائلاً : {[16854]}تبارك الرب{[16855]} إله{[16856]} إسرائيل الذي اطلع{[16857]} وصنع نجاة{[16858]} لشعبه وأقام لنا{[16859]} قرن خلاص{[16860]} من بيت داود فتاه{[16861]} كالذي تكلم على أفواه أنبيائه القديسين من الأبد ، خلاص من أعدائنا ومن يدي كل مبغضاً ، {[16862]}صنع رحمة{[16863]} مع آبائنا ، وذكر عهدة{[16864]} القديس : القسم{[16865]} الذي {[16866]}عهد به{[16867]} لإبراهيم أبينا ليعطينا{[16868]} الخلاص بلا خوف من يدي أعدائنا لنخدمه بالبر والعدل قدامه في كل أيام حياتنا ، وأنت أيها الصبي نبي العلاء تدعى ، وتنطلق{[16869]} قدام وجه الرب لتصلح طريقه ليعطي علم الخلاص لشعبه لمغفرة{[16870]} الخطايا بتحنن{[16871]} ورحمة ، إلهنا الذي افتقدنا{[16872]} شرق{[16873]} من العلو ليضيء للجالس في الظلمة وظلال الموت{[16874]} لتستقيم سبل أرجلنا للسلامة .
فأما الصبي فكان يشب ويتقوى{[16875]} بالروح وأقام في البرية إلى يوم ظهوره لإسرائيل ، وفي سنة خمس عشرة{[16876]} من ولاية طيباريوس قيصر{[16877]} وفيلاطوس{[16878]} النبطي على اليهودية وهيرودس{[16879]} رئيس الجليل ، وفيلفوس{[16880]} أخوه على ربع الصورية وكورة أبطرحيون{[16881]} ، وأوساسوس{[16882]} رئيس على ربع الإيليا{[16883]} ، وحنان وقيافا{[16884]} رؤساء الكهنة ، حلت كلمة الله سبحانه وتعالى على يوحنا بن زكريا في البرية فجاء إلى كل البلاد المحيطة بالأردن{[16885]} يكرز{[16886]} بمعمودية{[16887]} التوبة لمغفرة الخطايا - كا هو مكتوب في سفر كلام أشعيا{[16888]} النبي - قائلاً : صوت صارخ في البرية : أعدوا{[16889]} طريق الرب فاصنعوا{[16890]} سبله مستقيمة ، جميع الأودية تمتلىء و{[16891]}جميع الجبال والآكام تتضع ، ويصير الوعر سهلاً والخشنة{[16892]} إلى طريق سهلة ، ويعاين كل ذي جسد خلاص الله سبحانه وتعالى ؛ وفي إنجيل متّى : وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان{[16893]} {[16894]}يكرز في برية{[16895]} يهودا ويقول : توبوا فقد{[16896]} اقترب{[16897]} ملكوت{[16898]} السماوات - هذا هو الذي في أشعيا{[16899]} النبي : إذ يقول صوت صارخ ، وقال مرقس{[16900]} : مكتوب في أشعيا{[16901]} النبي : هوذا أنا مرسل ملاكي أمام وجهك ليسهل طريقك قدامك ، ثم استنعى{[16902]} صوت صارخ في البرية : أعدوا{[16903]} طريق الرب وسهلوا سبله{[16904]} ، وكان لباس يوحنا وبر الإبل ، ومنطقته جلداً على حقويه ، وكان طعامه الجراد وعسل البر ، حينئذٍ خرجوا إليه من يروشليم ، وكل اليهودية وجميع كور الأردن ، وكان يعمدهم{[16905]} في نهر الأردن معترفين بخطاياهم ؛ وفي مرقس : كان يوحنا يعمد{[16906]} في القفر{[16907]} {[16908]}ويكرز بمعمودية{[16909]} التوبة لغفران