قوله تعالى : { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال } ، الآية . نزلت في نفر من مشركي مكة ، منهم أبو جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أمية ، جلسوا خلف الكعبة فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم ، فقال له عبد الله بن أبي أمية : إن سرك أن نتبعك فسير جبال مكة بالقرآن فأذهبها عنا حتى تنفسح ، فإنها أرض ضيقة لمزارعنا ، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا ، لنغرس فيها الأشجار ونزرع ، ونتخذ البساتين ، فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود عليه السلام حيث سخر له الجبال تسبح معه ، أو سخر لنا الريح فنركبها إلى الشام لميرتنا وحوائجنا ونرجع في يومنا ، فقد سخرت الريح لسليمان كما زعمت ، ولست بأهون على ربك من سليمان ، وأحيي لنا جدك قصيا أو من شئت من آبائنا وموتانا لنسأله عن أمرك أحق ما تقول أم باطل ؟ فإن عيسى كان يحيي الموتى ، ولست بأهون على الله منه فأنزل الله عز وجل : { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال } فأذهبت عن وجه الأرض ، { أو قطعت به الأرض } ، أي : شققت فجعلت أنهارا وعيونا { أو كلم به الموتى } واختلفوا في جواب { لو } : فقال قوم : جوابه محذوف ، اكتفاء بمعرفة السامعين مراده وتقديره : لكان هذا القرآن ، كقول الشاعر :
فأقسم لو شيء أتانا رسوله *** سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
أراد : لرددناه ، وهذا معنى قول قتادة قال : لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم . وقال آخرون : جواب لو مقدم . وتقدير الكلام : وهم يكفرون بالرحمن { ولو أن قرآناً سيرت به الجبال } ، كأنه قال : لو سيرت به الجبال { أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى } لكفروا بالرحمن ولم يؤمنوا ، لما سبق من علمنا فيهم ، كما قال : { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا } [ الأنعام-111 ] ثم قال : { بل لله الأمر جميعاً } ، أي : في هذه الأشياء إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل . { أفلم ييأس الذين آمنوا } ، قال أكثر المفسرين : معناه أفلم يعلم . قال الكلبي : هي لغة النخع . وقيل : لغة هوازن ، يدل عليه قراءة ابن عباس : أفلم يتبين الذين آمنوا . وأنكر الفراء أن يكون ذلك بمعنى العلم ، وزعم أنه لم يسمع أحدا من العرب يقول : يئستن بمعنى : علمت ، ولكن معنى العلم فيه مضمر . وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا هذا من المشركين طمعوا في أن يفعل الله ما سألوا فيؤمنوا فنزل : { أفلم ييأس الذين آمنوا } يعني : الصحابة رضي الله عنهم أجمعين من إيمان هؤلاء ، أي لم ييأسوا علما ، وكل من علم شيئا يئس من خلافه ، يقول : ألم ييئسهم العلم ؟ { أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا } ، من كفرهم وأعمالهم الخبيثة " قارعة " أي : نازلة وداهية تقرعهم من أنواع البلاء ، أحيانا بالجدب ، وأحيانا بالسلب ، وأحيانا بالقتل والأسر . وقال ابن عباس : أراد بالقارعة : السرايا التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثهم إليهم . { أو تحل } ، يعني : السرية أو القارعة ، { قريباً من دارهم } ، وقيل : أو تحل : أي تنزل أنت يا محمد بنفسك قريبا من ديارهم ، { حتى يأتي وعد الله } ، قيل : يوم القيامة . وقيل : الفتح والنصر وظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه . { إن الله لا يخلف الميعاد } .
{ 31 } { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ }
يقول تعالى مبينا فضل القرآن الكريم على سائر الكتب المنزلة : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا } من الكتب الإلهية { سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ } عن أماكنها { أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ } جنانا وأنهارا { أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } لكان هذا القرآن . { بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا } فيأتي بالآيات التي تقتضيها حكمته ، فما بال المكذبين يقترحون من الآيات ما يقترحون ؟ فهل لهم أو لغيرهم من الأمر شيء ؟ .
{ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا } فليعلموا أنه قادر على هدايتهم جميعا ولكنه لا يشاء ذلك ، بل يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء { وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا } على كفرهم ، لا يعتبرون ولا يتعظون ، والله تعالى يوالي عليهم القوارع التي تصيبهم في ديارهم أو تحل قريبا منها ، وهم مصرون على كفرهم { حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ } الذي وعدهم به ، لنزول العذاب المتصل الذي لا يمكن رفعه ، { إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } وهذا تهديد لهم وتخويف من نزول ما وعدهم الله به على كفرهم وعنادهم وظلمهم .
