الآية 23 وقوله تعالى : { قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون } هذه الآية صلة قوله : { الذي خلق الموت والحياة }[ الآية : 2 ] وصلة قوله : { الذي خلق سبع سماوات طباقا } [ الآية : 3 ] وقوله : { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا } [ الآية : 15 ] .
ثم ذكر الإنشاء وجعل السمع والأبصار والأفئدة ، تذكير بقوته{[21742]} وسلطانه ، وعلمه وحكمته ، وآلائه وتعاليه عن الأشباه والأمثال .
فوجه تذكير القوة والسلطان والعلم والحكمة ما يوصف بعد هذا ، ويذكر في سورة المرسلات وفي سورة : { والسماء والطارق } وسنذكر طرفا من ذلك هنالك{[21743]} بعون الله وتوفيقه ، فنقول : إن الله تعالى أنشأنا في أظلم مكان وأضيق موضع ، بحيث لا ينتهي إليه تدبير البشر وعلومهم وحكمتهم وقواهم ، لأن علم الخلق لا يجد نفاذا في الظلمات ، وكذلك حكمتهم .
ثم إن الله تعالى أنشأنا في تلك الظلمات كيف شاء ، وأجرى سلطانه وتدبيره على ذلك الشيء ، ليعلم به أن علمه بالخفيات من الأمور كعلمه بما ظهر منها ، وتعرف الخلائق أنه لا يخفى عليه شيء ، فيدعوهم ذلك إلى المراقبة في كل ما يسرون ، وما يعلنون ، ويوجب ما ذكرنا من تقدير قوته وعلمه وسلطانه بقوى البشر وعلومهم وسلطانهم ، فيكون فيه انفتاح عن الشبه التي أعثرت منكري البعث في أمر البعث ، ويحملهم على الإيمان به إذا أمعنوا النظر فيه ، ويعلمون{[21744]} أن من بلغت حكمته ما ذكرنا لا يجوز أن يخلقهم سدى لا يخاطبهم ولا ينهاهم ، بل يتركهم هملا .
وأما وجه تعاليه عن الأشباه والأشكال [ فهو أن ]{[21745]} إنشاء الخلق في أظلم مكان وأضيق مكان ، فيه إبانة أنه لا يوصف بالكون في ذلك المكان الذي ظهر فيه آثار فعله ، لأنه في وقت ما خلق عمرا في بطن أمه فقد خلق زيدا في ذلك الوقت في بطن أمه [ وخلق الخلائق ]{[21746]} في بطون الأنعام والسباع وبطون بنات آدم ، وأنشأ النبت في الأرضين في ذلك الوقت . /585- ب/ .
ولو كان يوصف بالكون في مكان الفعل ، لكان إذا أخذ في خلق هذا ، لا يخلق في ذلك [ الوقت ]{[21747]} في أقطار الأرض أمثاله من الخلائق . فدل أن الفعل ليس بتحصيل منه بشهوده المكان الذي ظهر فيه فعله ، وإنما يكون بما ذكر من قوله : { وإنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } [ النحل : 30 ] .
وأما سائر الفعلة فهم لا يتمكنون من الفعل إلا بشهودهم مكان الفعل .
فهذا الذي ذكرناه ينفي عنه شبه الخلق ، ويوجب تعاليه عن الأشكال ، وفيه تذكير نعمه ومننه على خلقه .
ألا ترى أنه قال على إثر هذا : { قليلا ما تشكرون } ؟ ولو لم يكن منعما لم يكن يستأدي منهم الشكر .
ووجه النعمة ، هو أنه قدّره في تلك الظلمات ، وصانه من الآفات ومن كل أنواع الأذى ، وغذّاه في ذلك الموضع بما شاء من الأغذية ، وستره عن أبصار الناظرين ، وغيّبه عن أعينهم ، لأنه في تلك الحال بالمحل الذي يستعاف ويستقذر منه ، ولا يمكن أن يدفع عنه المعنى الذي وقعت به الاستعافة والاستقذار بالتطهير ، وأنشأ له السمع والبصر والفوائد ، ليصل بها إلى أنواع العلوم والمصالح ، فلزمهم أن يقوموا بشكر ذلك .
وفي ما ذكرنا نقض قول المعتزلة لأنهم يزعمون أن الله تعالى لو جعلهم على غير الوجه الذي ظهر لكان جائرا ؛ لأن من مذهبهم أنه لا يفعل إلا ما هو أصلح لهم . وإذا كان خلقهم هو الأصلح ، ومن شرعه فعل الأصلح ، فإذا هو صار قاضي حق ، وليس لقاضي الحق على المقضى موضع منّة ، ولا منة بمكانه ، ولا نعمة يلزمها شكرها له .
ثم قوله تعالى : { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } أي جعل لكم السمع لتسمعوا ما غاب عنكم ونأى ، فتعرفوه بالسمع ، وأنشأ لكم الإبصار لتبصروا به ما حضر من الأشياء ، وتعرفوا منها ما ينفعكم وما يضركم ، وما خبث منها وما طاب ، وأنشأ لكم أفئدة تدركون بها حقائق الأشياء ومبادئ الأمور ، ومآلها وما حل منها وما حرم .
ثم خص هذه الأشياء الثلاثة بالذكر ، لما فيها يتوصل إلى العلوم ومعرفة الأشياء .
قال الله تعالى : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } [ النحل : 78 ] ومعناه : أنه أنشأ لكم هذه الأشياء لتهتدوا بها ، وتصلوا بها إلى أنواع العلوم ، فثبت أن هذه الأشياء هي التي يتوصل بها إلى العلم والحكمة ، وإلى ما به المصلحة والمنفعة . ولذلك قال : { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا } [ الإسراء : 36 ] .
[ فلو لم ]{[21748]} يقع بها الوصول إلى علم الأشياء [ لكانت لا تختص ]{[21749]} بالسؤال عنها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.