{ 23 - 26 } { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ }
يقول تعالى - مبينًا أنه المعبود وحده ، وداعيًا عباده إلى شكره ، وإفراده بالعبادة- : { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ } أي : أوجدكم من العدم ، من غير معاون له ولا مظاهر ، ولما أنشأكم ، كمل لكم الوجود بالسمع والأبصار والأفئدة ، التي هي أنفع أعضاء البدن{[1181]} وأكمل القوى الجسمانية ، ولكنه{[1182]} مع هذا الإنعام { قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ } الله ، قليل منكم الشاكر ، وقليل منكم الشكر .
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم فى بضع آيات أن يذكر الكافرين بنعم الله - تعالى - عليهم ، وأن يرد على شبهاتهم وأكاذيبهم بما يدحضها ، وأن يكل أمره وأمرهم إليه وحده - تعالى - فقال :
{ قُلْ هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ . . . } .
أي : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المشركين - على سبيل تبصيرهم بالحج والدلائل الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا ، وعلى سبيل التنويع في الإرشاد والتوجيه . . قل لهم : الرحمن - عز وجل - هو الذي أنشأكم وأوجدكم في كل طور من أطوار حياتكم ، وهو سبحانه - الذي أوجد لكم السمع الذي تسمعون به ، والأبصار التي تبصرون بها الكائنات ، والأفئدة أي والقلوب التي تدركونها بها . .
ولكنكم - مع كل هذه النعم - { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } خالقكم - عز وجل - .
وجمع - سبحانه - الأفئدة والأبصار ، وأفرد السمع ، لأن القلوب تختلف باختلاف مقدار ما تفهمه مما يلقى إليها من إنذار أو تبشير ، ومن حجة أو دليل ، فكان من ذلك تعدد القلوب بتعدد الناس على حسب استعدادهم .
وكذلك شأن الناس فيما تنتظمه أبصارهم من آيات الله في كونه ، فإن أنظارهم تختلف في عمق تدبرها وضحولته ، فكان من ذلك تعدد المبصرين ، بتعدد مقادير ما يستنبطون من آيات الله في الآفاق .
وأما المسموع فهو بالنسبة للناس جميعا شئ واحد ، هو الحجة يناديهم بها المرسلون ، والدليل يوضحه لهم النبيون .
لذلك كان الناس جميعا كأنهم سمع واحد ، فكان إفراد السمع إيذانا من الله بأن حجته واحدة ، ودليله واحد لا يتعدد .
وقوله : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } صفة لمصدر محذوف ، أي : شكرا قليلا ، و { ما } مزيدة لتأكيد التقليل .
وعبر - سبحانه - بقوله : { قَلِيلاً } لحضهم على الإِكثار من شكره - تعالى - ، وذلك عن طريق إخلاص العبادة له - عز وجل - ونبذ عبادة غيره .
وعلى ذكر الهدى والضلال ، يذكرهم بما وهبهم الله من وسائل الهدى ، وأدوات الإدراك ثم لم ينتفعوا بها ، ولم يكونوا من الشاكرين :
( قل : هو الذي أنشأكم ، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ، قليلا ما تشكرون ) . .
وحقيقة أن الله هو الذي أنشأ الإنسان ، حقيقة تلح على العقل البشري ، وتثبت ذاتها بتوكيد يصعب رده . فالإنسان قد وجد - وهو أرفع وأعلم وأقدر ما يعلم من الخلائق - وهو لم يوجد نفسه ، فلا بد أن يكون هناك من هو أرفع وأعلم وأقدر منه أوجده . . ولا مفر من الاعتراف بخالق . فوجود الإنسان ذاته يواجهه بهذه الحقيقة . والمماراة فيها نوع من المماحكة لا يستحق الاحترام .
والقرآن يذكر هذه الحقيقة هنا ليذكر بجانبها ما زود الله به الإنسان من وسائل المعرفة . .
( وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ) . .
