اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلۡأَعۡرَابُ أَشَدُّ كُفۡرٗا وَنِفَاقٗا وَأَجۡدَرُ أَلَّا يَعۡلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (97)

قوله تعالى : { الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } الآية .

لمَّا ذكر الله تعالى أحوال المنافقين في المدينة ذكر من كان خارجاً منها ، ونائباً عنها من الأعراب فقال : كفرهم أشد . قال قتادةُ : " لأنَّهم أبعد عن معرفة السنن " {[18053]} وقيل : لأنَّهم أقسَى قلباً ، وأكذبُ قولاً ، وأغلظُ طبعاً ، وأبعد عن استماع التنزيل ، ولذا قال تعالى في حقِّهم : " وأجْدَرُ " أي : أخلق . " أَلاَّ يَعْلَمُواْ " . ولمَّا دلَّ ذلك على نقصهم من المرتبة الكاملة عن سواهم ، ترتب على ذلك أحكام :

منها : أنَّهُ لا حقَّ لهم في الفيء والغنيمة ، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريدة : " . . . ولا يكُون لهُمْ فِي الغنيمةِ والفيءِ شيءٌ إلاَّ أنْ يُجاهدُوا مع المسلمينَ " {[18054]} ومنها : إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة ، لتحقق التهمة . وأجازها أبو حنيفة ؛ لأنَّها لا تراعى كل تهمة والمسلمون كلهم عنده عدول ، وأجازها الشافعيُّ إذا كان عدلاً ، وهو الصحيحُ .

قوله : " الأعراب " صيغة جمعٍ ، وليس جمعاً ل " عَرَب " قاله سيبويه ، وذلك لئلاَّ يلزم أن يكون الجمع أخصَّ من الواحد ، فإنَّ العرب هذا الجيل الخاص ، سواء سكن البوادي ، أم سكن القرى .

وأمَّا الأعراب ، فلا يطلق إلاَّ على من كان يسكن البوادي فقط ، وقد تقدَّم عند قوله تعالى : { رَبِّ العالمين } [ الفاتحة : 2 ] ، أوَّل الفاتحة . ولهذا الفرق نسب إلى " الأعْراب " على لفظه فقيل : أعرابي ويجمع على " أعَارِيب " . قال أهلُ اللغة : " يقال : رجلٌ عربيّ ، إذا كان نسبه في العربِ ، وجمعه العربُ ، كما يقال : يهُوديٌّ ومجُوسيٌّ ، ثم تحذف ياء النسب في الجمع ، فيقال : اليهُودُ والمجُوسُ ، ورجلٌ أعرابي بالألف إذا كان بدوياً ، ويطلب مساقط الغيث والكلأ ، سواء كان من العربِ ، أو من مواليهم . ويجمع الأعرابي على الأعراب ، والأعاريب ، والأعرابي إذا قيل له : يا عربي ، فرح والعربي إذا قيل له : يا أعرابيّ ، غضب ، فمن استوطن القرى العربية فهم عرب ، ومن نزل البادية فهم أعرابٌ ويدلُّ على الفرق قوله عليه الصلاة والسلام " حُبُّ العربِ من الإيمانِ " {[18055]} وأما الأعرابُ فقد ذمَّهم الله تعالى في هذه الآية . وأيضاً لا يجُوزُ أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب ، إنَّما هُمْ عرب ، وهم متقدِّمون في مراتب الدِّين على الأعراب ، قال عليه الصلاة والسلام " لا تُؤُمَّنَّ امرأةٌ رجُلاً ولا فاسقٌ مُؤمناً ولا أعرابيٌّ مُهاجِراً " {[18056]} .

