{ يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين* الأعراب } ، أي : أهل البدو ، { أشد كفرا ونفاقا } ، من أهل الحضر ، " وأجدر " ، أخلق وأحرى ، " أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله " ، وذلك لبعدهم عن سماع القرآن ومعرفة السنن ، " والله عليم " ، بما في قلوب خلقه " حكيم " فيما فرض من فرائضه .
{ 97 - 99 ْ } { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ْ }
يقول تعالى : { الْأَعْرَابِ ْ } وهم سكان البادية والبراري { أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا ْ } من الحاضرة الذين فيهم كفر ونفاق ، وذلك لأسباب كثيرة : منها : أنهم بعيدون عن معرفة الشرائع الدينية والأعمال والأحكام ، فهم أحرى { وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } من أصول الإيمان وأحكام الأوامر والنواهي ، بخلاف الحاضرة ، فإنهم أقرب لأن يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله ، فيحدث لهم -بسبب هذا العلم- تصورات حسنة ، وإرادات للخير ، الذي يعلمون ، ما لا يكون في البادية .
وفيهم من لطافة الطبع والانقياد للداعي ما ليس في البادية ، ويجالسون أهل الإيمان ، ويخالطونهم أكثر من أهل البادية ، فلذلك كانوا أحرى للخير من أهل البادية ، وإن كان في البادية والحاضرة ، كفار ومنافقون ، ففي البادية أشد وأغلظ مما في الحاضرة . ومن ذلك أن الأعراب أحرص على الأموال ، وأشح فيها .
ثم بعد الحديث الطويل عن النفاق والمنافقين ، أخذت السورة الكريمة ، في الحديث عن طوائف أخرى منها الصالح ، ومنها غير الصالح ، وقد بدأت بالحديث عن الأعراب سكان البادية ، فقال - تعالى - : { الأعراب أَشَدُّ . . . . غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
قال صاحب المنار : قوله ، سبحانه : { الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } . بيان مستأنف لحال سكان البادية من المنافقين ، لأنه مما يسأل عنه بعد ما تقدم في منافقى الحضر من سكان المدينة وغيرها من القرى .
والأعراب : اسم جنس لبدو العرب ، واحده : أعرابى ، والأنثى أعرابية ، والجمع أعاريب ، والعرب : اسم جنس لهذا الجيل الذي ينطق بهذه اللغة ، بدوه وحضره ، واحده : عربى .
والمراد بالأعراب هنا : جنسهم لا كل واحد منهم ، بدليل أن الله . تعالى . قد ذم من يستحق الذم منهم ، ومدح من يستحق المدح منهم ، فالآية الكريمة من باب وصف الجنس بوصف بعض أفراده .
وقد بدأ ، سبحانه ، بذكر المنافقين من الأعراب قبل المؤمنين منهم ، إلحاقا لهم بمنافقى المدينة الذين تحدثت السورة عنهم قبل ذلك مباشرة حديثاً مستفيضاً ، وبهذا الترتيب الحكيم تكون السورة الكريمة قد واصلت الحديث عن منافقى الحضر والبدو .
والمعنى : " الأعراب " سكان البادية { أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } من الكفار والمنافقين الذين يسكنون الحضر والقرى .
وذلك ، لأن ظروف حياتهم البدوية ، وما يصاحبها من عزلة وكفر في الصحراء ، وخشونة في الحياة . . . كل ذلك جعلهم أقسى قلوباً ، وأجفى قولا ، وأغلظ طبعا ، وأبعد عن سماع ما يهدى نفوسهم إلى الخير من غيرهم سكان المدن .
وقوله : { وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ } معطوف على ما قبله لتعديد صفاتهم الذميمة .
قال القرطبى : قوله : " وأجدر " عطف على " أشد " ومعناه : أخلق ، وأحق ، يقال : فلان جدير بكذا ، أى : خليق به . وأنت جدير أن تفعل كذا ، والجمع جدراء وجديرون ، وأصله من جدر الحائط وهو رفعه بالبناء فقوله : هو أجدر بكذا ، أى : أقرب إليه وأحق به .
والمعنى : الأعراب أشد كفرا ونفاقا من أهل الحضر الكفار والمنافقين ، وهم كذلك أحق وأخلق من أهل الحضر بأن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، بسبب ابتعادهم عن مجالس رسول الله . صلى الله عليه وسلم . وعدم مشاهدتهم لما ينزل عليه . صلى الله عليه وسلم . من شرائع وأداب وأحكام .
