محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{ذُو مِرَّةٖ فَٱسۡتَوَىٰ} (6)

{ ذو مرة } بكسر الميم . أي متانة وإحكام في علمه ، لا يمكن تغيّره ونسيانه . والعرب تقول لكل قويّ العقل والرأي ( ذو مرة ) من ( أمررت الحبل ) إذا أحكمت فتله { فاستوى وهو بالأفق الأعلى } قال الزمخشريّ : فاستقام على صورة نفسه الحقيقية ، دون الصورة التي كان يتمثل بها ، كلما هبط بالوحي . وكان ينزل في صورة دحية .

فالفاء – كما قال شراحه- سببية ، لأن تشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق . أو عاطفة على { علَّمه } أي علمه على غير صورته الأصلية ، ثم استوى على صورته الأصلية .

وقيل : { استوى } بمعنى ( استولى ) بقوته على ما أمر بمباشرته من الأمور – حكاه القاضي- .

قال الشهاب : الأفق الناحية ، وجمعه آفاق . والمراد الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر ، لا مصطلح أهل الهيأة . انتهى .

وقال ابن كثير : وقوله تعالى : { فاستوى } يعني جبريل عليه السلام – قاله الحسن ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس { وهو بالأفق الأعلى } يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى . قاله عكرمة وغير واحد .

ثم قال ابن كثير : وقد قال ابن جرير{[6811]} ههنا قولا لم أره لغيره ، ولا حكاه هو عن أحد . وحاصله أنه ذهب إلى أن المعنى فاستوى ، أي هذا الشديد القوى وصاحبكم محمد صلى الله عليه وسلم ، بالأفق الأعلى ، أي استويا جميعا بالأفق الأعلى ، وذلك ليلة الإسراء – كذا قال – ولم يوافقه أحد على ذلك . ثم شرع يوجه ما قاله من حيث العربية فقال : وهو كقوله :{[6812]} { أءذا كنا ترابا / وآباؤنا } فعطف بالآباء على المكنّى في { كنّا } من غير إظهار ( نحن ) فكذلك قوله : { فاستوى وهو } . قال : وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده :

ألم تر أن النبع يصلب عوده *** ولا يستوي والخِرْوَعُ المُتَقَصِّفُ

وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه ، ولكن لا يساعده المعنى على ذلك ، فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء ، بل قبلها ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض ، فهبط عليه جبريل عليه السلام ، وتدلى إليه ، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح . ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، يعني ليلة الإسراء ، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة ، بعدما جاءه جبريل عليه السلام أول مرة ، فأوحى الله إليه صدر سورة { اقرأ } ثم فترة الوحي فترة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم فيها مرارا ليتردى من رؤوس الجبال ، فكلما همّ بذلك ناداه جبريل من الهواء : يا محمد ! أنت رسول الله حقا ، وأنا جبريل فيسكن لذلك جأشه ، وتقر عينه . وكلما طال عليه الأمر ، عاد لمثلها حتى تبدى له جبريل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح في صورته التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح ، قد سدّ عظم خلقه الأفق ، فاقترب منه ، وأوحى إليه عن الله عز وجل ما أمره به ، فعرف عند ذلك عظمة الملك الذي جاءه بالرسالة ، وجلالة قدره ، وعلو مكانته عند خالقه الذي بعثه إليه . انتهى .

أقول : قد وافق القاشانيّ ابن جرير في تأويل الآية ، وعبارته :

{ فاستوى } فاستقام على صورته الذاتية ، والنبيّ بالأفق الأعلى ، لأنه حين كَوْن النبيّ بالأفق المبين لا ينزل على صورته ، لاستحالة تشكل الروح المجرد في مقام القلب ، إلا بصورة تناسب الصور المتمثلة في مقامه ، ولهذا كان يتمثل بصورة دحية الكلبي ، وكان من أحسن الناس صورة ، وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . إذ لو لم يتمثل بصورة يمكن انطباعها في الصدر ، لم يفهم القلب كلامه ، ولم ير صورته . وأما صورته الحقيقية التي جبل عليها فلم تظهر للنبي صلى الله عليه وسلم إلا مرتين : عند عروجه إلى الحضرة الأحدية ووصوله بمقام الروح في الترقي ، وعند نزوله عنها ورجوعه إلى المقام الأول عند سدرة المنتهى في التدلي . انتهى .

