( وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده ) . .
وكل ما عدا الله ميت ، لأنه صائر إلى موت ، فلا يبقى إلا الحي الذي لا يموت . والتوكل على ميت ، تفارقه الحياة يوما طال عمره أم قصر ، هو ارتكان إلى ركن ينهار ، وإلى ظل يزول . إنما التوكل على الحي الدائم الذي لا يزول . . ( وسبح بحمده )ولا يحمد إلا الله المنعم الوهاب . . ودع أمر الكفار الذين لا ينفعهم التبشير والإنذار إلى الحي الذي لا يموت فهو يعلم ذنوبهم ولا يخفى عليه منها شيء : وكفى به بذنوب عباده خبيرا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَوَكّلْ عَلَى الْحَيّ الّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَىَ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً } .
يقول تعالى ذكره : وتوكل يا محمد على الذي له الحياة الدائمة التي لا موت معها . فثق به في أمر ربك ، وفوّض إليه ، واستسلم له ، واصبر على ما نابك فيه . قوله : وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ يقول : واعبده شكرا منك له على ما أنعم به عليك . قوله : وكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عبادِهِ خَبِيرا يقول : وحسبك بالحي الذي لا يموت خابرا بذنوب خلقه ، فإنه لا يخفى عليه شيء منها ، وهو محصٍ جميعها عليهم حتى يجازيهم بها يوم القيامة .
{ وتوكل على الحي الذي لا يموت } في استكفاء شرورهم والإغناء عن أجورهم ، فإنه الحقيق بأن يتوكل عليه دون الأحياء الذين يموتون فإنهم إذا ماتوا ضاع من توكل عليهم . { وسبح بحمده } ونزهه عن صفات النقصان مثنيا عليه بأوصاف الكمال طالبا لمزيد الانعام بالشكر على سوابغه . { وكفى به بذنوب عباده } ما ظهر منها وما بطن . { خبيرا } مطلعا فلا عليك أن آمنوا وكفروا .
المعنى قل لهم يا محمد هذه المقالة التي لا ظن يتطرق إليك معها ولا تهتم بهم وبشّر وأنذر { وتوكل علىٍ } المتكفل بنصرك وعضدك في كل أمرك ، ثم وصف تعالى نفسه الصفة التي تقتضي التوكل في قوله { الحي الذي لا يموت } إذ هذا المعنى يختص بالله تعالى دون كل ما لدينا مما يقع عليه اسم حي ، وقوله { وسبح بحمده } قل سبحان الله وبحمده أي تنزيهه واجب وبحمده أقول .
قال القاضي أبو محمد : وقال رسول صلى الله عليه وسلم «من قال في كل يوم سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر »{[8857]} ، فهذا معنى { وسبح بحمده } وهي إحدى الكلمتين الخفيفتين على اللسان ، الحديث ، وقوله { وكفى به } توعد وإزالة كل عن محمد صلى الله عليه وسلم في همه بهم{[8858]} .
عطف على جملة { قل ما أسألكم عليه من أجر } [ الفرقان : 57 ] أي قل لهم ذلك وتوكل على الله في دعوتك إلى الدين فهو الذي يجازيك على ذلك ويجازيهم .
والتوكل : الاعتماد وإسلام الأمور إلى المتوكل عليه وهو الوكيل ، أي المتولّي مهمّات غيره ، وقد تقدم في قوله تعالى : { فإذا عزمتَ فتوكَّل على الله } في آل عمران ( 159 ) .
و { الحي الذي لا يموت } هو الله تعالى . وعدل عن اسم الجلالة إلى هذين الوصفين لما يؤذن به من تعليل الأمر بالتوكل عليه لأنه الدائم فيفيد ذلك معنى حصْر التوكل في الكون عليه ، فالتعريف في { الحي } للكامل ، أي الكامل حياته لأنها واجبة باقية مستمرة وحياة غيره معرضة للزوال بالموت ومعرضة لاختلال أثرها بالذهول كالنوم ونحوه فإنه من جنس الموت ، فالتوكل على غيره معرض للاختلال وللانخرام . وفي ذكر الوصفين تعريض بالمشركين إذ ناطوا آمالهم بالأصنام وهي أموات غير أحياء .
وفي الآية إشارة إلى أن المرء الكامل لا يثق إلا بالله لأن التوكل على الأحياء المعرضين للموت وإن كان قد يفيد أحياناً لكنه لا يدوم .
وأما أمره بالتسبيح فهو تنزيه الله عما لا يليق به وأول ذلك الشركة في الإلهية ، أي إذا أهمّك أمر إعراض المشركين عن دعوة الإسلام فعليك نفسك فنزه الله .
والباء في { بحمده } للمصاحبة ، أي سبحه تسبيحاً مصاحباً للثناء عليه بما هو أهله . فقد جمع له في هذا الأمر التخلية والتحلية مقدِّماً التخلية لأن شأن الإصلاح أن يبدأ بإزالة النقص .
وأمْر النبي صلى الله عليه وسلم يشمل الأمة ما لم يكن دليل على الخصوصية .
وجملة { وكفى به بذنوب عباده خبيراً } اعتراض في آخر الكلام ، فيفيد معنى التذييل لما فيه من الدلالة على عموم علمه تعالى بذنوب الخلق ، ومن ذلك أحوال المشركين الذين هم غرض الكلام . ففي ( ذنوب عباده ) عُمومان : عمومُ ذنوبهم كلّها لإفادة الجمع المضاف عمومَ إفراد المضاف ، وعمومُ الناس لإضافة ( عباد ) إلى ضمير الجلالة ، أي جميِع عباده ، مع ما في صيغة ( خبير ) من شدة العلم وهو يستلزم العموم فكان كعموم ثالث . والكفاية : الإجزاء ، وفي فعل { كفى } إفادة أنه لا يحتاج إلى غيره وهو مستعمل في الأمر بالاكتفاء بتفويض الأمر إليه .
والباء لتأكيد إسناد الفعل إلى الفاعل . وقد كثر دخول باء التأكيد بعدَ فعل الكفاية على فاعله أو مفعوله ، وتقدم في قوله تعالى : { كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } في سورة الإسراء ( 14 ) . و { خبيراً } حال من ضمير { به } أي كفى به من حيث الخبرة .
والعلمُ بالذنوب كناية عن لازمه وهو أنه يجازيهم على ذنوبهم ، والشرك جامع الذنوب . وفي الكلام أيضاً تعريض بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من أذاهم .