وما قابل الإنسان به هذه النعمة : نعمة الإنشاء ونعمة السمع والأبصار والأفئدة :
والسمع والأبصار معجزتان كبيرتان عرف عنهما بعض خواصهما العجيبة . والأفئدة التي يعبر بها القرآن عن قوة الإدراك والمعرفة ، معجزة أعجب وأغرب . ولم يعرف بعد عنها إلا القليل . وهي سر الله في هذا المخلوق الفريد . .
وللعلم الحديث محاولات في معرفة شيء عن معجزتي السمع والبصر نذكر منها لمحة :
" تبدأ حاسة السمع بالأذن الخارجية ، ولا يعلم الا الله أين تنتهي . ويقول العلم : إن الاهتزاز الذي يحدثه الصوت في الهواء ينقل إلى الأذن ، التي تنظم دخوله ، ليقع على طبلة الأذن . وهذه تنقلها إلى التيه داخل الأذن .
" والتيه يشتمل على نوع من الأقنية بين لولبية ونصف مستديرة . وفي القسم اللولبي وحده أربعة آلاف قوس صغيرة متصلة بعصب السمع في الرأس .
" فما طول القوس منها وحجمها ? وكيف ركبت هذه الأقواس التي تبلغ عدة آلاف كل منها تركيبا خاصا ? وما الحيز الذي وضعت فيه ? ناهيك عن العظام الأخرى الدقيقة المتماوجة . هذا كله في التيه الذي لا يكاد يرى ! وفي الأذن مائة ألف خلية سمعية . وتنتهي الأعصاب بأهداب دقيقة . دقة وعظمة تحير الألباب " .
" ومركز حاسة الإبصار العين ، التي تحتوي على مائة وثلاثين مليونا من مستقبلات الضوء ، وهي أطراف أعصاب الإبصار . وتتكون العين من الصلبة والقرنية والمشيمة والشبكية . . وذلك بخلاف العدد الهائل من الأعصاب والأوعية .
" وتتكون الشبكية من تسع طبقات منفصلة ، والطبقة التي في أقصى الداخل تتكون من أعواد ومخروطات . ويقال : إن عدد الأولى ثلاثون مليون عود ، وعدد الثانية ثلاثة ملايين مخروط . وقد نظمت كلها في تناسب محكم بالنسبة لبعضها البعض وبالنسبة للعدسات . . وعدسة عينيك تختلف في الكثافة ، ولذا تجمع كل الأشعة في بؤرة ، ولا يحصل الإنسان على مثل ذلك في أية مادة من جنس واحد كالزجاج مثلا " . .
فأما الأفئدة فهي هذه الخاصية التي صار بها الإنسان إنسانا . وهي قوة الإدراك والتمييز والمعرفة التي استخلف بها الإنسان في هذا الملك العريض . والتي حمل بها الأمانة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال . أمانة الإيمان الاختياري ، والاهتداء الذاتي ، والإستقامة الإرادية على منهج الله القويم ولا يعلم أحد ماهية هذه القوة ، ولا مركزها ، داخل الجسم أو خارجه ! فهي سر الله في الإنسان لم يعلمه أحد سواه .
وعلى هذه الهبات الضخمة التي أعطيها الإنسان لينهض بتلك الأمانة الكبرى ، فإنه لم يشكر : ( قليلا ما تشكرون ) . . وهو أمر يثير الخجل والحياء عند التذكير به ، كما يذكرهم القرآن في هذا المجال ويذكر كل جاحد وكافر ، لا يشكر نعمة الله عليه ؛ وهو لا يوفيها حقها لو عاش للشكر دون سواه !
وقرأ طلحة : «أمَن يمشي » بتخفيف الميم ، وإفراد { السمع } لأنه اسم جنس يقع للكثير و { قليلاً } نصب بفعل مضمر ، و { ما } : مصدرية ، وهي في موضع رفع ، وقوله : { قليلاً ما تشكرون } يقتضي ظاهره أنهم يشكرون قليلاً ، فهذا إما أن يريد به ما عسى أن يكون للكافر من شكر ، وهو قليل غير نافع ، وإما أن يريد جملة ، فعبر بالقلة ، كما تقول العرب : هذه أرض قل ما تنبت كذا ، وهي لا تنبته بتة ، ومن شكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه النعمة أنه كان يقول في سجوده : «سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره »{[11223]} .