ثم أشار - سبحانه - إلى عظمة هذا القرآن الذي أوحاه إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى . . . } .
والمراد بالقرآن هنا : معناه اللغوى ، أى الكلام المقروء .
وجواب لو محذوف لدلالة المقام عليه .
والمعنى : ولو أن كتابا مقروءا من الكتب السماوية ، { سُيِّرَتْ بِهِ الجبال } أى : تحركت من أماكنها ، { أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض } أى شققت وصارت قطعا ، { أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى } بأن يعودوا إلى الحياة بعد قراءته عليهم .
ولو أن كتابا مقروءا كان من وظيفته أن يفعل ذلك لكان هذا القرآن ، لكونه الغاية القصوى في الهداية والتذكير ، والنهاية العظمى في الترغيب والترهيب .
وعلى هذا المعنى يكون الغرض من الآية الكريمة بيان عظم شأن القرآن الكريم ، وإبطال رأى الكافرين الذين طلبوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - آية كونية سواه .
ويصح أن يكون المعنى : ولو أن كتابا مقروءا من الكتب السماوية نزل عليك يا محمد فسيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ، لما آمن هؤلاء المعاندون .
قال - تعالى - : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله . . . } وعلى هذا المعنى يكون المقصود من الآية الكريمة ، بيان غلوهم في العناد والطغيان ، وتماديهم في الكفر والضلال ، وأن سبب عدم إيمانهم ليس مرده إلى عدم ظهور الدلائل الدالة على صدقه - صلى الله عليه وسلم - وإنما سببه الحسد والعناد والمكابرة .
ووجه تخصيص هذه الأشياء الثلاثة من بين الخوارق التي طلبوها منه - صلى الله عليه وسلم - ما ذكره الإِمام ابن كثير من أن المشركين قالوا للنبى - صلى الله عليه وسلم - : يا محمد ، لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها ، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح ، أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيى الموتى لقومه ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .
وقوله - سبحانه - { بَل للَّهِ الأمر جَمِيعاً } إضراب عن مطالبهم المتعنتة إلى بيان أن الأمور كلها بيد الله ، وأن قدرته - سبحانه - لا يعجزها شئ .
أى : إن الله - تعالى - لا يعجزه أن يأتى بالمقترحات التي اقترحوها ، ولكن إرادته - سبحانه - لم تتعلق بما اقترحوه ، لعلمه - سبحانه - بعتوهم ونفورهم عن الحق مهما أوتوا من آيات .
وقوله - سبحانه - : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً } تيئيس للمؤمنين من استجابة أولئك الجاحدين للحق ، إلا أن شاء الله لهم الهداية ، والاستفهام للإِنكار ، وأصل اليأسك قطع الطمع في الشئ والقنوط من حصوله .
وللعلماء في تفسير هذه الجملة الكريمة اتجاهان :
أحدهما يرى أصحابه أن الفعل ييأس على معناه الحقيقى وهو قطع الطمع في الشئ ، وعليه يكون المعنى : أفلم ييأس على معناه الحقيقى وهو قطع في الشئ ، وعليه يكون المعنى : أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان كفار قريش ، ويعلموا أن الله - تعالى - لو يشاء هداية الناس جميعا لاهتدوا ، ولكنه لم يشأ ذلك ، ليتميزا الخبيث من الطيب .
وعلى هذا الاتجاه سار الإِمام ابن كثير فقد قال - رحمه الله - : وقوله - تعالى { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا } أى : من إيمان جميع الخلق ويعلموا أن يتبينوا { أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً } فإنه ليس هناك حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في النفوس والعقول من هذا القرآن ، الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله .
وثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما من نبى إلا وقد أوتى ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلى ، فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " .
ويؤيد هذا الاتجاه ما ذكره السيوطى في تفسيره من أن بعض الصحابة قالوا للرسول - صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ، اطلب لهم - أى للمشركين ، ما اقترحوه عسى أن يؤمنوا .
أما الاتجاه فيرى أصحابه أن الفعل ييأس بمعنى يعلم ، وعليه يكون المعنى : أفلم يعلم المؤمنون أنه - سبحانه - لو شاء هداية الناس جميعا لآمنوا .