وقوله : { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أى : " عليم " بأحوال عباده الظاهرة والباطنة لا يخفى عليه شئ من صفاتهم وطباعهم " وحكيم " في صنعه بهم ، وفى حكمه عليهم ، وفيما يشرعه لهم من أحكام ، وفيما يجازيهم به من ثواب أو عقاب .
هذا ، وقد ذكر المفسرون هنا أمثلة متعدد لجفاء الأعراب وجهلهم ، ومن ذلك قول الإِمام ابن كثير :
قال الأعمش عن ابراهيم قال : جلس أعرابى إلى زيد بن صومان ، وهو يحدث أصحابه ، وكانت يده قد أصيبت يوم " نهاوند " فقال الأعرابى : والله إن حديثك ليعجبنى وإن يدك لتريبنى ! ! فقال زيد : وما يريبك من يدى ؟ إنها الشمال ! ! فقال الأعرابى : والله ما أدرى اليمين يقطعون أو الشماء ! ! فقال زيد : صدق الله إذ يقول : { الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ } .
وورى الأَمام عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من سكن البادية جفا ، ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى السلطان افتتن " .
وورى الإِمام مسلم " عن عائشة قال : قدم ناس من الاعراب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : أتقبلون صبيانكم ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - نعم . فقالوا : لكنا والله ما نقبل ! ! فقال - صلى الله عليه وسلم - " وما أملك إن كان الله نزع منكم الرحمة " " .
أخبر تعالى أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين ، وأن كفرهم ونفاقهم أعظم من غيرهم وأشد ، وأجدر ، أي : أحرى ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، كما قال الأعمش عن إبراهيم قال : جلس أعرابي إلى زيد بن صَوْحان وهو يحدث أصحابه ، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوَند ، فقال الأعرابي : والله إن حديثك ليعجبني ، وإن يدك لتريبني فقال زيد : ما يُريبك من يدي ؟ إنها الشمال . فقال الأعرابي : والله ما أدري ، اليمين يقطعون أو الشمالَ ؟ فقال زيد بن صوحان{[13792]} صدق الله : { الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي ، حدثنا سفيان ، عن أبي موسى ، عن وهب بن مُنَبِّه ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من سكن البادية جفا ، ومن اتبع الصيد غَفَل ، ومن أتى السلطان افتتن " .
ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي من طرق ، عن سفيان الثوري ، به{[13793]} وقال الترمذي : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث الثوري .
ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولا وإنما كانت البعثة من أهل القرى ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [ يوسف : 109 ] ولما أهدى ذلك الأعرابي تلك الهدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فردَّ عليه أضعافها حتى رضي ، قال : " لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قُرشي ، أو ثَقَفي أو أنصاري ، أو دَوْسِيّ " {[13794]} ؛ لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن : مكة ، والطائف ، والمدينة ، واليمن ، فهم ألطف أخلاقًا من الأعراب : لما في طباع الأعراب من الجفاء .
حديث [ الأعرابي ]{[13795]} في تقبيل الولد : قال مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كُرَيْب قالا حدثنا أبو أسامة وابن نُمَيْر ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أتقبِّلون صبيانكم ؟ قالوا : نعم . قالوا : ولكنا والله ما نقبِّل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وَأمْلكُ أن كان الله نزع منكم الرحمة ؟ " . وقال ابن نمير : " من قلبك الرحمة " {[13796]} وقوله : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : عليم بمن يستحق أن يعلمه الإيمان والعلم ، { حَكِيمٌ } فيما قسم بين عباده من العلم والجهل والإيمان والكفر والنفاق ، لا يسأل عما يفعل ، لعلمه وحكمته .
