تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{قُلۡ هُوَ ٱلَّذِيٓ أَنشَأَكُمۡ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَۚ قَلِيلٗا مَّا تَشۡكُرُونَ} (23)

الآية 23 وقوله تعالى : { قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون } هذه الآية صلة قوله : { الذي خلق الموت والحياة }[ الآية : 2 ] وصلة قوله : { الذي خلق سبع سماوات طباقا } [ الآية : 3 ] وقوله : { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا } [ الآية : 15 ] .

ثم ذكر الإنشاء وجعل السمع والأبصار والأفئدة ، تذكير بقوته{[21742]} وسلطانه ، وعلمه وحكمته ، وآلائه وتعاليه عن الأشباه والأمثال .

فوجه تذكير القوة والسلطان والعلم والحكمة ما يوصف بعد هذا ، ويذكر في سورة المرسلات وفي سورة : { والسماء والطارق } وسنذكر طرفا من ذلك هنالك{[21743]} بعون الله وتوفيقه ، فنقول : إن الله تعالى أنشأنا في أظلم مكان وأضيق موضع ، بحيث لا ينتهي إليه تدبير البشر وعلومهم وحكمتهم وقواهم ، لأن علم الخلق لا يجد نفاذا في الظلمات ، وكذلك حكمتهم .

ثم إن الله تعالى أنشأنا في تلك الظلمات كيف شاء ، وأجرى سلطانه وتدبيره على ذلك الشيء ، ليعلم به أن علمه بالخفيات من الأمور كعلمه بما ظهر منها ، وتعرف الخلائق أنه لا يخفى عليه شيء ، فيدعوهم ذلك إلى المراقبة في كل ما يسرون ، وما يعلنون ، ويوجب ما ذكرنا من تقدير قوته وعلمه وسلطانه بقوى البشر وعلومهم وسلطانهم ، فيكون فيه انفتاح عن الشبه التي أعثرت منكري البعث في أمر البعث ، ويحملهم على الإيمان به إذا أمعنوا النظر فيه ، ويعلمون{[21744]} أن من بلغت حكمته ما ذكرنا لا يجوز أن يخلقهم سدى لا يخاطبهم ولا ينهاهم ، بل يتركهم هملا .

وأما وجه تعاليه عن الأشباه والأشكال [ فهو أن ]{[21745]} إنشاء الخلق في أظلم مكان وأضيق مكان ، فيه إبانة أنه لا يوصف بالكون في ذلك المكان الذي ظهر فيه آثار فعله ، لأنه في وقت ما خلق عمرا في بطن أمه فقد خلق زيدا في ذلك الوقت في بطن أمه [ وخلق الخلائق ]{[21746]} في بطون الأنعام والسباع وبطون بنات آدم ، وأنشأ النبت في الأرضين في ذلك الوقت . /585- ب/ .

ولو كان يوصف بالكون في مكان الفعل ، لكان إذا أخذ في خلق هذا ، لا يخلق في ذلك [ الوقت ]{[21747]} في أقطار الأرض أمثاله من الخلائق . فدل أن الفعل ليس بتحصيل منه بشهوده المكان الذي ظهر فيه فعله ، وإنما يكون بما ذكر من قوله : { وإنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } [ النحل : 30 ] .

وأما سائر الفعلة فهم لا يتمكنون من الفعل إلا بشهودهم مكان الفعل .

فهذا الذي ذكرناه ينفي عنه شبه الخلق ، ويوجب تعاليه عن الأشكال ، وفيه تذكير نعمه ومننه على خلقه .

ألا ترى أنه قال على إثر هذا : { قليلا ما تشكرون } ؟ ولو لم يكن منعما لم يكن يستأدي منهم الشكر .

ووجه النعمة ، هو أنه قدّره في تلك الظلمات ، وصانه من الآفات ومن كل أنواع الأذى ، وغذّاه في ذلك الموضع بما شاء من الأغذية ، وستره عن أبصار الناظرين ، وغيّبه عن أعينهم ، لأنه في تلك الحال بالمحل الذي يستعاف ويستقذر منه ، ولا يمكن أن يدفع عنه المعنى الذي وقعت به الاستعافة والاستقذار بالتطهير ، وأنشأ له السمع والبصر والفوائد ، ليصل بها إلى أنواع العلوم والمصالح ، فلزمهم أن يقوموا بشكر ذلك .

وفي ما ذكرنا نقض قول المعتزلة لأنهم يزعمون أن الله تعالى لو جعلهم على غير الوجه الذي ظهر لكان جائرا ؛ لأن من مذهبهم أنه لا يفعل إلا ما هو أصلح لهم . وإذا كان خلقهم هو الأصلح ، ومن شرعه فعل الأصلح ، فإذا هو صار قاضي حق ، وليس لقاضي الحق على المقضى موضع منّة ، ولا منة بمكانه ، ولا نعمة يلزمها شكرها له .

ثم قوله تعالى : { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } أي جعل لكم السمع لتسمعوا ما غاب عنكم ونأى ، فتعرفوه بالسمع ، وأنشأ لكم الإبصار لتبصروا به ما حضر من الأشياء ، وتعرفوا منها ما ينفعكم وما يضركم ، وما خبث منها وما طاب ، وأنشأ لكم أفئدة تدركون بها حقائق الأشياء ومبادئ الأمور ، ومآلها وما حل منها وما حرم .

ثم خص هذه الأشياء الثلاثة بالذكر ، لما فيها يتوصل إلى العلوم ومعرفة الأشياء .

قال الله تعالى : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون } [ النحل : 78 ] ومعناه : أنه أنشأ لكم هذه الأشياء لتهتدوا بها ، وتصلوا بها إلى أنواع العلوم ، فثبت أن هذه الأشياء هي التي يتوصل بها إلى العلم والحكمة ، وإلى ما به المصلحة والمنفعة . ولذلك قال : { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا } [ الإسراء : 36 ] .

[ فلو لم ]{[21748]} يقع بها الوصول إلى علم الأشياء [ لكانت لا تختص ]{[21749]} بالسؤال عنها .


[21742]:الباء ساقطة من الأصل و م.
[21743]:في الأصل و م: ههنا
[21744]:في الأصل و م: و ليعلموا
[21745]:في الأصل و م: هو انه.
[21746]:في الأصل و م: وخلائق
[21747]:من م، ساقطة من الأصل.
[21748]:من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م، فلم
[21749]:من نسخ الحرم المكي، في الأصل و م / لكن لا يخص.