قوله تعالى : { قال رب اجعل لي آية } ، دلالة على حمل امرأتي ، { قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا } ، أي : صحيحاً سليماً من غير ما بأس ولا خرس . قال مجاهد : أي لا يمنعك من الكلام مرض . وقيل : ثلاث ليال سوياً أي متتابعات ، والأول أصح . وفي القصة : أنه لم يقدر فيها أن يتكلم مع الناس فإذا أراد ذكر الله تعالى انطلق لسانه .
{ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ْ } أي : يطمئن بها قلبي ، وليس هذا شكا في خبر الله ، وإنما هو ، كما قال الخليل عليه السلام : { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ْ } فطلب زيادة العلم ، والوصول إلى عين اليقين بعد علم اليقين ، فأجابه الله إلى طلبته رحمة به ، ف { قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ْ } وفي الآية الأخرى { ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ْ } والمعنى واحد ، لأنه تارة يعبر بالليالي ، وتارة بالأيام ومؤداها واحد ، وهذا من الآيات العجيبة ، فإن منعه من الكلام مدة ثلاثة أيام ، وعجزه عنه من غير خرس ولا آفة ، بل كان سويا ، لا نقص فيه ، من الأدلة على قدرة الله الخارقة للعوائد ، ومع هذا ، ممنوع من الكلام الذي يتعلق بالآدميين وخطابهم ، . وأما التسبيح والتهليل ، والذكر ونحوه ، فغير ممنوع منه ، ولهذا قال في الآية الأخرى : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ْ } فاطمأن قلبه ، واستبشر بهذه البشارة العظيمة ، وامتثل لأمر الله له بالشكر بعبادته وذكره ، فعكف في محرابه ،
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما التمسه زكريا - عليه السلام - من خالقه فقال : { قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً . . . } .
أى : اجعل لى علامة أستدل بها على وقوع ما بشرتنى به ، لأزداد سروراً واطمئناناً . ولأعرف الوقت الذى تحمل فيه امرأتى بهذا الغلام فأكثر من شكرك وذكرك .
فأجابه الله - تعالى - بقوله : { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } .
أى : قال الله - تعالى - لعبده زكريا : يا زكريا . علامة وقوع ما بشرتك به ، أنك تجد نفسك عاجزاً عن أن تكلم الناس بلسانك ، لمدة ثلاث ليال بأيامهن حال كونك سوى الخلق ، سليم الحواس ليس بك من خرس ، أو بكم ولكنك ممنوع من الكلام بأمرنا وقدرتنا على سبيل خرق العادة .
فقوله : { سَوِيّاً } حال من فاعل " تكلم " وهو زكريا أى : حال كونك يا زكريا سوى الخلق ، سليم الجوارح ، لا علة تمنعك من ذلك سوى قدرتنا .
ومع ذلك فإن لهفة زكريا على الطمأنينة تدفع به أن يطلب آية وعلامة على تحقق البشرى فعلا . فأعطاه الله آية تناسب الجو النفسي الذي كان فيه الدعاء وكانت فيه الاستجابة . . ويؤدي بها حق الشكر لله الذي وهبه على الكبر غلاما . . وذلك أن ينقطع عن دنيا الناس ويحيا مع الله ثلاث ليال ينطلق لسانه إذا سبح ربه ، ويحتبس إذا كلم الناس ، وهو سوي معافى في جوارحه لم يصب لسانه عوج ولا آفة .
قال زكرياء { رب اجعل لي آية } علامة أعرف بها صحة هذا وكونه من عندك . وروي أن زكرياء عليه السلام لما عرف ثم طلب الآية بعد ذلك عاقبه الله تعالى بأن أصابه بذلك السكوت عن كلام الناس ، وذلك وإن لم يكن عن مرض خرس أو نحوه ففيه على كل حال عقاب . ما روي عن ابن زيد أن زكرياء لما حملت زوجته منه يحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم احداً ، وهو مع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله ، فإذا أراد مقاولة أحد لم يطقه ، ويحتمل على هذا أن يكون قوله { اجعل لي آية } معناه علامة أعرف بها أن الحمل قد وقع ، وبذلك فسر الزجاج . ومعنى قوله { سوياً } فيما قال الجمهور صحيحاً من غير علة ولا خرس ، وقال ابن عباس أيضاً ذلك عائد على «الليالي » أراد كاملات مستويات .
أراد نصب علامة على وقوع الحمل بالغلام ، لأنّ البشارة لم تعيّن زمناً ، وقد يتأخر الموعود به لحكمة ، فأراد زكرياء أن يعلم وقت الموعود به . وفي هذا الاستعجال تعريض بطلب المبادرة به ، ولذلك حذف متعلّق { ءَايَةً } . وإضافة { ءَايَتُكَ } على معنى اللاّم ، أي آية لك ، أي جعلنا علامة لك .
ومعنى { ألاَّ تُكَلِّم النَّاسَ } أن لا تقدر على الكلام ، لأنّ ذلك هو المناسب لكونه آية من قِبَل الله تعالى . وليس المراد نهيَه عن كلام الناس ، إذ لا مناسبة في ذلك للكون آية . وقد قدمنا تحقيق ذلك في سورة آل عمران .
وجعلت مدة انتفاء تكليمه الناس هنا ثلاث ليال ، وجعلت في سورة آل عمران ثلاثة أيام فعلم أنّ المراد هنا ليال بأيامها وأنّ المراد في آل عمران أيام بلياليها .
وأُكد ذلك هنا بوصفها ب { سَوِيّاً } أي ثلاث ليال كاملة ، أي بأيامها .
وسويّ : فعيل بمعنى مفعول ، يستوي الوصف به الواحد والواحدة والمتعدد منهما .
وفسر أيضاً { سَوِيّاً } بأنه حال من ضمير المخاطب ، أي حال كونك سوياً ، أي بدون عاهة الخَرَس والبكَم ، ولكنّها آية لك اقتضتها الحكمة التي بيّناها في سورة آل عمران . وعلى هذا فذكر الوصف لمجرد تأكيد الطمأنينة ، وإلا فإن تأجيله بثلاث ليال كاف في الاطمئنان على انتفاء العاهة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.