قوله تعالى : { الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } الآية .
لمَّا ذكر الله تعالى أحوال المنافقين في المدينة ذكر من كان خارجاً منها ، ونائباً عنها من الأعراب فقال : كفرهم أشد . قال قتادةُ : " لأنَّهم أبعد عن معرفة السنن " {[18053]} وقيل : لأنَّهم أقسَى قلباً ، وأكذبُ قولاً ، وأغلظُ طبعاً ، وأبعد عن استماع التنزيل ، ولذا قال تعالى في حقِّهم : " وأجْدَرُ " أي : أخلق . " أَلاَّ يَعْلَمُواْ " . ولمَّا دلَّ ذلك على نقصهم من المرتبة الكاملة عن سواهم ، ترتب على ذلك أحكام :
منها : أنَّهُ لا حقَّ لهم في الفيء والغنيمة ، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريدة : " . . . ولا يكُون لهُمْ فِي الغنيمةِ والفيءِ شيءٌ إلاَّ أنْ يُجاهدُوا مع المسلمينَ " {[18054]} ومنها : إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة ، لتحقق التهمة . وأجازها أبو حنيفة ؛ لأنَّها لا تراعى كل تهمة والمسلمون كلهم عنده عدول ، وأجازها الشافعيُّ إذا كان عدلاً ، وهو الصحيحُ .
قوله : " الأعراب " صيغة جمعٍ ، وليس جمعاً ل " عَرَب " قاله سيبويه ، وذلك لئلاَّ يلزم أن يكون الجمع أخصَّ من الواحد ، فإنَّ العرب هذا الجيل الخاص ، سواء سكن البوادي ، أم سكن القرى .
وأمَّا الأعراب ، فلا يطلق إلاَّ على من كان يسكن البوادي فقط ، وقد تقدَّم عند قوله تعالى : { رَبِّ العالمين } [ الفاتحة : 2 ] ، أوَّل الفاتحة . ولهذا الفرق نسب إلى " الأعْراب " على لفظه فقيل : أعرابي ويجمع على " أعَارِيب " . قال أهلُ اللغة : " يقال : رجلٌ عربيّ ، إذا كان نسبه في العربِ ، وجمعه العربُ ، كما يقال : يهُوديٌّ ومجُوسيٌّ ، ثم تحذف ياء النسب في الجمع ، فيقال : اليهُودُ والمجُوسُ ، ورجلٌ أعرابي بالألف إذا كان بدوياً ، ويطلب مساقط الغيث والكلأ ، سواء كان من العربِ ، أو من مواليهم . ويجمع الأعرابي على الأعراب ، والأعاريب ، والأعرابي إذا قيل له : يا عربي ، فرح والعربي إذا قيل له : يا أعرابيّ ، غضب ، فمن استوطن القرى العربية فهم عرب ، ومن نزل البادية فهم أعرابٌ ويدلُّ على الفرق قوله عليه الصلاة والسلام " حُبُّ العربِ من الإيمانِ " {[18055]} وأما الأعرابُ فقد ذمَّهم الله تعالى في هذه الآية . وأيضاً لا يجُوزُ أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب ، إنَّما هُمْ عرب ، وهم متقدِّمون في مراتب الدِّين على الأعراب ، قال عليه الصلاة والسلام " لا تُؤُمَّنَّ امرأةٌ رجُلاً ولا فاسقٌ مُؤمناً ولا أعرابيٌّ مُهاجِراً " {[18056]} .
قال بعضُ العلماء : الجمع المحلى بالألف واللاَّم الأصل فيه أن ينصرف إلى المعهود السابق فإن لم يوجد المعهود السابق ، حمل على الاستغراق للضرورة ، قالوا : لأنَّ صيغة الجمع تكفي في حصول معناها الثلاثة فما فوقها ، والألف واللام للتعريف ، فإن حصل جمع هو معهود سابق ؛ وجب الانصراف إليه ، وإن لم يوجد حمل على الاستغراق ، دفعاً للإجمال . قالوا : إذا ثبت هذا فقوله : " الأعرابُ " المرادُ منه جمع مُعَيَّنُون من منافقي الأعراب ، كانوا يوالون منافقي المدينة ، فانصرف هذا اللَّفْظُ إليهم .
سمي العربُ عرباً ، لأنَّ أباهُم : يعربُ بنُ قطعان ، فهو أوَّلُ من نطق بالعربيَّةِ ، وقيل : سمُّوا عرباً ؛ لأنَّ ولد إسماعيل نشئوا ب " عربة " وهي تهامة ، فنسبوا إلى بلدهم ، وكلُّ من يسكن جزيرة العرب وينطقُ بلسانهم ؛ فهو منهم ؛ لأنَّهم إنَّما تولَّدُوا من ولد إسماعيل ، وقيل : سمُّوا عرباً ؛ لأنَّ ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم ، وهذه الأقوال ليست بشيء من الأول ، فلأن إسماعيل حين ولدته هاجر نزلت عندهم " جُرهم " فربي بينهم ، وكانوا عرباً قبل إسماعيل ، ولأن " يعرب " من ولد إسماعيل ، وكان حميلاً عربياً .
