تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ} (16)

الآيات 15 و16 و17 : وقوله تعالى : { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن } { وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن } { كلا بل لا تكرمون اليتيم } والإشكال أن يقول قائل : قول ذلك الإنسان : { ربي أكرمن } و { ربي أهانني } خرج موافقا لما قاله الرب تعالى لأنه قال : { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه } فخرج قوله : { ربي أكرمن } على الموافقة لما قال ، وكذا قول هذا الإنسان حين{[23575]} ابتلي بنقيضه { ربي أهانن } خرج موافقا لما قال : { وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه } .

فإذا كان الأول إكراما كان الثاني{[23576]} يضاده إهانة . ألا ترى أن الله تعالى سمى المال خيرا والفقر شرا ، وسمى المطيع محسنا والعاصي مسيئا ، فكذا إذا استقام القول{[23577]} بالإكرام عندما ينعم عليه ، ويكرمه{[23578]} ، استقام القول{[23579]} بالإهانة إذا ضيق عليه الرزق ، ولم يكرمه{[23580]} ؟ .

فإذا كان هكذا فكيف رد عليه مقالته بقوله : { كلا } وهو في ذلك صادق .

ولكن نحن نقول : إن الرد بقوله : { كلا } لم يقع على نفس القول ، ولا انصرف إليه ، وإنما انصرف إلى ما أراده بقوله ؛ لأن القائل بهذا كافر بالله تعالى وباليوم الآخر ، فكأنه{[23581]} يقول : لا بعث ، ولا جزاء . وإنما يجازون بأعمالهم في هذه الدنيا . فمن أحسن أحسن إليه به ، ومن أساء أهين به ، فيكون قوله : { كلا } أي ليس الأمر كما صوره في نفسه ، بل الدنيا دار عمل ، وللجزاء بالكفر والإيمان دار الآخرة .

وهذا كقوله : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } [ المنافقون : 1 ] وهم لم يكونوا كاذبين في شهادتهم ومقالتهم ، بل كانوا صادقين أنه رسول الله وأن الله تعالى يعلم أنه رسوله ، ولكنهم كانوا اعتقدوا تكذيبه في قلوبهم ، فكانوا يظهرون خلاف ما أضمروا في أنفسهم . [ وإلى ]{[23582]} ما أضمروا انصرف التكذيب لا إلى نفس القول ؛ كذا هذا .

ولأن أهل الكفر كانوا أصنافا ؛ فمنهم من كان يرى إذا بسط عليه النعيم في الدنيا ، وأكرم ، فإنما بسط عليه لما استوجبه بفعله ، وإذا ضيق عليه ، وابتلي بالشدة ، فإنما ضيق عليه بإساءته وبما كسبت يداه ، ومنهم من كان يظن أنه من الله بمنزلة ، وأنه استوجب الإنعام ، وأنه إذا ابتلي بضيق العيش ، وأضاقته شدة [ فإنما ]{[23583]} أصابه ذلك من عند محمد عليه السلام فيتشاءم به . ألا يرى إلى قوله : { وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } ؟ [ النساء : 78 ] . وعلى هذا كان ظن فرعون ؛ قال الله تعالى : { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } [ الأعراف : 131 ] .

فقوله تعالى : { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه } أي أكرمه في نفسه بأن أصح جسمه ، أو جعله رئيس قومه { ونعمه } أي بسط الدنيا عليه { فيقول ربي أكرمن } فكان يبطر بذلك . وقوله تعالى : { وأما إذا ما ابتلاه } أي إذا اختبره ، فضيق { عليه رزقه فيقول ربي أهانن } فكان يظهر بذلك الجزع . والله تعالى اختبره بالنعم ليستأدي بما أنعم [ شكره ]{[23584]} وابتلاه بضيق العيش ليصبر ، لا ليجزع ؛ فلا شكر هذا النعم ، بل بطر ، ولا صبر هذا على الشدائد ، بل جزع . فجائز أن يكون قوله : { كلا } منصرفا إلى هذا ردا لاعتقادهم وصنيعهم ، وهو أنه يكرم ، ولم ينعم ليبطر به ، ولا ضيق عليه رزقه ليجزع ، بل إنما أنعم ليشكر ، وقدر عليه رزقه ليصبر ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { بل تكرمون اليتيم } فجائز أنهم كانوا لا يكرمونه{[23585]} ، ويهينونه مع ذلك ، لأن إكرام اليتيم ليس بواجب ، أما أهانته فحرام{[23586]} .

وجائز ألا تثبت الإهانة فيهم مع نفي الإكرام ، لأن الإيجاب إذا ذكر في مضادة الإيجاب اقتضى ذلك إثبات المقابلة ، وإذا ذكر الإيجاب في مضادة النفي أمكن أن تثبت فيه المقابلة ، وأمكن ألا تثبت .

ألا ترى إذا قيل : فلان جائز كان إثبات المقابلة ، هو نفي العدل ، لأن قوله : جائر إثبات الجور ، فكان في ذكره نفي العدالة ، وفيه إثبات المقابلة ، وإذا قلت : ليس بعدل لم يكن فيه تحقيق لإثبات المقابلة أيضا ؟ قال الله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } [ البقرة : 16 ] فكان في نفي الربح إثبات المقابلة في أنها خسرت .

ثم إكرام اليتيم ههنا يحتمل أوجها ثلاثة :

أحدها : أن يكرمه في أن يحفظ عليه ماله حتى لا يضيعه ، ويكرمه في نفسه ، وهو أن يتعاهد أحواله عن أن يدخل فيها خلل .

والوجه الثاني : أن يكرمه ، فيعلّمه آداب الشريعة ، ويرشده إليها .

والوجه الثالث : أن يكرمه ، فيبذل له من ماله قدر حاجته إليه ، ويصطنع إليه المعروف ، فيكون التعبير ههنا في إعالة اليتيم أن يترك الإكرام الذي هو من باب حفظ ماله ، فيكون تضييعا ، والله أعلم .


[23575]:في الأصل وم: حيث.
[23576]:في الأصل وم: الله.
[23577]:في الأصل وم: القوم.
[23578]:في الأصل وم: ويكرم.
[23579]:في الأصل وم: القول.
[23580]:في الأصل وم: يكرم.
[23581]:الهاء ساقطة من الأصل وم.
[23582]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم.
[23583]:ساقطة من الأصل وم.
[23584]:ساقطة من الأصل وم.
[23585]:في الأصل وم: يكرمون.
[23586]:الفاء ساقطة من الأصل وم.