وهذا الاتجاه صدر به الآلوسى تفسيره فقال ما ملخصه :
ومعنى قوله - سبحانه - : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا } أفلم يعلموا ، وهى كما قال القاسم بن معن لغة هوازن ، وقال الكلبى هي لغة حى من النخع ، وأنشدوا على ذلك قول سيحم بن وئيل الرباحى :
أقول لهم بالشعب إذ يأسروننى . . . ألم ييأسوا أنى ابن فارس زهدم
ألم ييأس الأقوام أنى أنا ابنه . . . وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
والظاهر أن استعمال اليأس في ذلك حقيقه .
وقيل مجاز لأنه متضمن للعلم فإن الآيس عن الشئ عالم بأنه لا يكون . .
والفاء للعطف على مقدر . أى : أغفلوا عن كون الأمر جميعه لله - تعالى - فلم يعلموا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا . .
ثم حذر - سبحانه - الكافرين من التمادى في كفرهم ، وبشر المؤمنين بحسن العاقبة فقال - تعالى - : { وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } .
والقارعة : من القرع ، وهو ضرب الئ بشئ آخر بقوة وجمعها قوارع .
والمراد بها : الرزية والمصيبة والكارثة .
أى : ولا يزال الذين كفروا من أهل مكة وغيرهم تصيبهم بسبب ما صنعوه من الكفر والضلال " قارعة " أى مصيبة تفجؤهم وتزعجهم أو تحل تلك المصيبة في مكان قريب من دارهم ، فيتطاير شرها إليهم ، حتى يأتى وعد الله بهلاكهم وهزيمتهم ونصر المؤمنين عليهم ، إن الله - تعالى - لا يخلف الميعاد ، أى : موعوده لرسله ولعباده المؤمنين .
وأبهم - سبحانه - ما يصيب الكافرين من قوارع ، لتهويله وبيان شدته .
والتعبير بقوله : { ولا يزال } يشير إلى أن ما أصابهم من قوارع كان موجودا قبل نزول هذه الآية ، واستمرت إصابته لهم بعد نزولها ، لأن الفعل { لا يزال } يدل علىا لإخبار باستمرار شئ واقع .
ولعل هذه الآية الكريمة كان نزولها في خلال سنى الجدب التي حلت بقريش والتى أشار إليها القرآن بقوله : { فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ . يَغْشَى الناس هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ . . . } وعبر - سبحانه - عما أصابهم من بلاء بالقارعة ، للمبالغة في شدته وقوته ، حتى إنه ليقرع قلوبهم فجأة فيبتهتهم ويزعجهم ، ولذلك سميت القيامة بالقارعة ، لأنها تقرع القلوب بأهوالها .
وقال - سبحانه - : { أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ } لبيان أنهم بين أمرين أحلاهما مُرّ لأن القارعة إما أن تصيبهم بما يكرهونه ويتألمون له ، وإما أن تنزل قريبا منهم فتفزعهم ، وتقلق أمنهم ، وهم مستمرون على ذلك حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا .
ولقد قضى الله - تعالى - أمره ، بهزيمتهم في بدر وفى غيرهم ، وأتم نصره على المؤمنين بفتح مكة . وبدخول الناس في دين الله أفواجا .
وإنما أرسلناك لتتلو عليهم هذا القرآن . هذا القرآن العجيب ، الذي لو كان من شأن قرآن أن تسير به الجبال أو تقطع به الأرض ، أو يكلم به الموتى ، لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثرات ، ما تتم معه هذه الخوارق والمعجزات . ولكنه جاء لخطاب المكلفين الأحياء . فإذا لم يستجيبوا فقد آن أن ييأس منهم المؤمنون ، وأن يدعوهم حتى يأتي وعد الله للمكذبين :
( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى . بل لله الأمر جميعا . أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا . ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله . إن الله لا يخلف الميعاد ) . .
ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقته وتكيفت به أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى . لقد صنع في هذه النفوس وبهذه النفوس خوارق أضخم وأبعد آثارا في أقدار الحياة ، بل أبعد أثرا في شكل الأرض ذاته . فكم غير الإسلام والمسلمون من وجه الأرض ، إلى جانب ما غيروا من وجه التاريخ ? !
وإن طبيعة هذا القرآن ذاتها . طبيعته في دعوته وفي تعبيره . طبيعته في موضوعه وفي أدائه . طبيعته في حقيقته وفي تأثيره . . إن طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة ، يحسها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام ، واستعداد لإدراك ما يوجه إليه ويوحي به . والذين تلقوه وتكيفوا به سيروا ما هو أضخم من الجبال ، وهو تاريخ الأمم والأجيال ؛ وقطعوا ما هو أصلب من الأرض ، وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد . وأحيوا ما هو أخمد من الموتى . وهو الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام . والتحول الذي تم في نفوس العرب وحياتهم فنقلهم تلك النقلة الضخمة دون أسباب ظاهرة إلا فعل هذا الكتاب ومنهجه في النفوس والحياة ، أضخم بكثير من تحول الجبال عن رسوخها ، وتحول الأرض عن جمودها ، وتحول الموتى عن الموات !
