إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قَالَ رَبِّ ٱجۡعَل لِّيٓ ءَايَةٗۖ قَالَ ءَايَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَٰثَ لَيَالٖ سَوِيّٗا} (10)

{ قَالَ رَبّ اجعل لي آيَةً } أي علامةً تدلني على تحقق المسؤولِ ووقوعِ الحبَل ، ولم يكن هذا السؤالُ منه عليه الصلاة والسلام لتأكيد البِشارة وتحقيقِها كما قيل فإن ذلك مما لا يليق بمنصِب الرسالة ، وإنما كان ذلك لتعريف وقت العُلوق حيث كانت البشارةُ مطلقةً عن تعيينه وهو أمرٌ خفيٌّ لا يوقف عليه ، فأراد أن يُطلعَه الله تعالى عليه لتلقِّي تلك النعمةِ الجليلةِ بالشكر من حين حدوثِها ولا يؤخّرَه إلى أن تظهر ظهوراً معتاداً ، وقد مرت الإشارةُ في تفسير سورة آل عمران إلى أن هذا السؤالَ ينبغي أن يكون بعد ما مضى بعد البشارة بُرهةٌ من الزمان ، لما روي أن يحيى كان أكبرَ من عيسى عليهما الصلاة والسلام بستة أشهر أو بثلاث سنين ، ولا ريب في أن دعاءَ زكريا عليه الصلاة والسلام كان في صِغَر مريمَ لقوله تعالى : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } وهي إنما ولدت عيسى عليه الصلاة والسلام وهي بنتُ عشرِ سنين أو بنتُ ثلاثَ عشْرةَ سنةً ، والجعلُ إبداعيٌّ واللامُ متعلقة به وتقديمُها على المفعول به لما مر مراراً من الاعتناء بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخَّر ، أو بمحذوف وقع حالاً من آيةً إذ لو تأخر لكان صفةً لها ، وقيل : بمعنى التصيير المستدعي لمفعولين أولُهما آيةً وثانيهما الظرفُ ، وتقديمُه لأنه لا مسوِّغَ لكون آيةً مبتدأً عند انحلال الجملة إلى مبتدأ وخبر سوى تقديمِ الظرف فلا يتغير حالُهما بعد ورودِ الناسخ .

{ قَالَ آيَتُكَ أَن لا تُكَلّمَ الناس } أي لا تقدر على أن تكلمهم بكلام الناسِ مع القدرة على الذكر والتسبيح { ثلاث لَيَالٍ } مع أيامهن للتصريح بها في سورة آل عمران { سَوِيّاً } حال من فاعل تكلم مفيدٌ لكون انتفاءِ التكلم بطريق الاضطرار دون الاختيار أي تُمنع الكلامَ فلا تطيق به حال كونك سوى الخلق سليمَ الجوارحِ ما بك شائبةُ بَكَم ولا خَرَس .