وقوله - تعالى - : { يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ } ، صفة أخرى من صفاته القبيحة ، والجملة يصح أن تكون مستأنفة استنئافا بيانيا ، جوابا لسؤال مقدر ، كأنه قيل : ما باله يجمع المال ويهتم به ؟ فكان الجواب : يحسب أن ماله أخلده .
ويصح أن تكون حالا من فاعل " جمع " ، أي : هذا الجاهل المغرور جمع المال وعدده ، حالة كونه يظن أن ماله يخلده فى الدنيا ، ويجعله فى مأمن من حوادث الدهر .
قال الأستاذ الإِمام محمد عبده : أي إن الذى يحمل هذا الهمزة اللمزة على الحط من أقدار الناس ، هو جمعه المال وتعديده . . فكلما نظر إلى كثرة ما عنده منه ، انتفخ وظن أنه من رفعة المكانة ، بحيث يكون كل ذي فضل ومزية دونه . . ويظن أن ما عنده من المال ، قد حفظ له حياته التى هو فيها ، وأرصدها عليه ، فهو لا يفارقها إلى حياة أخرى ، يعاقب فيها على ما كسب من سيء الأعمال . .
وقوله : { يَحْسَبُ أنّ مالَهُ أخْلَدَهُ } يقول : يحسب أن ماله الذي جمعه وأحصاه ، وبخل بإنفاقه ، مُخلدُه في الدنيا ، فمزيلٌ عنه الموت . وقيل : أخلده ، والمعنى : يخلده ، كما يقال للرجل الذي يأتي الأمر الذي يكون سببا لهلاكه : عَطِب والله فلان ، وهلك والله فلان ، بمعنى : أنه يَعْطَب من فعله ذلك ، ولما يهلك بعد ، ولم يعطب ، وكالرجل يأتي المُوبِقة من الذنوب : دخل والله فلان النار .
وجملة : { يحسب أن ماله أخلده } يجوز أن تكون حالاً من هُمَزة فيكون مستعملاً في التَّهكم عليه في حرصه على جمع المال وتعديده لأنه لا يُوجد من يَحْسب أن ماله يُخلده ، فيكون الكلام من قبيل التمثيل ، أو تكون الحال مراداً بها التشبيه وهو تشبيه بليغ .
ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والخبر مستعملاً في الإِنكار ، أو على تقدير همزة استفهام محذوفة مستعملاً في التهكم أو التعجيب .
وجيء بصيغة المضي في { أخلده } لتنزيل المستقبل منزلة الماضي لتحققه عنده ، وذلك زيادة في التهكم به بأنه موقن بأن ماله يخلده حتى كأنه حصل إخلاده وثبت .
والهَمزة في { أخلده } للتعدية ، أي جعله خالداً .
وقرأ الجمهور : { يحسِب } بكسر السين . وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر بفتح السين وهما لغتان .
ومعنى الآية : أن الذين جمعوا المال يشبه حالهم حال من يحسب أن المال يقيهم الموت ويجعلهم خالدين لأن الخلود في الدنيا أقصى متمناهم إذ لا يؤمنون بحياة أخرى خالدة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول : { يحسب أن ماله أخلده } من الموت ، فلا يموت حتى يفنى ماله...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يحسب أن ماله الذي جمعه وأحصاه ، وبخل بإنفاقه ، مُخلدُه في الدنيا ، فمزيلٌ عنه الموت . وقيل : أخلده ، والمعنى : يخلده ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما : أن يكون على الحقيقة أنه قدره عند نفسه أنه يبقى لبقاء الأموال له لما يرى بقاءه من حيث الظاهر بها ، فتقرر عنده أن ما آتاه الله تعالى من الأموال ، هو رزقه ، فيعيش إلى أن يستوفي جميع رزقه ، فيجمعه ، ويدخره لكي يزيد في عمره . والوجه الثاني : أن يكون على الظن والحسبان ، كأنه يقول : { جمع مالا وعدده } جمع من يظن أن ماله يزيد في عمره .
فإن كان على التأويل الأول فقوله : { كلا } رد عليه ، أي ليس كما قدره عند نفسه ، وإن كان على التأويل الثاني فعلى إيجاب عقوبة مبتدأة .