القول في تأويل قوله تعالى : { الأعْرَابُ أَشَدّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ عَلَىَ رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : الأعراب أشدّ جحودا لتوحيد الله وأشدّ نفاقا من أهل الحضر في القرى والأمصار . وإنما وصفهم جلّ ثناؤه بذلك لجفائهم وقسوة قلوبهم وقلة مشاهدتهم لأهل الخير ، فهم لذلك أقسى قلوبا وأقلّ علما بحقوق الله . وقوله : وأجْدَرُ أنْ لا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أنْزَلَ اللّهُ على رَسُولِهِ يقول : وأخلق أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله وذلك فيما قال قتادة : السّنَن .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأجّدَرُ ألاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أنْزَلَ اللّهُ على رَسُولِهِ قال : هم أقلّ علما بالسّنن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مُقَرّن عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال جلس أعرابي إلى زيد بن صُوْحان وهو يحدّث أصحابه ، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند ، فقال : والله إن حديثك ليعجبني ، وإن يدك لتريبني فقال زيد : وما يريبك من يدي ، إنها الشّمال ؟ فقال الأعرابي : والله ما أدري أليمينَ يقطعون أم الشمال ؟ فقال زيد بن صُوحان : صدق الله : الأعْرَابُ أشَدّ كُفْرا وَنِفاقا وأجْدَرُ أنْ لا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أنْزَلَ اللّهُ على رَسُولِهِ .
وقوله : وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يقول : والله عليم بمن يعلم حدود ما أنزل على رسوله ، والمنافق من خلقه والكافر منهم ، لا يخفى عليه منهم أحد ، حكيم في تدبيره إياهم ، وفي حلمه عن عقابهم مع علمه بسرائرهم وخداعهم أولياءه .
{ الأعراب } أهل البدو . { أشد كفرا ونفاقا } من أهل الحضر لتوحشهم وقساوتهم وعدم مخالطتهم لأهل العلم وقلة استماعهم للكتاب والسنة . { وأجدر أن لا يعلموا } وأحق بأن لا يعلموا . { حدود ما أنزل الله على رسوله } من الشرائع فرائضها وسنتها . { والله عليم } بعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر . { حكيم } فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم عقابا وثوابا .
استئناف ابتدائي رجع به الكلام إلى أحوال المعذّرين من الأعراب والذين كذبوا الله ورسوله منهم ، وما بين ذلك استطراد دعا إليه قرن الذين كذبوا الله ورسوله في الذكر مع الأعراب . فلما تقضَّى الكلام على أولئك تخلص إلى بقية أحوال الأعراب . وللتنبيه على اتصال الغرضين وقع تقديم المسند إليه ، وهو لفظ ( الأعراب ) للاهتمام به من هذه الجهة ، ومن وراء ذلك تنبيه المسلمين لأحوال الأعراب لأنهم لبعدهم عن الاحتكاك بهم والمخالطة معهم قد تخفى عليهم أحوالهم ويظنون بجميعهم خيراً .
و ( أشد ) و ( أجدر ) اسما تفضيل ولم يذكر معهما ما يدل على مفضل عليه ، فيجوز أن يكونا على ظاهرهما فيكون المفضل عليه أهل الحضر ، أي كفار ومنافقي المدينة . وهذا هو الذي تواطأ عليه جميع المفسرين .
وازديادهم في الكفر والنفاق هو بالنسبة لكفار ومنافقي المدينة . ومنافقوهم أشد نفاقاً من منافقي المدينة . وهذا الازدياد راجع إلى تمكن الوصفين من نفوسهم ، أي كفرهم أمكن في النفوس من كفر كفار المدينة ، ونفاقهم أمكن من نفوسهم كذلك ، أي أمكن في جانب الكفر منه والبعدِ عن الإقلاع عنه وظهور بوادر الشر منهم ، وذلك أن غلظ القلوب وجلافة الطبع تزيد النفوس السيئة وحشة ونفوراً . ألا تعلم أن ذا الخويصرة التميمي ، وكان يدعى الإسلام ، لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الأقرع بن حابس ومن معه من صناديد العرب من ذهب قَسمَه قال ذو الخويصرة مواجهاً النبي صلى الله عليه وسلم « اعدل » فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " ويحك ومَن يعدل إن لم أعْدِل " .
فإن الأعراب لنشأتهم في البادية كانوا بعداء عن مخالطة أهل العقول المستقيمة وكانت أذهانهم أبعد عن معرفة الحقائق وأملأ بالأوهام ، وهُم لبعدهم عن مشاهدة أنوار النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وآدابه وعن تلقي الهدى صباحَ مساءَ أجهلُ بأمور الديانة وما به تهذيب النفوس ، وهم لتوارثهم أخلاق أسلافهم وبعدهم عن التطورات المدنية التي تؤثّر سُمّوا في النفوس البشرية ، وإتقاناً في وضع الأشياء في مواضعها ، وحكمة تقليدية تتدرج بالأزمان ، يكونون أقرب سيرة بالتوحش وأكثر غلظة في المعاملة وأضيع للتراث العلمي والخلقي ؛ ولذلك قال عثمان لأبي ذرّ لما عزم على سكنى الربذة : تَعَهَّد المدينةَ كيلا ترتَدَّ أعرابياً .
