{ 53 } { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا }
أي : لما كان يوم القيامة وحصل من الحساب ما حصل ، وتميز كل فريق من الخلق بأعمالهم ، وحقت كلمة العذاب على المجرمين ، فرأوا جهنم قبل دخولها ، فانزعجوا واشتد قلقهم لظنهم أنهم مواقعوها ، وهذا الظن قال المفسرون : إنه بمعنى اليقين ، فأيقنوا أنهم داخلوها { وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } أي : معدلا يعدلون إليه ، ولا شافع لهم من دون إذنه ، وفي هذا من التخويف والترهيب ، ما ترعد له الأفئدة والقلوب .
ثم بين - سبحانه - حالة المجرمين عندما يبصرون النار فقال : { وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً } .
ورأى هنا بصرية . والظن بمعنى اليقين والعلم ، لأنهم أبصروا الحقائق ، وشاهدوا واقعهم الأليم مشاهدة لا لبس فيها ولا خفاء .
أى : وشاهد المجرمون بأعينهم النار ، فأيقنوا أنهم مخالطوها وواقعون فيها . بسبب سوء أعمالهم ، وانكشاف الحقائق أمامهم ، ولم يجدوا عنها مصرفا أى مكانا ينصرفون إليه ، ويعتصمون به ليتخذوه ملجأ لهم منها .
فالمصرف : اسم مكان للجهة التى ينصرف إليها الإِنسان للنجاة من ضر أحاط به .
وعبر - سبحانه - عن رؤيتهم للنار بالفعل الماضى ، لتحقق الوقوع .
وقال - سبحانه - { ورأى المجرمون } فوضع المظهر موضع المضمر ، لتسجيل الإِجرام عليهم ، ولزيادة الذم لهم .
وقد ذكر - سبحانه - هنا أن المجرمين يرون النار ، وذكر فى آية أخرى أنها تراهم - أيضا - قال - تعالى - : { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً }
وقوله : { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } أي : إنهم لما عاينوا جهنم حين{[18277]} جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك ، فإذا رأى المجرمون النار ، تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها ، ليكون ذلك من باب تعجيل الهم والحزن لهم ، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه ، عذاب ناجز .
{ وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } أي : ليس{[18278]} لهم طريق يعدل بهم عنها ولا بد لهم منها .
قال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن دَرّاج عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله{[18279]} صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الكافر يرى{[18280]} جهنم ، فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين{[18281]} سنة " {[18282]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن{[18283]} لهيعة ، حدثنا دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ينصب الكافر مقدار خمسين ألف سنة ، كما لم يعمل في الدنيا ، وإن الكافر ليرى جهنم ، ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة " {[18284]} .
وقوله : وَرَأى المُجْرِمُونَ النّارَ يقول : وعاين المشركون النار يومئذٍ فَظَنّوا أنّهُمْ مُوَاقعُوها يقول : فعلموا أنهم داخلوها ، كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : فَظَنّوا أنّهُمْ مُوَاقعُوها قال : علموا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن درّاج ، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدريّ ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : «إنّ الكافرَ يَرَى جَهَنّمَ فَيَظُنّ أنّها مُوَاقعَتُهُ مِنْ مَسيرَةِ أرْبَعينَ سَنَةَ » .
وقوله : ولَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفا يقول : ولم يجدوا عن النار التي رأوا معدلاً يعدلون عنها إليه . يقول : لم يجدوا من مواقعتها بدّا ، لأن الله قد حتم عليهم ذلك . ومن المصرف بمعنى المعدل قول أبي كبير الهذليّ :
أزُهَيْرُ هَلْ عَنْ شَيْبَةٍ مِنْ مَصْرِفِ *** أمْ لا خُلُودَ لباذِلٍ مُتَكَلّفِ
ثم أخبر عز وجل عن رؤية المجرمين النار ، ومعاينتهم لها ، ووقوع العلم لهم بأنهم مباشروها ، وأطلق الناس أن الظن هنا بمعنى اليقين ، ولو قال بدل { ظنوا } وأيقنوا لكان الكلام متسقاً ، على مبالغة فيه ، ولكن العبارة بالظن لا تجيء أبداً في موضع يقين تام قد قاله الحسن ، بل أعظم درجاته أن يجيء في موضع علم متحقق ، لكنه لم يقع ذلك المظنون ، وإلا ، فقد يقع ويحسن ، لا يكاد توجد في كلام العرب العبارة عنه بالظن وتأمل هذه الآية ، وتأمل قول دريد :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج{[1]} . . . وقرأ الأعمش «فظنوا أنهم ملاقوها » ، وكذلك في مصحف ابن مسعود{[2]} ، وحكى أبو عمرو الداني عن علقمة ، أنه قرأ : «ملافوها » بالفاء مشددة من لففت ، وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة »{[3]} و «المصرف » المعدل ، والمرغ ، ومنه قول أبي كبير الهذلي : [ الكامل ]
أزهير هل عن شيبة بن مصرف . . . أم لا خلود لباذل متكلف{[4]}
عطف على جملة { وجعلنا بينهم موبقاً } [ الكهف : 52 ] ، أي جعلنا الموبق ورآه المجرمون ، فذكر المجرمين إظهار في مقام الإضمار للدلالة على ما يفيده المجرمون من تلبسهم بما استحقوا به عذاب النار . وكذلك عُبر ب ( النار ) في مقام الإضمار للموبق للدلالة على أن المَوبق هو النار فهو شبيه بعطف البيان .
