فأجاب معتذرا لربه - تعالى - بقوله : { هُمْ أولاء على أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى } أى : على مقربة منى ، وسيلحقون بى بعد زمن قليل { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى } أى : وقد حملنى على أن أحضر قلبهم ، شوقى إلى مكالمتك - يا إلهى - وطمعى فى زيادة رضاك عنى .
فموسى - عليه السلام - قد علل تقدمه على قومه فى الحضور بعلتين ، الأولى : أنهم كانوا على مقربة منه . والثانية : حرصه على استدامة رضى ربه عنه .
قال صاحب الكشاف : فأن قلت : { مَآ أَعْجَلَكَ } سؤال عن سبب العجلة ، فكان الذى ينطبق عليه من الجواب أن يقال : طلب زيادة رضاك أو الشوق فى كلامك . وقوله : { هُمْ أولاء على أَثَرِي } كما ترى غير منطبق عليه ؟
قلت : قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين : أحدهما : إنكار العجلة فى نفسها ، والثانى : السسؤال عن سببها الحامل عليها ، فكان أهم الأمرين إلى موسى بسط العذر ، وتمهيد العلة فى نفس ما أنكر عليه ، فاعتل بأنه لم يوجد منى إلا تقدم يسير ، مثله لا يعتد به فى العادة ، ولا يحتفل به ، وليس بينى وبين من سبقته إلى مسافة قريبة ، يتقدم بمثلها الوفْدَ رئيسُهم ومقدمُهم . ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال : { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى } .
قال : هم أولاء على أثري ، وعجلت إليك رب لترضى . قال : فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري ) .
وهكذا فوجئ موسى . . إنه عجلان إلى ربه ، بعدما تهيأ واستعد أربعين يوما ، ليلقاه ويتلقى منه التوجيه الذي يقيم عليه حياة بني إسرائيل الجديدة . وقد استخلصهم من الذل والاستعباد ، ليصوغ منهم أمة ذات رسالة ، وذات تكاليف .
ولكن الاستعباد الطويل والذل الطويل في ظل الفرعونية الوثنية كان قد أفسد طبيعة القوم وأضعف استعدادهم لاحتمال التكاليف والصبر عليها ، والوفاء بالعهد والثبات عليه ؛ وترك في كيانهم النفسي خلخلة واستعدادا للانقياد والتقليد المريح . . فما يكاد موسى يتركهم في رعاية هارون ويبعد عنهم قليلا حتى تتخلخل عقيدتهم كلها وتنهار أمام أول اختبار . ولم يكن بد من اختبارات متوالية وابتلاءات متكررة لإعادة بنائهم النفسي .
وقرأت فرقة «أولايَ » بياء مفتوحة{[8146]} . وقوله { على أثري } يحتمل أن يكون في موضع رفع خبراً بعد خبر ، ويحتمل أن يكون في موضع نصب في موضع الحال ، وقرأت فرقة «على أَثَري » بفتح الهمزة والثاء ، وقرأت فرقة «إثْري » بكسر الهمزة وسكون الثاء ، وأعمله موسى عليه السلام أنه إنما استعجل طلب الرضى .
قوله هنا { هُمْ أُوْلاءِ على أَثَرِي } يدل على أنّهم كانوا سائرين خلفه وأنه سبقهم إلى المناجاة .
واعتذر عن تعجّله بأنه عجّل إلى استجابة أمر الله مبالغة في إرضائه ، فقوله تعالى : { فَإنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ } فيه ضرب من المَلام على التعجل بأنّه تسبب عليه حدوث فتنة في قومه ليعلمه أن لا يتجاوز ما وُقت له ولو كان لرغبة في ازدياد من الخير .
والأثَر بفتحتين : ما يتركه الماشي على الأرض من علامات قدَم أو حافر أو خفّ . ويقال : إثْر بكسر الهمزة وسكون الثاء وهما لغتان فصيحتان كما ذكر ثعلب . فمعنى قولهم : جاء على إثره ، جاء موالياً له بقرب مجيئه ، شبه الجائي الموالي بالذي يمشي على علامات أقدام مَن مشى قبله قبل أن يتغيّر ذلك الأثرُ بأقدام أخرى ، ووجه الشبه هو موالاته وأنه لم يسبقه غيره .
