( علمه شديد القوى . ذو مرة فاستوى . وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى . ما كذب الفؤاد ما رأى . أفتمارونه على ما يرى ? ) . .
والشديد القوي ذو المرة [ أي القوة ] ، هو جبريل - عليه السلام - وهو الذي علم صاحبكم ما بلغه إليكم .
وهذا هو الطريق ، وهذه هي الرحلة ، مشهودة بدقائقها : استوى وهو بالأفق الأعلى . حيث رآه محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وكان ذلك في مبدأ الوحي . حين رآه على صورته التي خلقه الله عليها ، يسد الأفق بخلقه الهائل .
وقال هاهنا : { ذُو مِرَّةٍ } أي : ذو قوة . قاله مجاهد ، والحسن ، وابن زيد . وقال ابن عباس : ذو منظر حسن .
وقال قتادة : ذو خَلْق طويل حسن .
ولا منافاة بين القولين ؛ فإنه ، عليه السلام ، ذو منظر حسن ، وقوة شديدة . وقد ورد في الحديث الصحيح من رواية أبي هريرة وابن عمرو {[27565]} أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحل الصدقة لغنيٍّ ، ولا لِذِي مرّة سَوِيّ " {[27566]} .
وقوله : { فَاسْتَوَى } يعني : جبريل ، عليه السلام . قاله مجاهد والحسن وقتادة ، والربيع بن أنس .
وقوله : ذُو مِرّةٍ فاسْتَوَى اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ذُو مِرّةٍ فقال بعضهم : معناه : ذو خَلْق حَسَن . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ذُو مِرّةٍ قال : ذو منظر حسن .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ذُو مِرّةٍ فاسْتَوَى : ذو خَلْق طويل حسن .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ذو قوّة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثني الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ذُو مِرّةٍ فاسْتَوَى قال : ذو قوّة جبريل .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ذُو مِرّةٍ قال : ذو قوّة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ذُو مِرّةٍ فاسْتَوَى قال : ذو قوّة ، المرّة : القوّة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا حكام عن أبي جعفر عن الربيع ذُو مِرّةٍ فاسْتَوَى جبريل عليه السلام .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عنى بالمِرّة : صحة الجسم وسلامته من الاَفات والعاهات ، والجسم إذا كان كذلك من الإنسان ، كان قويا ، وإنما قلنا إن ذلك كذلك ، لأن المِرة واحدة المِرر ، وإنما أُريد به : ذو مِرّة سوية . وإذا كانت المِرّة صحيحة ، كان الإنسان صحيحا . ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لا تَحِلّ الصّدَقَةُ لِغَنِيّ ، وَلا لِذِي مِرّةٍ سِوِيّ » .
وقوله : فاسْتَوَى وَهُوَ بالأُفُقِ الأعْلَى يقول : فاستوى هذا الشديد القويّ وصاحبكم محمد بالأفق الأعلى ، وذلك لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم استوى هو وجبريل عليهما السلام بمطلع الشمس الأعلى ، وهو الأفق الأعلى ، وعطف بقوله : «وهو » على ما في قوله : «فاستوى » من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم ، والأكثر من كلام العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أن يظهروا كناية المعطوف عليه ، فيقولوا : استوى هو وفلان ، وقلّما يقولون استوى وفلان وذكر الفرّاء عن بعض العرب أنه أنشده :
ألَمْ تَرَ أنّ النّبْعَ يَصْلُبُ عُودُهُ *** وَلا يَسْتَوِي وَالخِرْوعُ المُتَقَصّفُ
فردّ الخروع على «ما » في يستوي من ذكر النبع ، ومنه قوله الله : أئِذَا كُنّا تُرَابا وآباؤُنا فعطف بالاَباء على المكنيّ في كنا من غير إظهار نحن ، فكذلك قوله : فاسْتَوَى وَهُوَ ، وقد قيل : إن المستوي : هو جبريل ، فإن كان ذلك كذلك ، فلا مُؤْنة في ذلك ، لأن قوله : وهو من ذكر اسم جبريل ، وكأن قائل ذلك وجّه معنى قوله : فاسْتَوَى : أي ارتفع واعتدل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ذُو مِرّةٍ فاسْتَوَى جبريل عليه السلام.
والمِرَّة ، بكسر الميم وتشديد الراء المفتوحة ، تطلق على قوة الذات وتطلق على متانة العقل وأصالته ، وهو المراد هنا لأنه قد تقدم قبله وصفه بشديد القوى ، وتخصيص جبريل بهذا الوصف يشعر بأنه الملك الذي ينزل بفيوضات الحكمة على الرسل والأنبياء ، ولذلك لما ناول الملَك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ الإِسراء كأس لَبن وكأسَ خمر ، فاختار اللبن قَال له جبريل : اخترتَ الفِطرة ولو أخذتَ الخمر غَوت أمتك .
وقوله : { فاستوى } مفرع على ما تقدم من قوله : { علمه شديد القوى } .
والفاء لتفصيل { علمه } ، والمستوي هو جبريل . ومعنى استوائه : قيامه بعزيمة لتلقي رسالة الله ، كما يقال : استقل قائماً ، ومثل : بين يدي فلان ، فاستواء جبريل هو مبدأ التهيُّؤ لقبول الرسالة من عند الله ، ولذلك قيد هذا الاستواء بجملة الحال في قوله : { وهو بالأفق الأعلى } . والضمير لجبريل لا محالة ، أي قبل أن ينزل إلى العالم الأرضي .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.