{ 85 } { وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ }
أي : لا تغتر بما أعطاهم اللّه في الدنيا من الأموال والأولاد ، فليس ذلك لكرامتهم عليه ، وإنما ذلك إهانة منه لهم . { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا } فيتعبون في تحصيلها ، ويخافون من زوالها ، ولا يتهنئون بها .
بل لا يزالون يعانون الشدائد والمشاق فيها ، وتلهيهم عن اللّه والدار الآخرة ، حتى ينتقلوا من الدنيا { وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } قد سلبهم حبها عن كل شيء ، فماتوا وقلوبهم بها متعلقة ، وأفئدتهم عليها متحرقة .
ثم نهى الله - تعالى - كل من يصلح للخطاب عن الاغترار بما عند هؤلاء المنافقين من مال وولد ، فقال - تعالى - : { وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ . . . . } .
أى : عليك - أيها العاقل - أن لا تغتر بما عند هؤلاء المنافقين من أموال وأولاد ، وأن لا يداخل قلبك شئ من الإِعجاب بما بين أيديهم من نعم ، فإن هذه النعم - التي من أعظمها الأموال والأولاد - إنما أعطاهم الله إياها ، ليعذبهم بسببها في الدنيا عن طريق التعب في تحصيلها ، والحزن عند فقدها وهلاكها .
وقوله : { وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } بيان لسوء مصيرهم في الآخرة ، بعد بيان عذابهم في الدنيا ، وزهوق النفس : خروجها من الجسد بمشقة وتعب .
أى : أنهم في الدنيا تكون النعم التي بين أيديهم ، مصدر عذاب لهم ، وأما في الآخرة فعذابهم أشد وأبقى ، لأن أرواحهم قد خرجت من أبدانهم وهم مصرون على الكفر والضلال .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد توعدت هؤلاء المنافقين بسوء العاقبة في الدنيا والآخرة ، ومن كان مصيره كهذا المصير ، لا يستحق الإِعجاب أو التكريم وإنما يستحق الاحتقار والإِهمال .
وهذه الآية الكريمة ، قد سبقتها في السورة نفسها آية أخرى شبيهة بها . وهى قوله - تعالى - : { وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } .
وقد أشار صاحب الكشاف إلى سر هذا التكرار فقال : " وقد أعيد قوله { وَلاَ تُعْجِبْكَ } ؛ لأن تجدد النزول له شأنه في تقرير ما نزل له وتأكيده ، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ولا يسهو عنه ، وأن يعقتد أن العمل به مهم يفتقر إلى فضل عناية به ، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين ، فأشبه الشئ الذي أهم صاحبه ، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ، ويتخلص إليه ، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه " .
الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود به المسلمون ، أي لا تعجبكم ، والجملة معطوفة على جملة النهي عن الصلاة عليهم .
ومناسبة ذكر هذا الكلام هنا أنّه لما ذُكر ما يدلّ على شقاوتهم في الحياة الآخرة كان ذلك قد يثير في نفوس الناس أنّ المنافقين حصلوا سعادة الحياة الدنيا بكثرة الأموال والأولاد وخسروا الآخرة . وربما كان في ذلك حيرة لبعض المسلمين أن يقولوا : كيف مَنَّ الله عليهم بالأموال والأولادِ وهم أعداؤه وبُغضاء نبيئه . وربما كان في ذلك أيضاً مسلاة لهم بين المسلمين ، فأعلم الله المسلمين أنّ تلك الأموال والأولاد وإن كانت في صورة النعمة فهي لهم نقمة وعذاب ، وأنّ الله عذّبهم بها في الدنيا بأن سلبهم طمأنينة البال عليها لأنّهم لما اكتسبوا عداوة الرسول والمسلمين كانوا يحذرون أن يُغريَ اللَّهُ رسوله بهم فيستأصلهم ، كما قال : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً } [ الأحزاب : 60 ، 61 ] ، ثم جعل ذلك مستمراً إلى موتهم على الكفر الذي يصيرون به إلى العذاب الأبدي .
وقد تقدّم نظير هذه الآية في هذه السورة عند ذكر شحّهم بالنفقة في قوله : { قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً } [ التوبة : 53 ] الآيتين ، فأفيد هنالك عدم انتفاعهم بأموالهم وأنّها عذاب عليهم في الدنيا ، ثم أعيدت الآية بغالب ألفاظها هنا تأكيداً للمعنى الذي اشتملت عليه إبلاغاً في نفي الفتنة والحيرة عن الناس .
ولكن هذه الآية خالفت السابقة بأمور :
أحدها : أنّ هذه جاء العطف في أولها بالواو والأخرى عطفت بالفاء . ومناسبة التفريع هنالك تقدّم بيانها ، ومناسبَة عدم التفريع هنا أنّ معنى الآية هذه ليس مفرّعاً على معنى الجملة المعطوف عليها ولكن بينهما مناسبة فقط .
ثانيها : أنّ هذه الآية عطف فيها الأولادُ على الأموال بدون إعادة حرف النفي ، وفي الآية السالفة أعيدت ( لا ) النافية ، ووجه ذلك أنّ ذكر الأولاد في الآية السالفة لمجرد التكملة والاستطراد إذ المقام مقام ذمّ أموالهم إذ لم ينتفعوا بها فلمّا كان ذكر الأولاد تكملة كان شبيهاً بالأمر المستقلّ فأعيد حرف النفي في عطفه ، بخلاف مقام هذه الآية فإنّ أموالهم وأولادهم معاً مقصود تحقيرهما في نظر المسلمين .
ثالثها : أنّه جاء هنا قوله : { إنما يريد الله أن يعذبهم } بإظهار { أن } دون لام ، وفي الآية السالفة { إنما يريد الله ليعذبهم } [ التوبة : 55 ] بذكر لام التعليل وحذف ( أن ) بعدها وقد اجتمع الاستعمالان في قوله تعالى : { يريد الله ليبين لكم } إلى قوله { والله يريد أن يتوب عليكم } في سورة النساء ( 26 ، 27 ) . وحذف حرف الجرّ مع ( أنْ ) كثير . وهنالك قدرت أنْ بعد اللام وتقدير ( أن ) بعد اللام كثير .
ومن محاسن التأكيد الاختلاف في اللفظ وهو تفنّن على أنّ تلك اللام ونحوها قد اختلف فيها فقيل هي زائدة ، وقيل : تفيد التعليل . وسمّاها بعض أهل اللغة ( لامَ أنْ ) ، وتقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : { يريد الله ليبين لكم } في سورة النساء ( 26 ) .
رابعها : أنّه جاء في هذه الآية { أن يعذّبهم بها في الدنيا } وجاء في الآية السالفة { في الحياة الدنيا } [ التوبة : 55 ] ونكتة ذلك أنّ الآية السالفة ذكرت حالة أموالهم في حياتهم فلم تكن حاجة إلى ذكر الحياة . وهنا ذكرت حالة أموالهم بعد مماتهم لقوله : { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً } [ التوبة : 84 ] فقد صاروا إلى حياة أخرى وانقطعت حياتهم الدنيا وأصبحت حديثاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.