هذا انتقال من توجيه الله تعالى الخطاب إلى المشركين للتبصير بالحجج والدلائل وما تخلل ذلك من الوعيد أو التهديد إلى خطابهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقُول لهم ما سيُذكر تفنناً في البيان وتنشيطاً للأذهان حتى كأنَّ الكلامَ صدَر من قائلين وترفيعاً لقدر نبيئه صلى الله عليه وسلم بإعطائه حظاً من التذكير معه كما قال تعالى : { فإنما يسرناه بلسانك } [ الدخان : 58 ] .
والانتقال هنا إلى الاستدلال بفُروع المخلوقات بعد الاستدلال بأصولها ، ومن الاستدلال بفروع أعراض الإِنسان بعد أصلها ، فمن الاستدلال بخلق السماوات والأرض والموت والحياة ، إلى الاستدلال بخلق الإِنسان ومداركه ، وقد أتبع الأمر بالقول بخمسةٍ مِثْلِه بطريقة التكرير بدون عاطف اهتماماً بما بعد كل أمر من مقالة يبلغها إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم قال : { هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار } ، الخ .
والضمير { هو } إلى { الرحمان } من قوله : { من دون الرحمان } [ الملك : 20 ] .
وإفراد { السمع } لأن أصله مصدر ، أي جعل لكم حاسة السمع ، وأما { الأبصار } فهو جمع البصر بمعنى العَين ، وقد تقدم وجه ذلك عند قوله تعالى { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة } في سورة البقرة ( 7 ) والأفئدة } القلوب ، والمراد بها العقول ، وهو إطلاق شائع في استعمال العرب .
والقصر المستفاد من تعريف المسند إليه والمسندِ في قوله : { هو الذي أنشأكم } إلى آخره قصرُ إفراد بتنزيل المخاطبين لشركهم منزلةَ من يعتقد أن الأصنام شاركت الله في الإِنشاء وإعطاء الإِحساس والإِدراك .
و{ قليلاً ما تشكرون } حال من ضمير المخاطبين ، أي أنعم عليكم بهذه النعم في حال إهمالكم شكرها .
و { مَا } مصدرية والمصدر المنسبك في موضع فاعل { قليلاً } لاعتماد { قليلاً } على صاحب حال . و { قليلاً } صفة مشبَّهة .
وقد استعمل { قليلاً } في معنى النفي والعدم ، وهذا الإِطلاق من ضروب الكناية والاقتصاد في الحكم على طريقة التمليح وتقدم عند قوله تعالى : { فقليلاً ما يؤمنون } [ البقرة : 88 ] وقوله تعالى : { فلا يؤمنون إلاّ قليلاً } في سورة النساء ( 155 ) ، وتقول العرب : هذه أرض قلما تنبت .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل هو الذي أنشأكم} يعني خلقكم {وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} يعني القلوب {قليلا ما تشكرون}، يعني بالقليل، أنهم قوم لا يعقلون، فيشكروا رب هذه النعم البينة في حسن خلقهم فيوحدونه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قل يا محمد للذين يكذّبون بالبعث من المشركين. الله الذي أنشأكم فخلقكم،" وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ "تسمعون به، "والأبْصَارَ" تبصرون بها، "والأفْئِدَةَ" تعقلون بها، "قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ"، يقول: قليلاً ما تشكرون ربكم على هذه النعم التي أنعمها عليكم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{قليلاً ما تشكرون} يقتضي ظاهره أنهم يشكرون قليلاً، فهذا إما أن يريد به ما عسى أن يكون للكافر من شكر، وهو قليل غير نافع، وإما أن يريد جملة، فعبر بالقلة، كما تقول العرب: هذه أرض قل ما تنبت كذا، وهي لا تنبته بتة.
البرهان الثاني على كمال قدرته قوله تعالى: {قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون}.
اعلم أنه تعالى لما أورد البرهان (أولا) من حال سائر الحيوانات، وهو وقوف الطير في الهواء، أورد البرهان بعده من أحوال الناس وهو هذه الآية، وذكر من عجائب ما فيه حال السمع والبصر والفؤاد...