فصل

قال بعضُ العلماء : الجمع المحلى بالألف واللاَّم الأصل فيه أن ينصرف إلى المعهود السابق فإن لم يوجد المعهود السابق ، حمل على الاستغراق للضرورة ، قالوا : لأنَّ صيغة الجمع تكفي في حصول معناها الثلاثة فما فوقها ، والألف واللام للتعريف ، فإن حصل جمع هو معهود سابق ؛ وجب الانصراف إليه ، وإن لم يوجد حمل على الاستغراق ، دفعاً للإجمال . قالوا : إذا ثبت هذا فقوله : " الأعرابُ " المرادُ منه جمع مُعَيَّنُون من منافقي الأعراب ، كانوا يوالون منافقي المدينة ، فانصرف هذا اللَّفْظُ إليهم .

فصل

سمي العربُ عرباً ، لأنَّ أباهُم : يعربُ بنُ قطعان ، فهو أوَّلُ من نطق بالعربيَّةِ ، وقيل : سمُّوا عرباً ؛ لأنَّ ولد إسماعيل نشئوا ب " عربة " وهي تهامة ، فنسبوا إلى بلدهم ، وكلُّ من يسكن جزيرة العرب وينطقُ بلسانهم ؛ فهو منهم ؛ لأنَّهم إنَّما تولَّدُوا من ولد إسماعيل ، وقيل : سمُّوا عرباً ؛ لأنَّ ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم ، وهذه الأقوال ليست بشيء من الأول ، فلأن إسماعيل حين ولدته هاجر نزلت عندهم " جُرهم " فربي بينهم ، وكانوا عرباً قبل إسماعيل ، ولأن " يعرب " من ولد إسماعيل ، وكان حميلاً عربياً .

وأمَّا الثاني لأن إسماعيل تعلَّم العربيَّة في " جُرهم " حين نزلوا عند هاجر بمكَّة .

والصحيحُ أنَّ العرب العاربة قبل إسماعيل منهم : عادٌ وثمود ، وطسْم ، وجديس ، وجرهم ، والعماليق ، وآدم يقال : إنَّه كان ملكاً ، وأنه أول من سقف البيوت بالخشب المنشور ، وكانت الفرس تسميه آدم الأصغر ، وبنوه قبيلة يقال لها " وبار " هلكوا بالرمل . انثال عليهم ؛ فأهلكهم وطمَّ منازلهم ، وفي ذلك يقول بعض الشعراء : [ الرجز ]

وكَرَّ دَهْرٌ على وَبَار *** فَهَلَكَتْ جَهْرَةً وبَارُ{[18057]}

وأمَّا الثالثُ ، فكلُّ لسان معرب عمَّا في ضمير صاحبه ، وإنَّما يظهر ما قاله النسابُون ، أنَّ سام بن نوح أبو العرب ، وفارس ، والروم ، فدل على أنَّ العرب موجودون من زمن سام بن نوح .

قال بعضهم : والصحيحُ إن شاء الله تعالى - أن آدم نطق بالعربيَّة ، وغيرها من الألسنةِ ، لقوله تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا } [ البقرة : 31 ] .

ولا شكّ أنَّ اللِّسان العربيّ مختصّ بأنواع الفصاحةِ والجزالة ، لا توجدُ في سائرِ الألسنةِ .

قال بعضُ الحكماءِ : حكمة الرُّوم في أدمغتهم ؛ لأنَّهم يقدرون على التركيبات العجيبة ، وحكمةُ الهندِ في أوهامهم ، وحكمةُ اليونانِ في أفئدتهم لكثرةِ ما لهم من المباحث العقليَّةِ ، وحكمة العرب في ألسنتهم بحلاوةِ ألفاظهم ، وعذوبة عباراتهم .

فصل

اعلم أن الله تعالى حكم على الأعراب بحكمين :

الأول : أنَّهُم أشدّ كفراً ونفاقاً ، والسبب فيه وجوه :

أحدها : أنَّ أهل البدو يشبهون الوحوش .

وثانيها : استيلاءُ الهواء الحار اليابس عليهم ، وذلك يزيدُ في التيه ، والتَّكبر ، والفخر ، والطيش عليهم .