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي : طوّل المال أمله ، ومنّاه الأماني البعيدة ، حتى أصبح لفرط غفلته وطول أمله يحسب أنّ المال تركه خالداً في الدنيا لا يموت . أو يعمل من تشييد البنيان الموثق بالصخر والآجر وغرس الأشجار وعمارة الأرض عمل من يظن أن ماله أبقاه حياً . أو هو تعريض بالعمل الصالح ، وأنه هو الذي أخلد صاحبه في النعيم ؛ فأما المال فما أخلد أحداً فيه . ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
معناه : يحسب أن ماله هو معنى حياته وقوامها ، وأنه حفظه مدة عمره ويحفظه . ...
ثم وصفه تعالى بضرب خر من الجهل فقال : { يحسب أن ماله أخلده } .
واعلم أن أخلده وخلده بمعنى واحد....
وإنما قال : { أخلده } ولم يقل : يخلده لأن المراد يحسب هذا الإنسان أن المال ضمن له الخلود وأعطاه الأمان من الموت وكأنه حكم قد فرغ منه ، ولذلك ذكره على الماضي . قال الحسن : ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه كالموت ...
أحب المال حبا شديدا حتى اعتقد أنه إن انتقص مالي أموت ، فلذلك يحفظه من النقصان ليبقى حيا ، وهذا غير بعيد من اعتقاد البخيل...
أما قوله تعالى : { كلا } ففيه وجهان؛
( أحدهما ) : أنه ردع له عن حسبانه أي ليس الأمر كما يظن أن المال يخلده بل العلم والصلاح ...
والقول الثاني معناه حقا : { لينبذن } واللام في : { لينبذن } جواب القسم المقدر فدل ذلك على حصول معنى القسم في كلا .
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
تركه خالدا في الدنيا ، فأحبه كما يحب الخلود ، أو حب المال أغفله عن الموت ، أو طول أمله حتى حسب أنه مخلد ، فعمل عمل من لا يظن الموت ، ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجيء بصيغة المضي في { أخلده } لتنزيل المستقبل منزلة الماضي لتحققه عنده ، وذلك زيادة في التهكم به بأنه موقن بأن ماله يخلده حتى كأنه حصل إخلاده وثبت . ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ويعني أن هذا الهمزة اللمزة يحسب أنّ ماله قد صيّر منه موجوداً خالداً ، لا يستطيع الموت أن يصل إليه ، ولا عوامل المرض والحوادث قادرة أن تنال منه ، فالمال في نظره هو المفتاح الوحيد لحل كلّ مشكلة ، وهو يملك هذا المفتاح . ما أتفه هذا التفكير ! ! قارون بكل ما كان يملكه من كنوز لا تستطيع العصبة أولو القوّة أن تحمل مفاتحها ، لم يستطع أن يستخدم أمواله لتأخير مصيره الأسود ساعة واحدة : { فخسفنا به وبداره الأرض } . الأموال التي كان يمتلكها الفراعنة : { . . . من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين } ، تحولت في ساعة إلى غيرهم : { كذلك وأورثناها قوماً آخرين } . لذلك فإنّ هؤلاء اللاهين بأموالهم ، حين تزول من أمام أعينهم الحجب والأستار يوم القيامة يرفعون عقيرتهم بالقول : { ما أغنى عنّي ماليه ، هلك عني سلطانيه } . الإنسان أساساً يهرب من الفناء والعدم ويميل إلى الخلود ، وهذه الرغبة الداخلية هي من أدلة المعاد ، وأنّ الإنسان مخلوق للخلود ، وإلاّ ما كانت فيه غريزة حبّ الخلود . لكنّ الإنسان المغرور الأناني الدنيوي يخال خلوده كامناً في أشياء هي ذاتها عامل فنائه وانعدامه . على سبيل المثال : المال والمقام اللذان هما غالباً من أعداء بقائه يحسبهما وسيلة لخلوده . من هنا يتبيّن أنّ الظنّ بقدرة المال على الإخلاد ، هو الذي يدفع إلى جمع المال ، وجمع المال أيضاً عامل على الاستهزاء والسخرية بالآخرين عند هؤلاء الغافلين . ...