واعلم أن في ذكرها هاهنا تنبيها على دقيقة لطيفة، كأنه تعالى قال: أعطيتكم هذه الإعطاءات الثلاثة مع ما فيها من القوى الشريفة، لكنكم ضيعتموها فلم تقبلوا ما سمعتموه ولا اعتبرتم بما أبصرتموه، ولا تأملتم في عاقبة ما عقلتموه، فكأنكم ضيعتم هذه النعم وأفسدتم هذه المواهب، فلهذا قال: {قليلا ما تشكرون} وذلك لأن شكر نعمة الله تعالى هو أن يصرف تلك النعمة إلى وجه رضاه، وأنتم لما صرفتم السمع والبصر والعقل لا إلى طلب مرضاته فأنتم ما شكرتم نعمته البتة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قل} أي يا أشرف الخلق وأشفقهم عليهم مذكراً لهم بما دفع عنهم الملك من المفسدات وجمع لهم من المصلحات والقوى والعقل ليرجعوا إليه، ولا يعولوا في حال من أحوالهم إلا عليه، وينظروا في لطيف صنعه وحسن تربيته، فيمشي كل منهم سوياً: {هو} أي الله سبحانه وتعالى {الذي} شرفكم بهذا الذكر، وبين لكم هذا البيان، وحده الذي {أنشأكم} أي أوجدكم ودرجكم في مدارج التربية، حيث طوركم في أطوار الخلقة في الرحم، ويسر لكم بعد خروجكم الخروج اللبن، حيث كانت المعدة ضعيفة عن أكثف منه. ولما كان من أعظم النعم الجليلة بعد الإيجاد العقل، أتبعه به، وبدأ بطريق تنبيهه فقال: {وجعل لكم} أي خاصة مسبباً عن الجسم الذي أنشأه {السمع} أي الكامل لتسمعوا ما تعقله قلوبكم فيهديكم، ووحده لقلة التفاوت فيه، ليظهر سر تصرفه سبحانه في القلوب بغاية المفاوتة، مع أنه أعظم الطرق الموصلة للمعاني إليها، {والأبصار} لتنظروا صنائعه فتعتبروا وتزدجروا عما يرديكم {والأفئدة} أي القلوب التي جعلها سبحانه في غاية التوقد بالإدراك لما لا يدركه بقية الحيوان لتتفكروا فتقبلوا على ما يعليكم، وجمعه لكثرة التفاوت في نور الأبصار وإدراك الأفكار، وهذا تنبيه على إكمال هذه القوى في درك الحقائق بتلطيف السر لتدقيق الفكر، قال الشيخ ولي الدين الملوي: انظر إلى الأفئدة كيف تحكم بأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في آن واحد، وأن الضدين لا يجتمعان -وغير ذلك مما لا يخفى. ولما كان التقدير: فمشيتم مشي المكب على وجهه، فلم تستعملوا شيئاً من هذه الأسرار الشريفة فيما خلق له، كانت ترجمة ذلك: {قليلاً} وأكد المعنى بما صورته صورة النافي فقال: {ما} ولما زاد تشوف النفس إلى العامل في وصف المصدر دل عليه سبحانه وتعالى بقوله: {تشكرون} أي توقعون الشكر لمن أعطاكم ما لا تقدرون قدره، باستعماله فيما خلق لأجله، وأنكم تدعون أنكم أشكر الناس للإحسان وأعلاهم في العرفان...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعلى ذكر الهدى والضلال، يذكرهم بما وهبهم الله من وسائل الهدى، وأدوات الإدراك ثم لم ينتفعوا بها، ولم يكونوا من الشاكرين: (قل: هو الذي أنشأكم، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، قليلا ما تشكرون).. وحقيقة أن الله هو الذي أنشأ الإنسان، حقيقة تلح على العقل البشري، وتثبت ذاتها بتوكيد يصعب رده. فالإنسان قد وجد -وهو أرفع وأعلم وأقدر ما يعلم من الخلائق- وهو لم يوجد نفسه، فلا بد أن يكون هناك من هو أرفع وأعلم وأقدر منه أوجده.. ولا مفر من الاعتراف بخالق. فوجود الإنسان ذاته يواجهه بهذه الحقيقة. والمماراة فيها نوع من المماحكة لا يستحق الاحترام. والقرآن يذكر هذه الحقيقة هنا ليذكر بجانبها ما زود الله به الإنسان من وسائل المعرفة.. (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة).. وما قابل الإنسان به هذه النعمة: نعمة الإنشاء ونعمة السمع والأبصار والأفئدة: (قليلا ما تشكرون).. والسمع والأبصار معجزتان كبيرتان عرف عنهما بعض خواصهما العجيبة. والأفئدة التي يعبر بها القرآن عن قوة الإدراك والمعرفة، معجزة أعجب وأغرب. ولم يعرف بعد عنها إلا القليل. وهي سر الله في هذا المخلوق الفريد...
