الآيات 15 و16 و17 : وقوله تعالى : { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن } { وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن } { كلا بل لا تكرمون اليتيم } والإشكال أن يقول قائل : قول ذلك الإنسان : { ربي أكرمن } و { ربي أهانني } خرج موافقا لما قاله الرب تعالى لأنه قال : { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه } فخرج قوله : { ربي أكرمن } على الموافقة لما قال ، وكذا قول هذا الإنسان حين{[23575]} ابتلي بنقيضه { ربي أهانن } خرج موافقا لما قال : { وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه } .
فإذا كان الأول إكراما كان الثاني{[23576]} يضاده إهانة . ألا ترى أن الله تعالى سمى المال خيرا والفقر شرا ، وسمى المطيع محسنا والعاصي مسيئا ، فكذا إذا استقام القول{[23577]} بالإكرام عندما ينعم عليه ، ويكرمه{[23578]} ، استقام القول{[23579]} بالإهانة إذا ضيق عليه الرزق ، ولم يكرمه{[23580]} ؟ .
فإذا كان هكذا فكيف رد عليه مقالته بقوله : { كلا } وهو في ذلك صادق .
ولكن نحن نقول : إن الرد بقوله : { كلا } لم يقع على نفس القول ، ولا انصرف إليه ، وإنما انصرف إلى ما أراده بقوله ؛ لأن القائل بهذا كافر بالله تعالى وباليوم الآخر ، فكأنه{[23581]} يقول : لا بعث ، ولا جزاء . وإنما يجازون بأعمالهم في هذه الدنيا . فمن أحسن أحسن إليه به ، ومن أساء أهين به ، فيكون قوله : { كلا } أي ليس الأمر كما صوره في نفسه ، بل الدنيا دار عمل ، وللجزاء بالكفر والإيمان دار الآخرة .
وهذا كقوله : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } [ المنافقون : 1 ] وهم لم يكونوا كاذبين في شهادتهم ومقالتهم ، بل كانوا صادقين أنه رسول الله وأن الله تعالى يعلم أنه رسوله ، ولكنهم كانوا اعتقدوا تكذيبه في قلوبهم ، فكانوا يظهرون خلاف ما أضمروا في أنفسهم . [ وإلى ]{[23582]} ما أضمروا انصرف التكذيب لا إلى نفس القول ؛ كذا هذا .
ولأن أهل الكفر كانوا أصنافا ؛ فمنهم من كان يرى إذا بسط عليه النعيم في الدنيا ، وأكرم ، فإنما بسط عليه لما استوجبه بفعله ، وإذا ضيق عليه ، وابتلي بالشدة ، فإنما ضيق عليه بإساءته وبما كسبت يداه ، ومنهم من كان يظن أنه من الله بمنزلة ، وأنه استوجب الإنعام ، وأنه إذا ابتلي بضيق العيش ، وأضاقته شدة [ فإنما ]{[23583]} أصابه ذلك من عند محمد عليه السلام فيتشاءم به . ألا يرى إلى قوله : { وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك } ؟ [ النساء : 78 ] . وعلى هذا كان ظن فرعون ؛ قال الله تعالى : { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } [ الأعراف : 131 ] .
فقوله تعالى : { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه } أي أكرمه في نفسه بأن أصح جسمه ، أو جعله رئيس قومه { ونعمه } أي بسط الدنيا عليه { فيقول ربي أكرمن } فكان يبطر بذلك . وقوله تعالى : { وأما إذا ما ابتلاه } أي إذا اختبره ، فضيق { عليه رزقه فيقول ربي أهانن } فكان يظهر بذلك الجزع . والله تعالى اختبره بالنعم ليستأدي بما أنعم [ شكره ]{[23584]} وابتلاه بضيق العيش ليصبر ، لا ليجزع ؛ فلا شكر هذا النعم ، بل بطر ، ولا صبر هذا على الشدائد ، بل جزع . فجائز أن يكون قوله : { كلا } منصرفا إلى هذا ردا لاعتقادهم وصنيعهم ، وهو أنه يكرم ، ولم ينعم ليبطر به ، ولا ضيق عليه رزقه ليجزع ، بل إنما أنعم ليشكر ، وقدر عليه رزقه ليصبر ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { بل تكرمون اليتيم } فجائز أنهم كانوا لا يكرمونه{[23585]} ، ويهينونه مع ذلك ، لأن إكرام اليتيم ليس بواجب ، أما أهانته فحرام{[23586]} .
وجائز ألا تثبت الإهانة فيهم مع نفي الإكرام ، لأن الإيجاب إذا ذكر في مضادة الإيجاب اقتضى ذلك إثبات المقابلة ، وإذا ذكر الإيجاب في مضادة النفي أمكن أن تثبت فيه المقابلة ، وأمكن ألا تثبت .
ألا ترى إذا قيل : فلان جائز كان إثبات المقابلة ، هو نفي العدل ، لأن قوله : جائر إثبات الجور ، فكان في ذكره نفي العدالة ، وفيه إثبات المقابلة ، وإذا قلت : ليس بعدل لم يكن فيه تحقيق لإثبات المقابلة أيضا ؟ قال الله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } [ البقرة : 16 ] فكان في نفي الربح إثبات المقابلة في أنها خسرت .
ثم إكرام اليتيم ههنا يحتمل أوجها ثلاثة :
أحدها : أن يكرمه في أن يحفظ عليه ماله حتى لا يضيعه ، ويكرمه في نفسه ، وهو أن يتعاهد أحواله عن أن يدخل فيها خلل .
والوجه الثاني : أن يكرمه ، فيعلّمه آداب الشريعة ، ويرشده إليها .
والوجه الثالث : أن يكرمه ، فيبذل له من ماله قدر حاجته إليه ، ويصطنع إليه المعروف ، فيكون التعبير ههنا في إعالة اليتيم أن يترك الإكرام الذي هو من باب حفظ ماله ، فيكون تضييعا ، والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.