وهو الذي يختار نوع الحركة وأداتها في كل حال .
فإذا كان قوم بعد هذا القرآن لم تتحرك قلوبهم فما أجدر المؤمنين الذي يحاولون تحريكها أن ييأسوا من القوم ؛ وأن يدعوا الأمر لله ، فلو شاء لخلق الناس باستعداد واحد للهدى ، فلهدى الناس جميعا على نحو خلقة الملائكة لو كان يريد . أو لقهرهم على الهدى بأمر قدري منه . . ولكن لم يرد هذا ولا ذاك . لأنه خلق هذا الإنسان لمهمة خاصة يعلم سبحانه أنها تقتضي خلفته على هذا النحو الذي كان .
فليدعوهم إذن لأمر الله . وإذا كان الله قد قدر ألا يهلكهم هلاك استئصال في جيل كبعض الأقوام قبلهم ، فإن قارعة من عنده بعد قارعة تنزل بهم فتصيبهم بالضر والكرب ، وتهلك من كتب عليه منهم الهلاك .
فتروعهم وتدعهم في قلق وانتظار لمثلها ؛ وقد تلين بعض القلوب وتحركها وتحييها .
الذي أعطاهم إياه ، وأمهلهم إلى انتهاء أجله :
يقول تعالى مادحا للقرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ، ومفضلا له على سائر الكتب المنزلة قبله : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ } أي : لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها ، أو تقطع به الأرض وتنشق{[15641]} أو تكلم{[15642]} به الموتى في قبورها ، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره ، أو بطريق الأولى أن يكون كذلك ؛ لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنس والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله ، ولا بسورة من مثله ، ومع هذا فهؤلاء المشركون كافرون به ، جاحدون له ، { بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا } {[15643]} أي : مرجع الأمور كلها إلى الله ، عز وجل ، ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، ومن يضلل فلا هادي له ، ومن يهد{[15644]} الله فلا مضل له .
وقد يطلق اسم القرآن على كل من الكتب المتقدمة ؛ لأنه مشتق من الجميع ، قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خُفِّفَت{[15645]} على داود القراءة ، فكان يأمر بدابته أن تسرج ، فكان يقرأ القرآن من قبل أن تُسرج دابته ، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه " . انفرد بإخراجه البخاري{[15646]} . والمراد بالقرآن هنا الزبور .
وقوله : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا } أي : من إيمان جميع الخلق ويعلموا أو يتبينوا{[15647]} { أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا } فإنه ليس ثم{[15648]} حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في النفوس والعقول من هذا القرآن ، الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله . وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من نبي إلا وقد أوتي ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " {[15649]} معناه : أن معجزة كل نبي انقرضت بموته ، وهذا القرآن حجة باقية على الآباد ، لا تنقضي عجائبه ، ولا يَخْلَقُ عن كثرة الردّ ، ولا يشبع منه العلماء ، هو الفصل ليس بالهزل . من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا منجاب بن الحارث ، أنبأنا بشر بن عمارة ، حدثنا عمر بن حسان ، عن عطية العوفي قال : قلت له : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ } الآية ، قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم : لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها ، أو قطعت لنا{[15650]} الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح ، أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيي الموتى لقومه فأنزل الله هذه الآية . قال : قلت : هل تروون هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم{[15651]} . وكذا روي عن ابن عباس ، والشعبي ، وقتادة ، والثوري ، وغير واحد في سبب نزول هذه الآية ، فالله أعلم .
وقال قتادة : لو فعل هذا بقرآن غير قرآنكم ، فُعل بقرآنكم .
وقوله : { بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا } قال ابن عباس : [ أي ]{[15652]} لا يصنع من ذلك إلا ما يشاء ، ولم يكن ليفعل ، رواه ابن إسحاق بسنده عنه ، وقاله ابن جرير أيضًا .
وقال غير واحد من السلف في قوله : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا } أفلم يعلم الذين آمنوا . وقرأ{[15653]} آخرون : " أفلم يتبين الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا " .
وقال أبو العالية : قد يئس{[15654]} الذين آمنوا أن يهدوا ، ولو يشاء الله لهدى الناس جميعا .
