الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّـٰكِعِينَ} (43)

و { اقنتي } معناه : اعبدي ، وأَطِيعِي ، قاله الحَسَن وغيره ، ويحتمل أنْ يكون معناه : أطِيلِي القيامَ في الصَّلاة ، وهذا هو قولُ الجمهورِ ، وهو المناسبُ في المعنى لقوله : { واسجدي } وروى مجاهدٌ ، أنها لما خوطِبَتْ بهذا ، قامَتْ حتى وَرِمَتْ قَدَماها ، وروى الأوزاعيُّ : حتى سَالَ الدَّمُ والقَيْحُ من قَدَمَيْهَا ، وروي أنَّ الطَّيْرَ كَانَتْ ، تنزلُ على رَأْسِهَا تظُنُّها جَمَاداً ، واختلف المتأوِّلون ، لِمَ قُدِّمَ السُّجودُ على الركوع ؟ فقال قوم : كان ذلك في شرِعِهِمْ ، والقول عنْدي في ذلك : أنَّ مريم أُمِرَتْ بفَصْلَيْنِ ومَعْلَمَيْنِ مِن مَعَالِمِ الصلاة ، وهما طُولُ القيامِ ، والسُّجُودُ ، وخُصَّا بالذكْرِ لشرفهما ، وهذانِ يَخْتَصَّان بصلاتها مفْرَدةً ، وإِلاَّ فمن يصلِّي وراء إِمامٍ ، فليس يقال له : أَطِلْ قِيَامَكَ ، ثم أمرتْ بعدُ بالصَّلاة في الجماعةِ ، فقيل لها : { واركعي مَعَ الراكعين } ، وقُصِدَ هنا مَعْلَمٌ آخر من مَعَالِمِ الصلاةِ لئلاَّ يتكرَّر اللفظ ، ولم يرد في الآية الركوع والسجود الذي هو منتظمٌ في ركْعَةٍ واحدةٍ ، واللَّه أعلم .

وقال ( ص ) : قوله : { واركعي } ، الواو : لا ترتّب ، فلا يسأل لِمَ قُدِّم السجود ، إِلا من جهة علْمِ البيانِ ، وجوابه أنه قدّم ، لأنه أقربُ ما يكونُ العَبْدُ فيه مِنْ ربِّه ، فكان أشْرَفَ ، وقيل : كان مقدَّماً في شرعهم . اه .