والمعنى : هم أولاء سائرون على مواقع أقدامي ، أي موالون لي في الوصول . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم « وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدَمِي » ، تقديره : يحشرون سائرين على آثار قدمي .
وقرأ الجمهور { على أَثرِي } بفتحتين . وقرأه رويس عن يعقوب بكسر الهمزة وسكون الثاء .
واستعمل تركيب { هُمْ أُوَلاءِ } مجرّداً عن حرف التنبيه في أول اسم الإشارة خلافاً لقوله في سورة النساء ( 109 ) : { ها أنتم هؤلاء جادلتم } ، وتجريد اسم الإشارة من هاء التنبيه استعمال جائز وأقل منه استعماله بحرف التنبيه مع الضمير دون اسم الإشارة ، نحو قول عبد بني الحسحاس :
وتقدّم عند قوله تعالى : { ها أنتم أولاء تحبونهم } في سورة آل عمران ( 119 ) .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"قال هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرَي" يقول: قومي على أثري يَلْحَقُون بي. "وَعَجِلْتُ إلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَى" يقول: وعجلت أنا فسبقتهم ربّ، كيما ترضى عني.
وإنما قال الله تعالى ذكره لموسى: ما أعجلك عن قومك؟ لأنه جلّ ثناؤه، فيما بلغنا، حين نجاه وبني إسرائيل من فرعون وقومه، وقطع بهم البحر، وعدَهم جانب الطور الأيمن، فتعجّل موسى إلى ربه، وأقام هارون مع بني إسرائيل، يسير بهم على أثر موسى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قال هم أولاء على أثري} هذا على التأويل الأول [يعني أن المقصود بقومه: السبعين المختارين]، أي هم يجيئون على أثري، وعلى التأويل الثاني [يعني بقومه: كل بني إسرائيل]: أي تركتهم على ديني وسبيلي، وهو قول الحسن وقتادة. وقوله تعالى: {وعجلت إليك رب لترضى} أي عجلت إليك ربي في ما دعوتني إجابة وطاعة في ما أمرتني لترضى. هذا على التأويل الذي قال: إنه خرج وحده، وعلى التأويل الذي يقول إنه خرج بنفر، يقول، والله أعلم: {وعجلت إليك رب لترضى} إذ لم يكن لي سبب ولا مانع يمنعني عن الإسراع إلى ما دعوتني، وأمرتني. وهكذا عندنا أن من لزمه أمر الله وفرضه لزمه الإسراع والعجلة إلى القيام بأدائه، إذا لم يكن هناك سبب يمنعه عن التعجيل له والقيام به، والله أعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين، أحدهما: إنكار العجلة في نفسها. والثاني: السؤال عن سبب المستنكر والحامل عليه، فكان أهمّ الأمرين إلى موسى بسط العذر وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه، فاعتلّ بأنه لم يوجد مني إلا تقدّم يسير، مثله لا يعتد به في العادة ولا يحتفل به. وليس بيني وبين من سبقته إلا مسافة قريبة يتقدّم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمهم، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لترضى} ولقائل أن يقول: حار لما ورد عليه من التهيب لعتاب الله، فأذهله ذلك عن الجواب المنطبق المرتب على حدود الكلام.