/ وكذا المهايميّ وافقهما وعبارته :

{ فاستوى وهو } أي صاحبكم عند استواء نفسه ، صار { بالأفق الأعلى } الروحانيّ . انتهى .

وكذا الفخر الرازي وعبارته :

المشهور أن { هو } ضمير جبريل ، وتقديره : استوى كما خلقه الله بالأفق الشرقيّ ، فسدّ المشرق لعظمته . والظاهر أن المراد محمد صلى الله عليه وسلم . معناه : استوى بمكان ، وهو بالمكان العالي رتبة ومنزلة في رفعة القدر ، لا حقيقة في الحصول في المكان .

فإن قيل : كيف يجوز هذا والله تعالى يقول{[6813]} { ولقد رءاه بالأفق المبين } إشارة إلى أنه رأى جبريل بالأفق المبين ؟ نقول : وفي ذلك الموضع أيضا نقول كما قلنا ههنا ؛ أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل وهو بالأفق المبين . يقول القائل : رأيت الهلال ، فيقال له : أين رأيته ؟ فيقول : فوق السطح . أي : إن الرائي فوق السطح ، لا المرئيّ . و { المبين } هو الفارق ، من { أبان } أي فرق . أي هو بالأفق الفارق بين درجة الإنسان ، ومنزلة الملك ، فإنه صلى الله عليه وسلم انتهى ، وبلغ الغاية ، وصار نبيّا ، كما صار بعض الأنبيّاء نبيا يأتيه الوحي في نومه ، وعلى هيأته ، وهو واصل إلى الأفق الأعلى ، والأفق الفارق بين المنزلتين .

فإن قيل : ما بعده يدل على خلاف ما تذهب إليه ، فإن قوله { ثم دنا فتدلى } إلى غير ذلك ، وقوله تعالى : { ولقد رءاه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى } كل ذلك يدل على خلاف ما ذكرته ؟ نقول : سنبيّن موافقته لما ذكرنا إن شاء الله تعالى في مواضعه ، عند ذكر تفسيره .

فإن قيل : الأحاديث تدل على خلاف ما ذكرته ، حيث ورد في الأخبار أن جبريل عليه السلام رأى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على صورته ، فسدّ المشرق . فنقول : نحن ما قلنا إنه لم يكن / وليس في الحديث أن الله تعالى أراد بهذه الآية تلك الحكاية ، حتى يلزم مخالفة الحديث ، وإنما نقول إن جبريل أرى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه مرتين ، وبسط جناحيه ، وقد ستر الجانب الشرقي وسدّه ، ولكن الآية لم ترد لبيان ذلك . انتهى كلام الرازيّ .

وفي القرطبي حكاية أقوال أخر ، وعبارته :

{ فاستوى } أي ارتفع جبريل ، وعلا إلى مكانه في السماء ، بعد أن علّم محمدا صلى الله عليه وسلم – قاله سعيد بن المسيّب وابن جبير- .

وقيل : { فاستوى } أي قام وظهر في صورته التي خُلِقَ عليها .

وقول ثالث : أن معنى { فاستوى } أي استوى القرآن في صدره . وفيه على هذا وجهان :

أحدهما – في صدر جبريل حين نزل به عليه السلام .

الثاني - في صدر محمد صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه .

وقول رابع : أن معنى { فاستوى } فاعتدل . يعني محمدا في قوّته ، والثاني في رسالته – ذكره الماورديّ- .

وعلى الأول يكون تمام الكلام { ذو مرة } ، وعلى الثاني { شديد القوى } .

وقول خامس : أن معناه فارتفع ، وفيه على هذا وجان :

أحدهما – أنه جبريل ارتفع إلى مكانه ، وعلى ما ذكرناه آنفا .

الثاني – أنه النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع بالمعراج .

وقول سادس : { فاستوى } يعني الله عز وجل . أي استوى على العرش – على قول الحسين- انتهى .

هذا ما وقفنا عليه الآن من الأقوال في الآية ، وسيأتي في أول التنبيهات إيضاح ما اخترناه منها ، وإنما أخّرنا ذكره لارتباطه بالآيات الآتية .


[6811]:انظر الصفحة رقم 43 من الجزء السابع والعشرين(طبعة الحلبي الثانية(
[6812]:[27 /النمل/ 67].
[6813]:[أ81/ التكوير/ 23].