السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ} (16)

وكذا قوله تعالى : { وأما إذا ما ابتلاه فقدر } ، أي : ضيق { عليه رزقه } التقدير وأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه ، أي : بالفقر ليوازي قسيمه { فيقول } ، أي : الإنسان بسبب الضيق { ربي أهانن } فيهتم لذلك ويضيق به ذرعاً ويكون أكبر همه ، وهذا في حق الكافر لقصور نظره وسوء فكره فيرى الكرامة والهوان بكثرة الحظ في الدنيا وقلته . وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في أمية بن خلف الجمحي الكافر . وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : في عتبة بن ربيعة . وقيل : أبي بن خلف . فإن قيل : كيف سمى كلا الأمرين من بسط الرزق وتقتيره ابتلاء ؟ أجيب : بأن كل واحد منهما اختبار للعبد ، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أيشكر أم يكفر ، وإذا قدر عليه فقد اختبر حاله أيصبر أم يجزع فالحكمة فيهما واحدة ، ونحوه قوله تعالى : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [ الأنبياء : 35 ] . فإن قيل : هلا قال فأهانه وقدر عليه رزقه كما قال فأكرمه ونعمه ؟ أجيب : بأن البسط إكرام من الله تعالى لعبده بإنعامه عليه متفضلاً من غير سابقة ، وأما التقتير فليس بإهانة له لأنّ الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة ولكن تركاً للكرامة ، وقد يكون المولى مكرماً ومهيناً وغير مكرم ولا مهين . وإذا أهدى لك زيد هدية قلت : أكرمني بالهدية ، ولا تقول أهانني ولا أكرمني إذا لم يهد إليك . فإن قيل : قد قال تعالى فأكرمه فصحح إكرامه وأثبته ثم أنكر قوله : { ربي أكرمن } وذمّه عليه كما أنكر قوله : { أهانن } وذمه عليه ؟ أجيب : بوجهين :

أحدهما : إنما أنكر قوله : { ربي أكرمن } وذمه عليه لأنه قاله على قصد خلاف ما صححه الله تعالى عليه وأثبته ، وهو قصده على أن الله تعالى أعطاه ما أعطاه إكراماً مستحقاً ومستوجباً على عادة افتخارهم وجلالة أقدارهم عندهم كقوله : { إنما أوتيته على علم عندي } [ القصص :78 ] وإنما أعطاه الله تعالى على وجه التفضل من غير استحباب منه له ، ولا سابقة مما لا يعتد الله تعالى إلا به ، وهو التقوى دون الأنساب والأحساب التي كانوا يفتخرون بها ويرون استحقاق الكرامة من أجلها .

ثانيهما : أن ينساق الإنكار والذم إلى قوله : { ربي أهانن } يعني أنه إذا تفضل عليه بالخير وأكرم به اعترف بتفضل الله وإكرامه ، وإذا لم يتفضل عليه يسمى ترك التفضل هواناً وليس بهوان . قال الزمخشري : ويعضد هذا الوجه ذكر الإكرام في قوله تعالى : { فأكرمه } وقرأ { ما ابتلاه } في الموضعين حمزة بالإمالة محضة ، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح ، وقرأ { ربي أكرمن } { ربي أهانن } نافع بإثبات الياء فيهما وصلاً لا وقفاً ، وقرأ البزي بإثباتها فيهما وقفاً ووصلاً ، وعن أبي عمرو فيهما في الوصل الإثبات والحذف عنه في الوصل أعدل ، والباقون بالحذف وقفاً ووصلاً . وقرأ ابن عامر { فقدّر عليه رزقه } بتشديد الدال والباقون بتخفيفها ، وهما لغتان معناهما ضيق . وقيل : قدر بمعنى قتر وقدر أعطاه ما يكفيه .