اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّـٰكِعِينَ} (43)

قوله : { يَمَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } تقدم الكلام في القنوت عند قوله تعالى : { وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ } [ البقرة : 238 ] . وأنه طول القيام .

فإن قيل : لِمَ قدم ذكر السجود على الركوع ؟

فالجواب من وجوهٍ :

أحدها : أن الواو تفيد التشريك لا الترتيبَ .

الثاني : أن غاية قُرْب العبد من ربه إذا كان ساجداً ، فلما اختص السجود بهذه الفضيلة قُدِّم على بَاقِي الطَّاعَاتِ .

الثالث : قال ابنُ الأنباري : " قوله تعالى : { اقْنُتِي لِرَبِّكِ } أمر بالعبادة على العموم ، وقوله بَعْدَ ذلك : { وَاسْجُدِي وَارْكَعِي } يعني استعملي السجود في وقته اللائق به ، وليس المراد أن تجمع بينهم ، ثم تقدم السجود على الركوعِ " .

الرابع : أن الصلاة تسمى سجوداً - كما قيل في قوله : { وَأَدْبَارَ السُّجُودِ }

[ ق : 40 ] وفي الحديث : " إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين " .

وأيضاً قال : فالسجود أفضل أجزاء الصلاة ، وتسمية الشيء باسم أشرف أجزائه مجاز مشهور .

وإذا ثبت ذلك فقوله : { يَمَرْيَمُ اقْنُتِي } معناه : قومي ، وقوله : { وَاسْجُدِي } أمر ظاهر بالصلاة حال الانفراد ، وقوله : { وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } أمر بالخضوع ، والخشوع بالقلب .

الخامس : لعلّ السجود في ذلك الدين كان متقدّماً على الركوع . فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : واركعي مع الراكعات ؟

فالجواب : لأن الاقتداء بالرجل - حال الاختفاء من الرجال - أفضل من الاقتداء بالنساء .

وقيل : لأنه أعم وأشمل .

قال المفسّرون : لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات - شفاهاً - لمريم قامت في الصّلاة ، حتى تورمت قدماها ، وسالت دماً وقَيْحاً .

وقوله : { وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } قيل : معناه : افعلي كفعلهم .

وقيل : المراد به الصلاة الجامعة .