{ وأما إذا ما ابتلاه } بالفقر ، { فقدر عليه رزقه } قرأ أبو جعفر وابن عامر { فقدر } بتشديد الدال ، وقرأ الآخرون بالتخفيف ، وهما لغتان ، أي ضيق عليه رزقه . وقيل : قدر بمعنى قتر وأعطاه قدر ما يكفيه . { فيقول ربي أهانن } أذلني بالفقر . وهذا يعني به الكافر ، تكون الكرامة والهوان عنده بكثرة المال والحظ في الدنيا وقلته . قال الكلبي ومقاتل : نزلت في أمية بن خلف الجمحي الكافر . وقيل : ليس المراد به واحدا بعينه ، بل المراد جنس الكافر ، وهو الذي تكون الكرامة والهوان عنده بكثرة المال ، والحظ في الدنيا وقتله .
ويبتليه بالتضييق عليه في الرزق ، فيحسب الابتلاء جزاء كذلك ، ويحسب الاختبار عقوبة ، ويرى في ضيق الرزق مهانة عند الله ، فلو لم يرد مهانته ما ضيق عليه رزقه . .
وهو في كلتا الحالتين مخطئ في التصور ومخطئ في التقدير . فبسط الرزق أو قبضه ابتلاء من الله لعبده . ليظهر منه الشكر على النعمة أو البطر . ويظهر منه الصبر على المحنة أو الضجر . والجزاء على ما يظهر منه بعد . وليس ما أعطي من عرض الدنيا أو منع هو الجزاء . . وقيمة العبد عند الله لا تتعلق بما عنده من عرض الدنيا . ورضى الله أو سخطه لا يستدل عليه بالمنح والمنع في هذه الأرض . فهو يعطي الصالح والطالح ، ويمنع الصالح والطالح . ولكن ما وراء هذا وذلك هو الذي عليه المعول . إنه يعطي ليبتلي ويمنع ليبتلي . والمعول عليه هو نتيجة الابتلاء !
غير أن الإنسان - حين يخلو قلبه من الإيمان - لا يدرك حكمة المنع والعطاء . ولا حقيقة القيم في ميزان الله . . فإذا عمر قلبه بالإيمان اتصل وعرف ما هنالك . وخفت في ميزانه الأعراض الزهيدة ، وتيقظ لما وراء الابتلاء من الجزاء ، فعمل له في البسط والقبض سواء . واطمأن إلى قدر الله به في الحالين ؛ وعرف قدره في ميزان الله بغير هذه القيم الظاهرة الجوفاء !
وقد كان القرآن يخاطب في مكة أناسا - يوجد أمثالهم في كل جاهلية تفقد اتصالها بعالم أرفع من الأرض وأوسع - أناسا ذلك ظنهم بربهم في البسط والقبض . وذلك تقديرهم لقيم الناس في الأرض . ذلك أن المال والجاه عندهم كل شيء . وليس وراءهما مقياس ! ومن ثم كان تكالبهم على المال عظيما ، وحبهم له حبا طاغيا ، مما يورثهم شراهة وطمعا . كما يورثهم حرصا وشحا . . ومن ثم يكشف لهم عن ذوات صدورهم في هذا المجال ، ويقرر أن هذا الشره والشح هما علة خطئهم في إدراك معنى الابتلاء من وراء البسط والقبض في الأرزاق .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَمّآ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبّيَ أَهَانَنِ * كَلاّ بَل لاّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلاَ تَحَاضّونَ عَلَىَ طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التّرَاثَ أَكْلاً لّمّاً } .
وقوله : وَأمّا إذَا ما ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ يقول : وأما إذا ما امتحنه ربه بالفقر فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ يقول : فضيّق عليه رزقه وقَتّره ، فلم يكثر ماله ، ولم يوسع عليه فَيَقُولُ رَبّي أهانَنِ يقول : فيقول ذلك الإنسان : ربي أهانني ، يقول : أذلني بالفقر ، ولم يشكر الله على ما وهب له من سلامة جوارحه ، ورزقه من العافية في جسمه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَأمّا إذَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبّي أهانَنِي ما أسرع كفرَ ابن آدم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قوله : فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ قال : ضَيّقه .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فقرأت عامة قرّاء الأمصار ذلك بالتخفيف ، فقَدَر : بمعنى فقتر ، خلا أبي جعفر القارىء ، فإنه قرأ ذلك بالتشديد : «فَقَدّر » . وذُكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول : قدّر ، بمعنى يعطيه ما يكفيه ، ويقول : لو فعل ذلك به ما قال ربي أهانني .
والصواب من قراءة ذلك عندنا بالتخفيف ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.