{ 77 - 83 } { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ }
هذه الآيات الكريمات ، فيها [ ذكر ] شبهة منكري البعث ، والجواب عنها بأتم جواب وأحسنه وأوضحه ، فقال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ } المنكر للبعث و الشاك فيه ، أمرا يفيده اليقين التام بوقوعه ، وهو ابتداء خلقه { مِنْ نُطْفَةٍ } ثم تنقله في الأطوار شيئا فشيئا ، حتى كبر وشب ، وتم عقله واستتب ، { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ } بعد أن كان ابتداء خلقه من نطفة ، فلينظر التفاوت بين هاتين الحالتين ، وليعلم أن الذي أنشأه من العدم ، قادر على أن يعيده بعد ما تفرق وتمزق ، من باب أولى .
والمقطع الثالث في هذا القطاع الأخير يتناول قضية البعث والنشور :
( أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين . وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه . قال : من يحيي العظام وهي رميم ? قل : يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم . الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون . أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ? بلى وهو الخلاق العليم . إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن . فيكون ) . .
ويبدأ هذا المقطع بمواجهة الإنسان بواقعه هو ذاته في خاصة نفسه . وهذا الواقع يصور نشأته وصيرورته مما يراه واقعا في حياته ، ويشهده بعينه وحسه مكرراً معاداً . ثم لا ينتبه إلى دلالته ، ولا يتخذ منه مصداقاً لوعد الله ببعثه ونشوره بعد موته ودثوره . .
( أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ) . .
فما النطفة التي لا يشك الإنسان في أنها أصله القريب ? إنها نقطة من ماء مهين ، لا قوام ولا قيمة ! نقطة من ماء تحوي ألوف الخلايا . . خلية واحدة من هذه الألوف هي التي تصير جنينا . ثم تصير هذا الإنسان الذي يجادل ربه ويخاصمه ويطلب منه البرهان والدليل !
والقدرة الخالقة هي التي تجعل من هذه النطفة ذلك الخصيم المبين . وما أبعد النقلة بين المنشأ والمصير ! أفهذه القدرة يستعظم الإنسان عليها أن تعيده وتنشره بعد البلى والدثور ?
القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنّا خَلَقْنَاهُ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الّذِيَ أَنشَأَهَآ أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : أوَ لَمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ . واختُلف في الإنسان الذي عُني بقوله : أوَ لَمْ يَرَ الإنْسانُ فقال بعضهم : عُني به أُبّي بن خلف . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عُمارة ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى عن مجاهد ، في قوله : مَنْ يُحْيِي العِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قال : أُبيّ بن خَلَف أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعَظْم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَضَرَبَ لنَا مَثَلاً أُبيّ بن خلف .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قالَ مَنْ يُحْيِي العِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ : ذُكر لنا أن أُبيّ بن خلف ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظْم حائل ، ففتّه ، ثم ذرّاه في الريح ، ثم قال : يا محمد من يحيي هذا وهو رميم ؟ قال : «الله يحييه ، ثم يميته ، ثم يُدخلك النار » قال : فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد .
وقال آخرون : بل عُني به : العاص بن وائل السّهميّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : جاء العاص بن وائل السهميّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظّم حائل ، ففتّه بين يديه ، فقال : يا محمد أيبعث الله هذا حيا بعد ما أرمّ ؟ قال : «نَعَمْ يَبْعَثُ اللّهُ هَذَا ، ثُمّ يُمِتُكَ ثُمّ يُحْيِيكَ ، ثُم يُدْخِلُكَ نارَ جَهَنّم » قال : ونزلت الاَيات : أوَ لَمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فإذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ . . . » إلى آخر الاَية .
وقال آخرون : بل عُنِي به : عبد الله بن أُبيّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس أوَ لَمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ . . . إلى قوله : وَهِيَ رَمِيمٌ قال : جاء عبد الله بن أُبيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعظْم حائل فكسره بيده ، ثم قال : يا محمد كيف يبعث الله هذا وهو رميم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَبْعَثُ اللّهُ هَذَا ، ويُمِيتُكَ ثُمّ يُدْخِلُكَ جَهَنّمَ » ، فقال الله : قُلْ يُحْيِيها الّذِي أنشأها أوّلَ مَرّةٍ وَهُو بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ .
فتأويل الكلام إذن : أو لم ير هذا الإنسان الذي يقول : مَنْ يُحْيِي العِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ أنا خلقناه من نطفة فسوّيناه خلقا سَوِيّا فإذَا هوَ خَصِيمٌ يقول : فإذا هو ذو خصومة لربه ، يخاصمه فيما قال له ربه إني فاعل ، وذلك إخبار لله إياه أنه مُحْيي خلقه بعد مماتهم ، فيقول : مَنْ يحيي هذه العظام وهي رميم ؟ إنكارا منه لقُدرة الله على إحيائها .
وقوله : مُبِينٌ يقول : يبين لمن سمع خُصومته وقيله ذلك أنه مخاصم ربه الذي خلقه .
{ أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين } تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر ، وفيه تقبيح بليغ لإنكاره حيث عجب منه وجعله إفراطا في الخصومة بينا ومنافاة لجحود القدرة على ما هو أهون مما عمله في بدء خلقه ، ومقابلة النعمة التي لا مزيد عليها وهي خلقه من أخس شيء وأمهنه شريفا مكرما بالعقوق والتكذيب . روي " أن أبي بن خلف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم بال يفتته بيده وقال : أترى الله يحيي هذا بعد ما رم ، فقال عليه الصلاة والسلام : نعم ويبعثك ويدخلك النار فنزلت . وقيل معنى { فإذا هو خصيم مبين } فإذا هو بعد ما كان ماء مهينا مميز منطيق قادر على الخصام معرب عما في نفسه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.