فأما الأفئدة فهي هذه الخاصية التي صار بها الإنسان إنسانا. وهي قوة الإدراك والتمييز والمعرفة التي استخلف بها الإنسان في هذا الملك العريض. والتي حمل بها الأمانة التي أشفقت من حملها السماوات والأرض والجبال. أمانة الإيمان الاختياري، والاهتداء الذاتي، والاستقامة الإرادية على منهج الله القويم ولا يعلم أحد ماهية هذه القوة، ولا مركزها، داخل الجسم أو خارجه! فهي سر الله في الإنسان لم يعلمه أحد سواه. وعلى هذه الهبات الضخمة التي أعطيها الإنسان لينهض بتلك الأمانة الكبرى، فإنه لم يشكر: (قليلا ما تشكرون).. وهو أمر يثير الخجل والحياء عند التذكير به، كما يذكرهم القرآن في هذا المجال ويذكر كل جاحد وكافر، لا يشكر نعمة الله عليه؛ وهو لا يوفيها حقها لو عاش للشكر دون سواه!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا انتقال من توجيه الله تعالى الخطاب إلى المشركين للتبصير بالحجج والدلائل وما تخلل ذلك من الوعيد أو التهديد إلى خطابهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقُول لهم ما سيُذكر تفنناً في البيان وتنشيطاً للأذهان حتى كأنَّ الكلامَ صدَر من قائلين وترفيعاً لقدر نبيئه صلى الله عليه وسلم بإعطائه حظاً من التذكير معه كما قال تعالى: {فإنما يسرناه بلسانك} [الدخان: 58].
والانتقال هنا إلى الاستدلال بفُروع المخلوقات بعد الاستدلال بأصولها، ومن الاستدلال بفروع أعراض الإِنسان بعد أصلها، فمن الاستدلال بخلق السماوات والأرض والموت والحياة، إلى الاستدلال بخلق الإِنسان ومداركه، وقد أتبع الأمر بالقول بخمسةٍ مِثْلِه بطريقة التكرير بدون عاطف اهتماماً بما بعد كل أمر من مقالة يبلغها إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار}...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ يوجّه الله تعالى الخطاب إلى الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية اللاحقة فيقول: (قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون). إنّ الله تعالى جعل لكم وسيلة للمشاهدة والإبصار (العين) وكذلك وسيلة وقناة للاطّلاع على أفكار الآخرين ومعرفة وجهات نظرهم من خلال الاستماع (الإذن) ثمّ وسيلة أخرى للتفكّر والتدبّر في العلوم والمحسوسات واللامحسوسات (القلب). وخلاصة الأمر إنّ الله تعالى قد وضع جميع الوسائل اللازمة لكم لتتعرّفوا على العلوم العقلية والنقلية، إلاّ أنّ القليل من الأشخاص من يدرك هذه النعم العظيمة ويشكر الله المنعم، حيث أنّ شكر النعمة الحقيقي يتجسّد بتوجيه النعمة نحو الهدف الذي خلقت من أجله، تُرى من هو المستفيد من هذه الحواس (العين والأذن والعقل) بصورة صحيحة في هذا الطريق؟