وأمَّا الثاني لأن إسماعيل تعلَّم العربيَّة في " جُرهم " حين نزلوا عند هاجر بمكَّة .
والصحيحُ أنَّ العرب العاربة قبل إسماعيل منهم : عادٌ وثمود ، وطسْم ، وجديس ، وجرهم ، والعماليق ، وآدم يقال : إنَّه كان ملكاً ، وأنه أول من سقف البيوت بالخشب المنشور ، وكانت الفرس تسميه آدم الأصغر ، وبنوه قبيلة يقال لها " وبار " هلكوا بالرمل . انثال عليهم ؛ فأهلكهم وطمَّ منازلهم ، وفي ذلك يقول بعض الشعراء : [ الرجز ]
وكَرَّ دَهْرٌ على وَبَار *** فَهَلَكَتْ جَهْرَةً وبَارُ{[18057]}
وأمَّا الثالثُ ، فكلُّ لسان معرب عمَّا في ضمير صاحبه ، وإنَّما يظهر ما قاله النسابُون ، أنَّ سام بن نوح أبو العرب ، وفارس ، والروم ، فدل على أنَّ العرب موجودون من زمن سام بن نوح .
قال بعضهم : والصحيحُ إن شاء الله تعالى - أن آدم نطق بالعربيَّة ، وغيرها من الألسنةِ ، لقوله تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا } [ البقرة : 31 ] .
ولا شكّ أنَّ اللِّسان العربيّ مختصّ بأنواع الفصاحةِ والجزالة ، لا توجدُ في سائرِ الألسنةِ .
قال بعضُ الحكماءِ : حكمة الرُّوم في أدمغتهم ؛ لأنَّهم يقدرون على التركيبات العجيبة ، وحكمةُ الهندِ في أوهامهم ، وحكمةُ اليونانِ في أفئدتهم لكثرةِ ما لهم من المباحث العقليَّةِ ، وحكمة العرب في ألسنتهم بحلاوةِ ألفاظهم ، وعذوبة عباراتهم .
اعلم أن الله تعالى حكم على الأعراب بحكمين :
الأول : أنَّهُم أشدّ كفراً ونفاقاً ، والسبب فيه وجوه :
أحدها : أنَّ أهل البدو يشبهون الوحوش .
وثانيها : استيلاءُ الهواء الحار اليابس عليهم ، وذلك يزيدُ في التيه ، والتَّكبر ، والفخر ، والطيش عليهم .
وثالثها : أنَّهُم ما كانوا تحت سياسة سائس ، ولا تأديب مؤدب ؛ فنشأوا كما شاءوا ، ومن كان كذلك ؛ خرج على أشدِّ الجهات فساداً .
ورابعها : أنَّ من أصبح وأمسى مشاهداً لوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبياناته الشافية ، كيف يكون مُساوياً لمن لم يؤثر هذا الخير ، ولم يسمع خبره ؟
وخامسها : قابل الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية ، لتعرف الفرق بين أهل الحضرِ والباديةِ . و " أشَدّ " أصله : أشدد ، وقد تقدم . وقوله " كُفْراً " نصب على الحال ، و " نِفَاقاً " عطف عليه ، و " أجْدَرُ " عطف على " أشَدّ " .
الحكم الثاني : قوله : { وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ . . } " أجْدَر " أي : أحَقُّ وأولى ؛ يقال : هو جديرٌ وأجدرُ ، وحقيقٌ وأحقُّ ، وخليقٌ وأخلقُ ، وقمنٌ بكذا ، كلُّه بمعنى واحد ، قال الليثُ : جَدَر يَجْدرُ جدارَةً ، فهو جَديرٌ ، ويُثَنَّى ويُجمع ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
بخيْلٍ عليْهَا جِنَّةٌ عبْقريَّةٌ *** جَديرُونَ يَوْماً أنْ ينَالُوا فَيسْتَعْلُوا{[18058]}
وقد نبَّه الرَّاغبُ على أصل اشتقاقِ هذه المادة ، وأنَّها من الجدار ، أي : الحائط ، فقال : " والجديرُ : المُنتهى ، لانتهاء الأمر إليه ، انتهاءَ الشَّيء إلى الجدارِ " . والذي يظهر أنَّ اشتقاقه من : " الجَدْر ، وهو أصل الشجرة ؛ فكأنَّه ثابتٌ كثبوتِ الجدر في قولك : جدير بكذا .
وقوله : { أَلاَّ يَعْلَمُواْ } أي : بألاَّ يعلمُوا ، فحذف حرف الجر ؛ فجرى الخلافُ المشهور بين الخليل والكسائي ، مع سيبويه والفراء . والمراد بالحدُودِ : ما أنزل الله على رسوله ، وذلك لبعدهم عن سماع القرآن ومعرفة السُّننِ . { والله عَلِيمٌ } بما في قلوب خلقه : " حَكِيمٌ " فيما فرض عليهم من فرائضه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.