ثم أخذت السورة بعد ذلك في توبيخ المشركين ، وفى إبطال شركهم بأسلوب منطقى حكيم فقالت : { أَيُشْرِكُونَ . . . } .
قوله - تعالى - { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أى : أيشركون به - تعالى - وهو الخالق لهم ولكل شىء ، مالا يخلق شيئاً من الأشياء مهما يكن حقيراً ، بل إن هذه الأصنام التي تعبد من دون الله مخلوقة ومصنوعة ، فكيف يليق بسليم العقل أن يجعل المخلوق العاجز شريكا للخالق القادر .
والاستفهام للإنكار والتجهيل . والمراد بما في قوله { مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً } أصنامهم ، ورجع الضمير إليها مفرداً لرعاية لفظها ، كما أن إرجاع ضمير الجمع إليها في قوله { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } لرعاية معناها .
وجاء بمضير العقلاء في { يُخْلَقُونَ } مسايرة لهم في اعتقادهم أنها تضر وتنفع .
ولهذا قال : { أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي : أتشركون{[12525]} به من المعبودات ما لا يخلق شيئًا ولا يستطيع ذلك ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحج : 73 ، 74 ] أخبر تعالى أنه لو اجتمعت آلهتهم كلها ، ما استطاعوا خلق ذبابة ، بل لو أستَلبتهم{[12526]} الذبابة شيئا من حَقير المطاعم{[12527]} وطارت ، لما استطاعوا إنقاذ ذلك منها ، فمن هذه صفته وحاله ، كيف يعبد ليرزق ويستنصر ؟ ولهذا قال تعالى : { لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي : بل هم مخلوقون مصنوعون كما قال الخليل : { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * [ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ]{[12528]} } [ الصافات : 95 ، 96 ]
القول في تأويل قوله تعالى : { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : أيشركون في عبادة الله ، فيعبدون معه ما لا يخلق شيئا والله يخلقها وينشئها ، وإنما العبادة الخالصة للخالق لا للمخلوق ؟
وكان ابن زيد يقول في ذلك بما : حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال : وُلد لاَدم وحوّاء ولد ، فسمّياه عبد الله ، فأتاهما إبليس فقال : ما سميتما يا آدم ويا حوّاء ابنكما ؟ قال : وكان وُلد لهما قبل ذلك ولد ، فسمياه عبد الله ، فمات فقالا : سميناه عبد الله . فقال إبليس : أتظنان أن الله تارك عبده عندكما ؟ لا والله ليذهبن به كما ذهب بالاَخر ولكن أدلكما على اسم يبقى لكما ما بقيتما ؟ فسمياه عبد شمس قال : فذلك قول الله تبارك وتعالى : أيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئا وَهُمْ يُخْلَقُونَ الشمس تخلق شيئا حتى يكون لها عبد ؟ إنما هي مخلوقة . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خَدَعَهُما مَرّتَيْنِ : خَدَعَهُما فِي الجَنّةِ ، وَخَدَعَهُما فِي الأرْضِ » .
وقيل : وَهُمْ يُخْلَقُونَ ، فأخرج مكنيهم مخرج مكنّى بني آدم ، وقد قال : أيُشْرِكُونَ ما فأخرج ذكرهم ب «ما » لا ب «من » مخرج الخبر عن غير بني آدم ، لأن الذي كانوا يعبدونه إنما كان حجرا أو خشبا أو نجاسا ، أو بعض الأشياء التي يخبر عنها ب «ما » لا ب «من » ، فقيل لذلك «ما » ، ثم قيل : «وهم » ، فأخرجت كنايتهم مخرج كناية بني آدم ، لأن الخبر عنها بتعظيم المشركين إياها نظير الخبر عن تعظيم الناس بعضهم بعضا .
{ أيُشركون ما لا يخلق شيئا وهم يُخلقون } يعني الأصنام . وقيل : لما حملت حواء أتاهما إبليس في صورة رجل فقال لها : ما يدريك ما في بطنك لعله بهيمة أو كلب وما يدريك من أين يخرج ، فخافت من ذلك وذكرته لآدم فهما منه ثم عاد إليها وقال : إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله أن يجعله خلقا مثلك ويسهل عليك خروجه تسميه عبد الحارث ، وكان اسمه حارثا بين الملائكة فتقبلت ، فلما ولدت سمياه عبد الحارث . وأمثال ذلك لا تليق بالأنبياء ويحتمل أن يكون الخطاب في { خلقكم } لآل قصي من قريش ، فإنهم خلقوا من نفس قصي وكان له زوج من جنسه عربية قرشية وطلبا من الله الولد فأعطاهما أربعة بنين فسمياهم : عبد مناف ، وعبد شمس ، وعبد قصي ، وعبد الدار . ويكون الضمير في { يشركون } لهما ولأعقابهما المقتدين بهما . وقرأ نافع وأبو بكر " شركا " أي شركة بأن أشركا فيه غيره أو ذوي شرك وهم الشركاء ، وهم ضمير الأصنام جيء به على تسميتهم إياها آلهة .
وقرأ نافع والحسن وأبو جعفر وأبو عمرو وعاصم «عما يشركون أيشركون » بالياء من تحت فيهما ، وقرأ أبو عبد الرحمن «عما تشركون » بالتاء من فوق «أتشركون مالا يخلق » الآية ، وروى بعض من قال إن الآيات في آدم وحواء أن إبليس جاء إلى آدم وقد مات له ولد اسمه عبد الله فقال : إن شئت أن يعيش لك الولد فسمه عبد شمس ، فولد له ولد فسماه كذلك وإياه عنى بقوله { أيشركون مالا يخلق شيئاً } ، { وهم يخلقون } على هذا عائد على آدم وحواء والابن المسمى عبد شمس ، ومن قال بالقول الآخر قال إن هذه في مشركي الكفار الذين يشركون الأصنام في العبادة وإياها أراد بقوله { ما لا يخلق } ، وعبر عنها بهم كأنها تعقل على اعتقاد الكفار فيها وبحسب أسمائها ، و { يخلقون } معناه ينحتون ويصنعون ، ويحتمل على قراءة «يشركون » بالياء من تحت أني كون المعنى وهؤلاء المشركون يخلقون ، أي فكان قولهم أن يعتبروا بأنهم مخلوقون فيجعلون إلههم خالقهم لا من لا يخلق شيئاً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.