والظن مستعمل هنا في معنى التحقق وهو من استعمالاته . ولعل اختياره هنا ضرب من التهكم بهم ؛ بأنهم رجحوا أن تلك النار أعدت لأجلهم في حين أنهم موقنون بذلك .
والمواقعة : مفاعلة من الوقوع ، وهو الحصول لقصد المبالغة ، أي واقعون فيها وقوع الشيء الحاصل في موقع يتطلبه فكأنه يقع هو فيه .
والمصرف : مكان الصرف ، أي التخلص والمجاوزة . وفي الكلام إيجاز ، تقديره : وحاولوا الانقلاب أو الانصراف فلم يجدوا عنها مصرفاً ، أي مخلصاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها}، يعني: فعلموا أنهم مواقعوها، يعني: داخلوها...
{ولم يجدوا عنها مصرفا}، يقول: ولم يقدر أحد من الآلهة أن يصرف النار عنهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَرَأى المُجْرِمُونَ النّارَ" يقول: وعاين المشركون النار يومئذٍ "فَظَنّوا أنّهُمْ مُوَاقعُوها" يقول: فعلموا أنهم داخلوها...
"ولَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفا" يقول: ولم يجدوا عن النار التي رأوا معدلاً يعدلون عنها إليه. يقول: لم يجدوا من مواقعتها بدّا، لأن الله قد حتم عليهم ذلك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
.. أَيْقَنُوا أنهم داخِلوها...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... والإجرام: قطع العمل إلى الفساد. وأصله القطع، يقال: هذا زمن الجرام أي زمن الصرام يعني زمان قطع الثمرة عن النخل.
والمواقعة: ملابسة الشيء بشدة، ومنه وقائع الحروب وأوقع به إيقاعا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا صارت الأوهامُ منقطعة، والمعارفُ َ ضروريةً، والنارُ مُعَاينَةً استيقنوا أنهم واقعون في النار، فلا يُسْمَعُ لهم عُذْرٌ، ولا تنفع له حيلةٌ، ولا تُقْبَلُ فيهم شفاعة، ولا يؤخذ منهم فداء ولا عدل.. لقد استمكنت الخيبةُ، وغَلَبَ اليأسُ، وحَصَلَ القنوط، وهذا هو العذاب الأكبر...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أخبر عز وجل عن رؤية المجرمين النار، ومعاينتهم لها، ووقوع العلم لهم بأنهم مباشروها، وأطلق الناس أن الظن هنا بمعنى اليقين، ولو قال بدل {ظنوا} وأيقنوا لكان الكلام متسقاً، على مبالغة فيه، ولكن العبارة بالظن لا تجيء أبداً في موضع يقين تام قد قاله الحسن، بل أعظم درجاته أن يجيء في موضع علم متحقق، لكنه لم يقع ذلك المظنون، وإلا، فقد يقع ويحسن، لا يكاد توجد في كلام العرب العبارة عنه بالظن...
الأول: أن الظن ههنا بمعنى العلم واليقين.
والثاني: وهو الأقرب أن المعنى أن هؤلاء الكفار يرون النار من مكان بعيد فيظنون أنهم مواقعوها في تلك الساعة من غير تأخير ومهلة، لشدة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} أي: إنهم لما عاينوا جهنم حين جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فإذا رأى المجرمون النار، تحقَّقوا لا محالة أنهم مواقِعوها، ليكون ذلك من باب تعجيل الهَمِّ والحزنِ لهم، فإنّ توقُّعَ العذابِ والخوفَ منه قبل وقوعِه، عذابٌ ناجزٌ...
{وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} أي: ليس لهم طريقٌ يعْدل بهم عنها ولا بدَّ لهم منها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قرر سبحانه ما لهم مع شركائهم، ذكر حالهم في استمرار جهلهم، فقال تعالى: {ورأى المجرمون} أي العريقون في الإجرام {النار} أي ورأوا، ولكنه أظهر للدلالة على تعليق الحكم بالوصف {فظنوا} ظناً {أنهم مواقعوها ولم} أي والحال أنهم لم {يجدوا عنها مصرفاً} أي مكاناً ينصرفون إليه، فالموضع موضع التحقق، ولكن ظنهم جرياً على عادتهم في الجهل كما قالوا {اتخذ الله ولداً} [الكهف: 4] بغير علم {وما أظن أن تبيد هذه أبداً} [الكهف: 35]، {وما أظن الساعة قائمة} [الكهف: 36]، {إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين} [الجاثية: 32] مع قيام الأدلة التي لا ريب فيها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {وجعلنا بينهم موبقاً} [الكهف: 52]، أي جعلنا الموبق ورآه المجرمون، فذكر المجرمين إظهار في مقام الإضمار للدلالة على ما يفيده المجرمون من تلبسهم بما استحقوا به عذاب النار. وكذلك عُبر ب (النار) في مقام الإضمار للموبق للدلالة على أن المَوبق هو النار فهو شبيه بعطف البيان.
والظن مستعمل هنا في معنى التحقق وهو من استعمالاته. ولعل اختياره هنا ضرب من التهكم بهم؛ بأنهم رجحوا أن تلك النار أعدت لأجلهم في حين أنهم موقنون بذلك.
والمواقعة: مفاعلة من الوقوع، وهو الحصول لقصد المبالغة، أي واقعون فيها وقوع الشيء الحاصل في موقع يتطلبه فكأنه يقع هو فيه.
والمصرف: مكان الصرف، أي التخلص والمجاوزة. وفي الكلام إيجاز، تقديره: وحاولوا الانقلاب أو الانصراف فلم يجدوا عنها مصرفاً، أي مخلصاً.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{فظَنّوا أنهم مُواقِعوها}،.. والفاء هي فاء الترتيب والسببية، أي بسبب حالهم من الإجرام اعتقدوا أنهم مواقِعوها،... عبّر بالظن دون العلم واليقين، وذلك لأنهم إذ رأوا هولها وشدتها كانوا يظنون ولا يستيقنون ليوجِدوا لأنفسهم نافذةً ولو كُوَّةً لاحتمال النجاة... {ولم يجدوا عنها مَصْرِفاً}، أي لم يجدوا مُتَحَوّلاً عنها وأنها آتيةٌ لا ريب فيها...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لأن الجوّ الذي يحيط بموقفهم يوحي بذلك، ولأن الأعمال التي قاموا بها في الدنيا في نطاق الجريمة، تؤدي إلى النار، من خلال ما سمعوه من إنذار الأنبياء والرسل بأن النار هي عاقبة المجرمين، إلا أن يعفو الله عنهم، ولم يعف الله عنهم في هذا الموقف، كما يرون. وإذا كانت جريمتهم هي الشرك فإن الله لا يغفر أن يشرك به. والظاهر أن المراد بالظن هنا هو الإحساس المتعاظم بالنتيجة الذي يواجه الحقيقة بطريقة ضاغطة، لا مجال للهروب منها. {وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا} ينصرفون إليه ويبتعدون به عن النار التي تستقبلهم ليدخلوها بعد قليل.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لقد انكشفت لهم النّار التي لم يكونوا يُصدِّقون بها أبداً، وظهرت أمام أعينهم، وحينئذ يشعرون بأخطائهم، ويتيقنون بأنّهم سيدخلون النّار وستدخلهم: (فظنوا أنّهم مُواقعوها). ثمّ يتيقنون أيضاً أنَّ لا منقذ لهم مِنها: (ولم يجدوا عنها مصرفاً). فلا تنقذهم اليوم مِنها لا معبوداتهم ولا شفاعة الشفعاء، ولا الكذب أو التوَسُّل بالذهب والقوّة، إِنَّها النّار التي يزداد سعيرها بسبب أعمالهم. ينبغي الالتفات هنا إلى أنَّ جملة «ظنّوا» بالرغم مِن أنّها مُشتقّة مِن «الظن» إِلاَّ أنّها في هذا المورد، وفي موارد أُخرى تأتي بمعنى اليقين، لذا فإِنَّ الآية (249) مِن سورة البقرة تستخدم نفس التعبير بالرغم مِن أنّها تتحدث عن المؤمنين الحقيقيين والمجاهدين المرابطين الذين كانوا مع طالوت لقتال جالوت الجبّار الظالم، إِذ تقول: (قالَ الذين يظنون أنّهم مُلاقو الله كم مِن فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإِذن الله). فإِنَّ كلمة «مواقعوها» مُشتقّة مِن «مواقعة» بمعنى الوقوع على الآخرين، وهي إِشارة إلى أنّهم يقعون على النّار، وأنَّ النّار تقع عليهم؛ فالنّار تنفذ فيهم وهم ينفذون في النّار، وقد قرأنا في الآية (24) مِن سورة البقرة قوله تعالى: (فاتقوا النّار التي وقودها الناس والحجارة).