اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ} (16)

{ وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه } أي : امتحنه بالفقر واختبره ، «فقَدَر » أي : ضيق ، «عَليهِ رِزقهُ » على مقدار البُلغة ، «فيقول » ربي أهاننِ «أي : أولاني هواناً ، وهذه صفة الكافر ، الذي لا يؤمن بالبعث ، وإنما الكرامة عنده ، والهوان بكثرة المال والحظ في الدنيا ، وقلته ، فأمَّا المؤمن ، فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته ، وتوفيقه ، المؤدي إلى حظ الآخرة ، وإن وسع عليه في الدنيا حمده وشكره .

قال القرطبيُّ{[60146]} : الآيتان صفة كُلِّ كافرٍ ، وكثيرٌ من المسلمين يظن أن ما أعطاه الله لكرامته ، وفضيلته عند الله ، وربما يقول بجهله : لو لم أستحق هذا ، لم يعطينيه الله ، وكذا إن قتر عليه ، يظن أن ذلك لهوانه على الله .

قوله : «فقَدرَ عليهِ » .

قرأ ابنُ عامرٍ{[60147]} : بتشديد الدَّال .

والباقون : بتخفيفها ، وهما لغتان بمعنى واحد ، ومعناهما : التَّضييق .

قال القرطبيُّ{[60148]} : والاختيار : التخفيف ، لقوله تعالى : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] وقوله تعالى : { الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } [ الرعد : 26 ] .

وقال أبو عمرو : و«قَدَرَ » أي : قتر . و«قَدَّرَ » مشدداً : هو أن يعطيه ما يكفيه ، ولو فعل به ذلك ما قال : «ربِّي أهانن » .

فصل في الكلام على أكرمن وأهانن

قوله : «أكْرمَنِي ، أهانني » .

قرأ نافع : بإثبات يائهما وصلاً ، وحذفهما وفقاً من غير خلاف عنه .

والمروي عن ابن كثير ، وابن محيصن ، ويعقوب : إثباتهما في الحالين ؛ لأنهما اسم فلا تحذف .

واختلف عن أبي عمرو في الوصل : فروي{[60149]} عنه الإثبات والحذف ، والباقون يحذفونها في الحالتين .

وعلى الحذف قوله : [ المتقارب ]

5204- ومِنْ كَاشحٍ ظاهرٍ عُمرهُ *** إذَا مَا انْتسَبْتُ لهُ أنْكَرن{[60150]}

يريد : أنكرني ؛ ولأنها وقعت في الموضعين بغير ياء ، والسنة لا تخالف خط المصحف ؛ لأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم .

وقال الزمخشريُّ{[60151]} : فإن قلت : هلا قال : فأهانه وقدر عليه رزقه ، كما قال : «فأكرمه ونعمه » ؟ قلت : لأن البسط : إكرام من الله لعبده بإنعامه عليه متفضلاً من غير سابقة ، وأما التقدير ، فليس بإهانة له ؛ لأن الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة ، ولكن تركاً للكرامة ، وقد يكون المولى مكرماً لعبده ومهيناً له ، وغير مكرم ولا مهين ، وإذا أهدى لك زيدٌ هدية ، قلت : أكرمني بالهدية ، ولا تقول : أهانني ، ولا أكرمني إذا لم يهد لك .

وأجاب ابنُ الخطيب{[60152]} عن هذا السؤال : بأنه في قوله : «أكرمني » صادق ، وفي قوله : «أهانني » غير صادق فهو ظهن أنَّ قلة الدنيا ، وتعسرها إهانة ، وهذا جهل ، واعتقاد فاسد ، فكيف يحكي الله - تعالى - ذلك عنه ؟ .

قيل : لما قال : «فَأكْرَمهُ » ، فقد صحَّ أنه أكرمه ، ثم إنه حكى عنه أنه قال : «أكرمن » ذمه عليه فكيف الجمع بينهما ؟ .

فالجواب : أن كلمة الإنكار : «كلاَّ » ، فلم لا يجوز أن يقال : إنَّها مختصة بقوله تعالى : «ربي أهانن » ؟ .

سلمنا أن الإنكار عائد إليهما معاً ، لكن يمكن أن يكون الذَّم ؛ لأنه اعتقد أن ذلك الإكرام بالاستحقاق ، أو أنه لما لم يعترف إلا عند سعة الدنيا ، مع سبق النعم عليه من الصحة ، والعقل دلَّ على أن غرضه من ذلك ليس الشكر ، بل محبة الدنيا ، والتكثير بالأموال والأولاد ، أو لأن كلامه يقتضي الإعراض عن الآخرة وإنكار البعث ، كما حكى الله تعالى بقوله : { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً } إلى قوله : { أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } [ الكهف : 35 و37 ] .


[60146]:الجامع لأحكام القرآن 20/35.
[60147]:ينظر: السابق، وحجة القراءات 761.
[60148]:السابق.
[60149]:ينظر خلاف السبعة في : السبعة 684، 685، والحجة 6/403، 409، وإعراب القراءات 2/478، وحجة القراءات 764.
[60150]:تقدم.
[60151]:الكشاف 4/749.
[60152]:ينظر: الفخر الرازي 31/155- 156.