وقوله : { وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ } أي : بسبب تكذيبهم ، لا تزال القوارع تصيبهم في الدنيا ، أو تصيب من حولهم ليتعظوا ويعتبروا ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأحقاف : 27 ] وقال { أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الأنبياء : 44 ] . {[15655]} قال قتادة ، عن الحسن : { أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ } أي : القارعة . وهذا هو الظاهر من السياق .
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا المسعودي ، عن قتادة ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس في قوله : { وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ } {[15656]} قال : سرية ، { أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ } قال : محمد صلى الله عليه وسلم ، { حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ } قال : فتح مكة . {[15657]} وهكذا قال عِكْرِمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، في رواية .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ } {[15658]} قال : عذاب من السماء ينزل عليهم { أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ } {[15659]} يعني : نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وقتاله إياهم .
وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، وقال عِكْرِمة في رواية عنه ، عن ابن عباس : { قَارِعَةٌ } أي : نكبة .
وكلهم قال : { حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ } يعني : فتح مكة . وقال الحسن البصري : يوم القيامة .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } أي : لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة ، { فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } [ إبراهيم : 47 ] .
ويحتمل قوله : { ولو أن قرآنا } الآية ، أن يكون متعلقاً بقوله : { وهم يكفرون بالرحمن } فيكون معنى الآية الإخبار عنهم أنهم لا يؤمنون ولو نزل «قرآن تسير به الجبال وتقطع به الأرض » - هذا تأويل الفراء وفرقة من المتأولين{[6966]} - وقالت فرقة : بل جواب { لو } محذوف ، تقديره : ولو أن قرآنا يكون صفته كذا لما آمنوا بوجه{[6967]} ، وقال أهل هذا التأويل - ابن عباس ومجاهد وغيرهما - إن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أزح عنا وسير جبلي مكة فقد ضيقا علينا ، واجعل لنا أرضنا قطع غراسة وحرث ، وأحي لنا آباءنا وأجدادنا وفلاناً وفلاناً - فنزلت الآية في ذلك معلمة أنهم لا يؤمنون ولو كان ذلك كله ، وقالت فرقة : جواب { لو } محذوف ، ولكن ليس في هذا المعنى ، بل تقديره : لكان هذا القرآن الذي يصنع هذا به ، وتتضمن الآية - على هذا - تعظيم القرآن ، وهذا قول حسن يحرز فصاحة الآية .
وقوله : { بل لله الأمر جميعاً } يعضد التأويل الأخير ويترتب مع الآخرين .
وقوله : { أفلم ييئس الذين آمنوا } الآية ، { ييئس } معناه : يعلم ، وهي لغة {[6968]}هوازن - قاله القاسم بن معن - وقال ابن الكلبي : هي لغة هبيل حي من النخع ، ومنه قول سحيم بن وثيل الرياحي : [ الطويل ]
أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني . . . ألم تيئسوا أني ابن فارس زهدم{[6969]}
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون اليأس في هذه الآية على بابه ، وذلك أنه لما أبعد إيمانهم في قوله : { ولو أن قرآناً } الآية - على التأويلين في المحذوف المقدر - قال في هذه الآية : أفلم ييئس المؤمنون من إيمان هؤلاء الكفرة ، علماً منهم { أن لو يشاء لهدى الناس جميعاً } .
وقرأ ابن كثير وابن محيصن «يأيس » وقرأ ابن عباس وعلي بن أبي طالب وابن أبي مليكة وعكرمة والجحدري وعلي بن حسين وزيد بن علي وجعفر بن محمد «أفلم يتبين »{[6970]} .
ثم أخبر تعالى عن كفار قريش والعرب أنهم لا يزالون تصيبهم قوارع من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزواته .
وفي قراءة ابن مسعود ومجاهد : «ولا يزال الذين ظلموا » ثم قال : { أو تحل } أنت يا محمد { قريباً من دارهم } هذا تأويل فرقة منهم الطبري وعزاه إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة - وقال الحسن بن أبي الحسن : المعنى { أو تحل } القارعة { قريباً من دارهم } .
وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير : «أو يحل » بالياء «قريباً من ديارهم » بالجمع .
و «وعد الله » - على قول ابن عباس وقوم - فتح مكة ، وقال الحسن بن أبي الحسن : الآية عامة في الكفار إلى يوم القيامة ، وأن حال الكفرة هكذا هي أبداً . و «وعد الله » : قيام الساعة ، و «القارعة » : الرزية التي تقرع قلب صاحبها بفظاعتها كالقتل والأسر ونهب المال وكشف الحريم ونحوه .