وثالثها : أنَّهُم ما كانوا تحت سياسة سائس ، ولا تأديب مؤدب ؛ فنشأوا كما شاءوا ، ومن كان كذلك ؛ خرج على أشدِّ الجهات فساداً .

ورابعها : أنَّ من أصبح وأمسى مشاهداً لوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبياناته الشافية ، كيف يكون مُساوياً لمن لم يؤثر هذا الخير ، ولم يسمع خبره ؟

وخامسها : قابل الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية ، لتعرف الفرق بين أهل الحضرِ والباديةِ . و " أشَدّ " أصله : أشدد ، وقد تقدم . وقوله " كُفْراً " نصب على الحال ، و " نِفَاقاً " عطف عليه ، و " أجْدَرُ " عطف على " أشَدّ " .

الحكم الثاني : قوله : { وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ . . } " أجْدَر " أي : أحَقُّ وأولى ؛ يقال : هو جديرٌ وأجدرُ ، وحقيقٌ وأحقُّ ، وخليقٌ وأخلقُ ، وقمنٌ بكذا ، كلُّه بمعنى واحد ، قال الليثُ : جَدَر يَجْدرُ جدارَةً ، فهو جَديرٌ ، ويُثَنَّى ويُجمع ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]

بخيْلٍ عليْهَا جِنَّةٌ عبْقريَّةٌ *** جَديرُونَ يَوْماً أنْ ينَالُوا فَيسْتَعْلُوا{[18058]}

وقد نبَّه الرَّاغبُ على أصل اشتقاقِ هذه المادة ، وأنَّها من الجدار ، أي : الحائط ، فقال : " والجديرُ : المُنتهى ، لانتهاء الأمر إليه ، انتهاءَ الشَّيء إلى الجدارِ " . والذي يظهر أنَّ اشتقاقه من : " الجَدْر ، وهو أصل الشجرة ؛ فكأنَّه ثابتٌ كثبوتِ الجدر في قولك : جدير بكذا .

وقوله : { أَلاَّ يَعْلَمُواْ } أي : بألاَّ يعلمُوا ، فحذف حرف الجر ؛ فجرى الخلافُ المشهور بين الخليل والكسائي ، مع سيبويه والفراء . والمراد بالحدُودِ : ما أنزل الله على رسوله ، وذلك لبعدهم عن سماع القرآن ومعرفة السُّننِ . { والله عَلِيمٌ } بما في قلوب خلقه : " حَكِيمٌ " فيما فرض عليهم من فرائضه .


[18053]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/450) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/481) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[18054]:أخرجه مسلم (3/1357) كتاب الجهاد: باب جواز الإغارة على الكفار (3/1730).
[18055]:أخرجه الحاكم (4/87) وأبو نعيم (2/333) والطبراني في الأوسط كما في "المجمع" (10/56) من طريق الهيثم عن أنس به وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ورده الذهبي بقوله: قلت: الهيثم متروك وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد (10/56) وقال: رواه الطبرانب في الأوسط وفيه الهيثم بن جماز وهو متروك.
[18056]:أخرجه ابن ماجه (1/343) كتاب إقامة الصلاة: باب في فرض الجمعة حديث (1081) والبيهقي (3/90، 171) قال البوصيري: إسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان وعبد الله بن محمد العدوي.
[18057]:البيت للأعشى ينظر: ديوانه (281) شرح أبيات سيبويه 2/240، شرح الأشموني 2/538، شرح التصريح 2/225، شرح شذور الذهب ص 125، شرح المفصل 4/64، 65، الكتاب 3/279، المقاصد النحوية 4/358، همع الهوامع 1/29 أمالي ابن الحاجب ص (364) أوضح المسالك 4/130، المقتضب 3/375250المقرب 1/282، اللسان (وبر) وروي "ومر" بدل "وكر".
[18058]:تقدم.