الخطايا ، وكان يخرج إليه جميع كور يهودا وكل يروشليم فيعمدهم{[16910]} في نهر الأردن معترفين بخطاياهم{[16911]} فقال للجمع{[16912]} الذين يأتون إليه ويعتمدون منه : يا ثمرة الأفاعي ! وفي متى : فلما رأى كثيراً{[16913]} من الفريسيين{[16914]} والزنادقة يأتون إلى معموديته قال لهم : يا أولاد الأفاعي - ثم اتفق هو ولوقا{[16915]} - من دلكم على الهرب من الغضب الآتي ؟ اعملوا الآن ثماراً تليق{[16916]} بالتوبة{[16917]} ولا تقولوا في نفوسكم : إن أبانا إبراهيم ، أقول لكم : إن الله سبحانه وتعالى قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم{[16918]} ها هوذا{[16919]} الفأس موضوع على أصول الشجر ، وكل شجرة لا تثمر ثمرة طيبة تقطع وتلقى في النار ، فسأله الجموع ، ماذا نصنع ؟ أجاب وقال لهم{[16920]} : من له ثوبان فليعط من ليس له ، ومن له طعام فليصنع مثل ذلك ، فأتى{[16921]} العشارون ليعتمدوا{[16922]} منه فقالوا : ماذا نصنع يا معلم ؟ فقال لهم : لا تفعلوا أكثر مما أمرتم به ، وسأله أيضاً الجند قائلين : ماذا نصنع نحن{[16923]} أيضاً ؟ فقال لهم : لا تعيبوا{[16924]} أحداً ولا تظلموا أحداً ، واكتفوا بأرزاقكم .
وإن جميع الشعب فكروا في قلوبهم{[16925]} وظنوا أن يوحنا{[16926]} المسيح ، أجابهم يوحنا أجمعين وقال لهم : أما أنا فأعمدكم بالماء للتوبة ، وسيأتي الذي هو أقوى من الذي لا أستحق{[16927]} أن أحل سيور حذائه ؛ وقال متى : لا أستحق{[16928]} أن أحمل حذاءه{[16929]} ؛ وقال مرقس{[16930]} : {[16931]}وكان{[16932]} يبشر قائلاً : الذي{[16933]} يأتي بعدي أقوى مني ، لست أهلاً - {[16934]}أعني لحل{[16935]} سيور حذائه ، أنا أعمدكم بالماء وهو يعمدكم بروح القدس والنار ، الذي بيده المرفش{[16936]} ، ينقي{[16937]} به الذرة{[16938]} ، ويجمع القمح إلى أهرائه{[16939]} ، ويحرق التبن بنار لا تطفأ{[16940]} ، ولا يخبز{[16941]} الشعب ، ويبشرهم بأشياء كثيرة ؛ وفي إنجيل يوحنا : كان إنسان{[16942]} أرسل من الله ، اسمه يوحنا ، جاء للشهادة للنور الذي هو نور الحق الذي{[16943]} يضيء لكل إنسان ، الآتي إلى العالم{[16944]} ، إلى خاصته ، {[16945]}جاء و{[16946]}خاصته لم تقبله{[16947]} ، فأما الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً ، والكلمة صارت{[16948]} جسداً ، وحل فينا ، ورأينا مجده مجداً مثل الوحيد الممتلىء نعمة ، وحقاً يوحنا شهد{[16949]} من أجله وصرخ وقال : هذا الذي قلت إنه يأتي بعدي كان قبلي{[16950]} ، لأنه أقدم مني ، ومن امتلائه نحن بأجمعنا أخذنا نعمة من أجل أن الناموس بموسى أعطى ، والنعمة والحق {[16951]}أوحيا بيسوع{[16952]} المسيح{[16953]} الذي لم يره أحد قط{[16954]} ، الابن الوحيد .