فأما في الأخلاق التي تحمد فيها الخشونة والغلظة والاستخفاف بالعظائم مثل الشجاعة ؛ والصراحة وإباء الضيم والكرم فإنها تكون أقوى في الأعراب بالجبلة ، ولذلك يكونون أقرب إلى الخير إذا اعتقدوه وآمنوا به .
ويجوز أن يكون { أشد } و { أجدر } مسلوبَيْ المفاضلة مستعملين لقوة الوصفين في الموصوفِين بهما على طريقة قوله تعالى : { قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } [ يوسف : 33 ] . فالمعنى أن كفرهم شديد التمكن من نفوسهم ونفاقهم كذلك ، من غير إرادة أنهم أشد كفراً ونفاقاً من كفار أهل المدينة ومنافقيها .
وعلى كلا الوجهين فإن { كفراً ونفاقاً } منصوبان على التمييز لبيان الإبهام الذي في وصف { أشد } . سلك مسلك الإجمال ثم التفصيل ليتمكن المعنى أكمل تمكن .
والأجدر : الأحق . والجَدارة : الأولوية . وإنما كانوا أجدر بعدم العلم بالشريعة لأنهم يبعدون عن مجالس التذكير ومنازل الوحي ، ولقلة مخالطتهم أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذفت الباء التي يتعدى بها فعل الجدارة على طريقة حذف حرف الجر مع ( أن ) المصدرية .
والحدود : المقادير والفواصل بين الأشياء . والمعنى أنهم لا يعلمون فواصل الأحكام وضوابط تمييز متشابهها .
وفي هذا الوصف يَظهر تفاوت أهل العلم والمعرفة . وهو المعبر عنه في اصطلاح العلماء بالتحقيق أو بالحكمة المفسرة بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه ، فزيادة قيد ( على ما هي عليه ) للدلالة على التمييز بين المختلطات والمتشابهات والخفيات .
وجملة : { والله عليم حكيم } تذييل لهذا الإفصاح عن دخيلة الأعراب وخلقهم ، أي عليم بهم وبغيرهم ، وحكيم في تمييز مراتبهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الأعراب أشدّ جحودا لتوحيد الله وأشدّ نفاقا من أهل الحضر في القرى والأمصار. وإنما وصفهم جلّ ثناؤه بذلك لجفائهم وقسوة قلوبهم وقلة مشاهدتهم لأهل الخير، فهم لذلك أقسى قلوبا وأقلّ علما بحقوق الله. وقوله:"وأجْدَرُ أنْ لا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أنْزَلَ اللّهُ على رَسُولِهِ" يقول: وأخلق أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله...
وقوله: "وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ "يقول: والله عليم بمن يعلم حدود ما أنزل على رسوله، والمنافق من خلقه والكافر منهم، لا يخفى عليه منهم أحد، حكيم في تدبيره إياهم، وفي حلمه عن عقابهم مع علمه بسرائرهم وخداعهم أولياءه.
قوله تعالى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ الله عَلَى رَسُولِهِ}. أطلق هذا الخبر عن الأعراب ومراده الأعمّ الأكثر منهم، وهم الذين كانوا يواطنون المنافقين على الكفر والنِّفاق.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ} ومعنى أجدر أي أقرب، مأخوذ من الجدار الذي يكون بين مسكني المتجاورين...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{الاعراب} أهل البدو {أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} من أهل الحضر لجفائهم وقسوتهم وتوحشهم، ونشئهم في بعد من مشاهدة العلماء ومعرفة الكتاب والسنّة، {وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ} وأحقّ بجهل حدود الدين وما أنزل الله من الشرائع والأحكام... {والله عَلِيمٌ} يعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر {حَكِيمٌ} فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم ومخطئهم ومصيبهم من عقابه وثوابه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وهذه الآية إنما نزلت في منافقين كانوا في البوادي، ولا محالة أن خوفهم هناك أقل من خوف منافقي المدينة، فألسنتهم لذلك مطلقة ونفاقهم أنجم..