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قال} موسى ظناً منه أنهم أسرعوا وراءه: {هم} وأتى باسم الإشارة وأسقط منه هاء التنبيه لأنه لا يليق بخطاب الله، قال ابن هبيرة: ولم أر أحداً من الأصفياء خاطب ربه بذلك، وإنما خاطب به الكفار لغباوتهم (قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك} [النحل: 86] في أمثالها وأما آخر الزخرف فقد ذكر سر التعبير بها في موضعه {أولاء} أي هم في القرب بحيث يسار إليهم، كائنين {على أثري} أي ماشين على آثار مشيي قبل أن ينطمس لم أسبقهم إلا بشيء جرت العادة في السبق بمثله بين الرفاق، وهذا بناء منه على ما كان عهد إليهم، وأكد فيه عليهم: ثم اعتذر عن فعله فقال: {وعجلت} أنا بالمبادرة {إليك} وجرى على عادة أهل القرب كما يحق له فقال: {رب} أي أيها المسارع في إصلاح شأني والإحسان إليّ {لترضى} عني رضاً أعظم مما كان.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
والمراد من {إِلَيْكَ} إلى مكان وعدك... ونداؤه تعالى بعنوان الربوبية لمزيد الضراعة والابتهال رغبة في قبول العذر.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
إنما أراد الله تعالى بسؤاله عن سبب العجلة، وهو أعلم، أن يعلم موسى أدب السفر. وهو أنه ينبغي تأخر رئيس القوم عنهم في المسير، ليكون نظره محيطا بطائفته، ونافذا فيهم، ومهيمنا عليهم. وهذا المعنى لا يحصل في تقدمه عليهم، ألا ترى الله عز وجل كيف علم هذا الأدب لوطا، فقال: {واتبع أدبارهم} فأمره أن يكون أخيرهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهكذا فوجئ موسى.. إنه عجلان إلى ربه، بعد ما تهيأ واستعد أربعين يوما، ليلقاه ويتلقى منه التوجيه الذي يقيم عليه حياة بني إسرائيل الجديدة. وقد استخلصهم من الذل والاستعباد، ليصوغ منهم أمة ذات رسالة، وذات تكاليف. ولكن الاستعباد الطويل والذل الطويل في ظل الفرعونية الوثنية كان قد أفسد طبيعة القوم وأضعف استعدادهم لاحتمال التكاليف والصبر عليها، والوفاء بالعهد والثبات عليه؛ وترك في كيانهم النفسي خلخلة واستعدادا للانقياد والتقليد المريح.. فما يكاد موسى يتركهم في رعاية هارون ويبعد عنهم قليلا حتى تتخلخل عقيدتهم كلها وتنهار أمام أول اختبار. ولم يكن بد من اختبارات متوالية وابتلاءات متكررة لإعادة بنائهم النفسي.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والأثَر بفتحتين: ما يتركه الماشي على الأرض من علامات قدَم أو حافر أو خفّ. ويقال: إثْر بكسر الهمزة وسكون الثاء وهما لغتان فصيحتان كما ذكر ثعلب. فمعنى قولهم: جاء على إثره، جاء موالياً له بقرب مجيئه، شبه الجائي الموالي بالذي يمشي على علامات أقدام مَن مشى قبله قبل أن يتغيّر ذلك الأثرُ بأقدام أخرى، ووجه الشبه هو موالاته وأنه لم يسبقه غيره. والمعنى: هم أولاء سائرون على مواقع أقدامي، أي موالون لي في الوصول.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{هم أولاء على أثري} أشار إليهم، ولم يأت ب "كاف "الخطاب تأدبا مع الله، ولأنه سبحانه العليم، فلا يحتاج إلى تنبيه بها إذ هو يخاطب العليم الخبير، ومعنى {أولاء على أثري} أنهم على مقربة مني، ولا يضلون الطريق، لأنهم ورائي، ثم قال معتذرا عن تعجله: {وعجلت إليك رب لترضى}، أي كان الدافع على عجلي إليك محاولتي إرضاءك حاسبا أن المسارعة إليك ترضيك، وقال كلمتين تقربا إليه سبحانه ومشيرا بهما إلى رغبة في ذلك التعجيل وهو أنسا بكلامه معه. الكلمة الأولى هو {إليك}، أي عجلتي كانت إليك، وأنت القريب إلى نفسي آنس بكلامك، والكلمة الثانية هي {رب} أي القائم على نفسي، ومن صنعتني على عينك فإني أسارع إلى من صنعني على عينه جل جلاله.