هذه شهادة يوحنا إذا أرسل إليه اليهود من يروشليم كهنة ولاويين{[16955]} - أي ناساً من أولاد لاوى{[16956]} - ليسألوه : من أنت ، فاعترف وأقر أني لست المسيح ، فسألوه : فمن ألياء ؟ فقال : لست أنا النبي ، قال : كلا ! فقالوا له : فمن أنت لنرد الجواب إلى الذين أرسلونا ، ماذا تقول عن نفسك ؟ قال : أنا الصوت الصارخ في البرية : سهلوا طريق الرب - كما قال أشعيا{[16957]} النبي . فأما أولئك الذين أرسلوا فكانوا من الفريسيين فقالوا : ما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا ألياء ولا النبي ؟ أجابهم يوحنا : أنا أعمدكم بالماء ، وفي وسطكم قائم ذاك{[16958]} الذي لستم{[16959]} تعرفونه ، الذي يأتي بعدي و{[16960]}هو أقوى مني ، وهو قبلى{[16961]} كان ، ذاك الذي لست مستحقاً أن أحل سيور حذائه . هذا كان في بيت عنيا في عبر{[16962]} الأردن حيث كان {[16963]}يوحنا يعمد . قال لوقا : فأما هيرودس {[16964]}رئيس الربع{[16965]} فكان يوحنا يبكته من أجل هيروديا امرأة أخيه فيلفوس{[16966]} ولأجل الشر الذي كان هيرودس{[16967]} يفعله ، وزاد على ذلك أنه طرح يوحنا في السجن ؛ وقال مرقس وقد ذكر آيات أظهرها المسيح : وسمع هيرودس الملك وقال : إن{[16968]} يوحنا المعمدان{[16969]} قام من الأموات ، ومن أجل تلك القوات{[16970]} يعمل ، وقال آخرون : إنه ألياء ، وآخرون : إنه نبي كواحد من الأنبياء ، فلما سمع هيرودس {[16971]}قال : أنا قطعت رأس يوحنا ؛ وفي متى : وفي ذلك الزمان سمع هيرودس{[16972]} {[16973]}رئيس الربع{[16974]} خبر يسوع{[16975]} فقال لغلمانه : هذا هو{[16976]} يوحنا المعمدان{[16977]} ، وهو قام من الأموات ، من أجل هذه القوات{[16978]} يعمل ، وكان هيرودس قد أمسك يوحنا وشده وجعله في السجن ، وقال مرقس{[16979]} : وحبسه من أجل هيروديا امرأة{[16980]} فيلفوس{[16981]} ، لأنه كان قد تزوجها وقال له يوحنا : ما يحل لك أن تأخذ امرأة أخيك ، وكانت هيروديا حنقة{[16982]} عليه تريد قتله ، ولم تقتله{[16983]} لأن هيرودس كان يخاف من يوحنا ، لأنه يعلم أنه رجل صديق قديس ويحفظه ويسمع منه كثيراً بشهوة{[16984]} ، وكان في يوم من الزمان وافى{[16985]} هيرودس مولود ، فصنع وليمة لعظمائه ورؤسائه ومقدمي الجليل ، ودخلت ابنة هيروديا فرقصت ، فوافق ذلك هيرودس وجلساءه ، فقال الملك للصبية{[16986]} : سلي ما أردت فأعطيك ! وحلف لها أني{[16987]} أعطيك ما سألت ولو كان نصف ملكي ، فخرجت {[16988]}وقالت{[16989]} لأمها : أي شيء أسأله ؟ فقالت{[16990]} : رأس يوحنا المعمدان{[16991]} ، فرجعت{[16992]} للوقت بسرعة إلى الملك وسألت رأس يوحنا على طبق ، فحزن الملك ، ومن أجل اليمين والمنكبين{[16993]} لم ير منعها ، فأنفذ{[16994]} سيافاً من ساعته{[16995]} وأمر أن يؤتى برأسه في طبق ، فمضى وقطع رأسه{[16996]} في الحبس{[16997]} وجاء به في طبق وأعطاه للصبية ، فأخذته الصبية ودفعته لأمها ؛ وسمع تلاميذه فجاؤوا ورفعوا جثته وجعلوها في قبر ؛ قال متى : وجاء تلاميذه فأخذوا جسده ودفنوه ، وأتوا فأخبروا يسوع{[16998]} ، فلما سمع يسوع مضى من هناك في سفينة إلى البرية مفرداً ، فسمع الجمع فتبعوه ماشين{[16999]} من المدن{[17000]} ، فلما خرج أبصر جمعاً كثيراً فتحنن عليهم وأبرأ{[17001]} أعلاّءهم ومرضاهم{[17002]} انتهى .