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
إنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ كَانَ عَلَيْهِ فَرْضًا أَنْ يَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَكُونَ مَعَهُ، حَتَّى تَتَضَاعَفَ النُّصْرَةُ، وَتَنْفَسِحَ الدَّوْحَةُ، وَتَحْتَمِيَ الْبَيْضَةُ، وَيَسْمَعُوا من رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دِينَهُمْ، وَيَتَعَلَّمُوا شَرِيعَتَهُمْ حَتَّى يُبَلِّغُوهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ)، وَيُسْمَعُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْكُمْ، فَمَنْ تَرَكَ ذَلِكَ، وَبَقِيَ فِي إبِلِهِ وَمَاشِيَتِهِ، وَآثَرَ مَسْقَطَ رَأْسِهِ، فَقَدْ غَابَ عَنْ هَذِهِ الْحُظُوظِ، وَخَابَ عَنْ سَهْمِ الشَّرَفِ، وَكَانَ مَنْ صَارَ مَعَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -إذْ صَارَ إلَيْهِ مُؤَهَّلًا لِحَمْلِ الشَّرِيعَةِ وَتَبْلِيغِهَا، مُتَشَرِّفًا بِمَا تَقَلَّدَ من عُهْدَتِهَا، وَكَانَ مَنْ بَقِيَ فِي مَوْضِعِهِ خَائِبًا من هَذَا الْحَظِّ مُنْحَطًّا عَنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ. وَاَلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ يُشَاهِدُونَ آيَاتِهِ، وَيُطَالِعُونَ غُرَّتَهُ الْبَهِيَّةِ، كَانَ الشَّكُّ يَخْتَلِجُ فِي صُدُورِهِمْ، وَالنِّفَاقُ يَتَسَرَّبُ إلَى قُلُوبِهِمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ غَابَ عَنْهُ، فَعَنْ هَذَا وَقَعَ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ}؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَلَى إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ مَغْرَمًا لَا مَغْنَمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْلَمُ لَهُ اعْتِقَادُهُ؛ فَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ وَسِيلَةً إلَى اللَّهِ، وَقُرْبَةً وَرَغْبَةً فِي صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَرِضَاهُ عَنْهُ.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآيات الثلاث في بيان حال الأعراب منافقيهم ومؤمنيهم، والظاهر أنها قد نزلت هي وما بعدها إلى آخر السورة بعد وصول النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى المدينة. فهي بدء سياق جديد في تفصيل أحوال المسلمين في ذلك العهد، بدئ بذكر الأعراب من المنافقين لمناسبة ما قبله وفصل عنه لأنه سياق جديد مع ما بعده.
{الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا ونِفَاقًا وأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ} بيان مستأنف لحال سكان البادية من المنافقين، لأنه مما يسأل عنه بعد ما تقدم في منافقي الحضر من سكان المدينة وغيرها من القرى. فالأعراب اسم جنس لبدو العرب، واحده أعرابي، والأنثى أعرابية والجمع أعاريب والعرب اسم جنس لهذا الجيل الذي ينطق بهذه اللغة بدوه وحضره واحده عربي. وقد وصف الأعراب بأمرين اقتضتهما طبيعة البداوة: الأول أن كفارهم ومنافقيهم أشد كفرا ونفاقا من أمثالهم من أهل الحضر ولاسيما الذين يقيمون في المدينة المنورة نفسها لأنهم أغلظ طباعا، وأقسى قلوبا، وأقل ذوقا وآدابا، -كدأب أمثالهم من بدو سائر الأمم بما يقضون جل أعمارهم في رعي الأنعام وحمايتها من ضواري الوحوش، ومن تعدي أمثالهم عليها وعلى نسائهم وذراريهم، فهم محرومون من وسائل العلوم الكسبية، والآداب الاجتماعية. الثاني: أنهم أجدر أي أحق وأخلق من أهل الحضر بأن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله من البينات والهدى في كتابه، وما آتاه من الحكمة التي بين بها تلك الحدود بسنن أقواله وأفعاله، وفهم ألفاظ القرآن اللغوية لا يكفي في علم حدوده العملية. كان أهل المدينة وما حولها من القرى يتلقون عنه صلى الله عليه وسلم كل ما كان ينزل من القرآن وقت نزوله ويشهدون سنته في العمل به، وكان يرسل العمال إلى البلاد المفتوحة يقيمون فيها يبلغون القرآن، ويحكمون بين الناس به وبالنسبة المبينة له، فيعرف أهلها الحدود التي حدها الله تعالى ونهاهم أن يعتدوها. ولم يكن هذا كله ميسورا لأهل البوادي، وهم مأمورون بالهجرة، لأجل العلم والنصرة، لأن الإسلام دين علم وحضارة.
