اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّيٓ ءَايَةٗۖ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَ لَيَالٖ سَوِيّٗا} (10)

قوله : { قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } .

أي : اجعل لي علامة ودلالة على حمل امرأتي .

فصل

قال بعضُ المفسِّرين : طلب الآية لتحقيق البشارة ، وهذا بعيدٌ ؛ لأن بقول الله تعالى قد تحقَّقت البشارةُ ، فلا يكون إظهار الآية أقوى في ذلك من صريح القول ، وقال آخرون : البشارةُ بالولدِ وقعت مطلقة ، فلا يعرف وقتها بمجرَّد البشارة ، فطلب الآية ليعرف بها وقت الوقوعِ ، وهذا هو الحق .

واتفقوا على أن تلك الآية هي تعذرُ الكلام عليه ، فإن مجرَّد السكوتِ مع القدرةِ على الكلام لا يكونُ معجزةً ، ثم اختلفوا على قولين :

أحدهما : أنه اعتقل لسانه أصلاً .

والثاني : أنه امتنع عليه الكلامُ مع القوم على وجه المخاطبة ، مع أنه كان متمكناً من ذكر الله ، ومن قراءة التوراة ، وهذا القولُ عندي أصحُّ ؛ لأن اعتقال اللسان مطلقاً قد يكون لمرضٍ ، وقد يكون من فعل الله ، فلا يعرف زكريا عليه السلام أن ذلك الاعتقال معجزٌ إلا إذا عرف أنه ليس لمرض ، بل لمحضِ فعل الله تعالى مع سلامة الآلات ، وهذا مما لا يعرف إلا بدليل آخر ، فتفتقر تلك الدلالة إلى دلالة أخرى ، أما لو اعتقل لسانه عن الكلام ، مع القوم ، مع اقتداره على التكلم بذكر الله تعالى وقراءةِ التوراةِ ، علم بالضرورة ؛ أن ذلك الاعتقال ليس لعلَّةٍ ومرضٍ ، بل هو لمحض فعل الله ، فيتحقق كونه آية ومعجزة ، ومما يقوي ذلك قوله تعالى : { آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } خص ذلك بالتكلم مع الناس ؛ وهذا يدلُّ بطريق المفهوم ؛ أنه كان قادراً على التكلم مع غير الناس .

قوله : { سَوِيًّا } : حالٌ من فاعل " تُكَلِّمَ " ، وعن ابن عباس : أنَّ " سويًّا " من صفةِ الليالي بمعنى " كاملات " ، فيكونُ نصبه على النعت للظرف ، والجمهورُ على نصب ميم " تُكَلِّم " جعلوها الناصبة . وابن أبي عبلة بالرفع ، جعلها المخففة من الثقيلة ، واسمها ضميرُ شأنٍ محذوف ، و " لا " فاصلةٌ ، وتقدَّم تحقيقه .