فالأعراب أجدر بالجهل من الحضر بطبيعة البداوة لا بضعف أفهامهم، أو بلادة أذهانهم، أو ضيق نطاق بيانهم، فقد كانوا مضرب الأمثال في قوة الجنان، ولوذعية الأذهان، وذرابة اللسان، وسعة بيداء البيان، وعنهم أخذ رواة العربية أكثر مفردات العربية وأساليبها.
والجدارة بالشيء قد تكون طبيعة، وقد تكون بأسباب كسبية، من فنية وشرعية وأدبية، وقد تكون بأسباب سلبية اقتضتها حالة المعيشة والبيئة، قيل: إنها مشتقة من الجدار وهو الحائط الذي يكون حدا للبستان أو الدار، وقيل من جدر الشجرة، ويرادف الجدير بالشيء والأجدر، الحقيق والأحق، والخليق والأخلق، وقد يستعمل أفعل في كل منها للتفضيل مع التصريح بالمفضل عليه غالبا. كحديث "والثيب أحق بنفسها من وليها"، ومع تركه للعلم به أحيانا، ومنه قوله تعالى: {ورضوان من الله أكبر} [آل عمران: 15].
{والله عليم حكيم} واسع العلم بأمور عباده وصفاتهم وأحوالهم الظاهرة من بداوة وحضارة وعلم وجهل، والباطنة من إيمان وكفر، وإخلاص ونفاق، تام الحكمة فيما يحكم به عليهم، وما يشرعه لهم، وما يجزيهم به، من نعيم مقيم، أو عذاب أليم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
في هذه الآيات الثّلاث ـ استمراراً للبحث المتقدم حول منافقي المدينة ـ حديث وبحث حول وضع منافقي الأعراب ـ وهم سكان البوادي ـ وعلاماتهم وأفكارهم، وكذلك قد تحدثت حول المؤمنين الخلص منهم.
وربّما كان السبب في تحذير المسلمين من هؤلاء، هو أن لا يتصور المسلمون أن المنافقين هم ـ فقط ـ هؤلاء المتواجدون في المدينة، بل إنّ المنافقين من الأعراب أشدّ وأقسى، وشواهد التأريخ الإِسلامي تدل على المسلمين قد تعرضوا عدّة مرات لهجوم منافقي البادية، ولعل الانتصارات المتلاحقة لجيش الإِسلام هي التي جعلت المسلمين في غفلة عن خطر هؤلاء.
على كل حال، فالآية الأُولى تقول: إنّ الأعراب، بحكم بعدهم عن التعليم والتربية، وعدم سماعهم الآيات الرّبانية وكلام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أشدّ كفراً ونفاقاً من مشابهيهم في المدينة: (الأعراب أشد كفراً ونفاقاً)
ولهذا البعد والجهل فمن الطبيعي، بل الأولى أن يجهلوا الحدود والأحكام الإِلهية التي نزلت على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله).
كلمة «الأعراب» من الكلمات التي تعطي معنى الجمع، ولا مفرد لها في لغة العرب، وعلى ما قاله أئمّة اللغة كمؤلف القاموس والصحاح وتاج العروس وآخرون فإن هذه الكلمة تطلق على سكان البادية فقط، ومختصة بهم، وإذا أرادوا إطلاقهم على شخص واحد فإنّهم يستعملون نفس هذه الكلمة ويلحقون بها ياء النسب، فيقولون: أعرابي. وعلى هذا فإنّ أعراب ليست جمع عرب كما يظن البعض.
أمّا «أجدر» فهي مأخوذة من الجدار، ومن ثمّ أُطلقت على كل شيء مرتفع ومناسب، ولهذا فإنّ (أجدر) تستعمل عادةً بمعنى الأنسب والأليق.
وتقول الآية أخيراً: (والله عليم حكيم) أي إِنّه تعالى عندما يحكم على الأعراب بمثل هذا الحكم، فلأنّه يناسب الوضع الخاص لهم، لأنّ محيطهم يتصف بمثل هذه الصفات.
لكن ومن أجل أن لا يُتوهم بأنّ كل الأعراب أو سكان البوادي يتصفون بهذه الصفات، فقد أشارت الآية التالية إِلى مجموعتين من الأعراب.