الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَلَوۡ أَنَّ قُرۡءَانٗا سُيِّرَتۡ بِهِ ٱلۡجِبَالُ أَوۡ قُطِّعَتۡ بِهِ ٱلۡأَرۡضُ أَوۡ كُلِّمَ بِهِ ٱلۡمَوۡتَىٰۗ بَل لِّلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ جَمِيعًاۗ أَفَلَمۡ يَاْيۡـَٔسِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن لَّوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَهَدَى ٱلنَّاسَ جَمِيعٗاۗ وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ وَعۡدُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ} (31)

{ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً } الآية نزلت في نفر من مشركي مكة فيهم أبو جهل ابن هشام وعبد الله بن أبي أُمية المخزومي جلسوا خلف الكعبة فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم فقال له عبد الله بن أبي أُمية : إن تشرك نتبعك فسيّر لنا جبال مكة بالقرآن ، فأذهبها عنا حتى تُفتح . فإنها ضيّقة ، واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً حتى نغرس ونزرع فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخر له الجبال يسبح لربه ، أو سخّر لنا الريح فنركبها إلى الشام فنقضي عليه أُمورنا وحوائجنا ثم نرجع من يومنا .

فقد كان سليمان سخرت له الريح ، فكما حملت لنا فلست بأهون على ربك من سليمان في داود .

وأحيي لنا جدك أيضاً ومن شئت من موتانا لنسأله أحق ما يقول أم باطل ؟ فإنّ عيسى قد كان يحيي الموتى ولست بأهون على الله منه ، فأنزل الله تعالى { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ } وأذهبت عن وجه الأرض { أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ } أي شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً .

{ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } واختلفوا في جواب لو ، فقال قوم : هذا من النزول المحذوف الجواب أقتضى بمعرفة سامعه مراده وتقدير الآية لكان هذا القرآن .

كقول أمرىء القيس :

فلو أنها نفس تموت بتوبة *** ولكنها نفس بقطع النفسا

يعني لهان عليَّ ، وهي آخر بيت في القصيدة .

وقال آخر :

فأقسم لو شيء أتانا رسوله *** سواك ولكن لم نجد لك مرفعاً

فأراد أرددناه ، وهذا معنى قول قتادة . لو فعل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم .

وقال آخرون : جواب لو يقدم وتقدير الكلام وهم يكفرون بالرحمن { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ } الآية كأنه قال ولو أنّ قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى لكفروا بالرحمن وبما آمنوا .

ثم قال : { بَل للَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ } .

قال المفسرون : أفلم يعلم .

وقال الكلبي : هي بلغة النخع حي من العرب .

وقال القاسم معن : هي لغة هوازن .

وقال سحيم بن وثيل الرياحي :

أقول لهم بالشعب إذ يسرونني *** ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم

أراد ألم يعلموا ، وقوله : هاد يسرونني أي يقتسمونني من الميسر كما يقتسم الجزور .

ويروى : لمسرونني من الأسر .

وقال الآخر :

ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه *** وإن كنت عن أرض العشيرة نائياً

ودليل هذا التأويل قراءة ابن عباس : أفلم يتبين ، وقيل لابن عباس : المكتوب «أفلم ييئس » قال : أظن الكاتب كتبها وهو ناعس .

وأما الفراء : فكان ينكر ذلك ويزعم أنه لم يُسمع أحدٌ من العرب يقول : يئست وهو يقول هو في المعنى وإنْ لم يكن مسموعاً يئست بمعنى علمت متوجه إلى ذلك ، وذلك أنّ الله تعالى قد أوحى إلى المؤمنين أنه لو شاء الله لهدى الناس جميعاً .

فقال ألم ييئسوا علماً يقول يؤسهم العلم فكان العلم فيه مضمراً كما يقول في الأعلام يئست منك أن لا يفلح علماً كأنه قول علمته علماً .

قال الشاعر :

حتى إذا يئس الرماة وأرسلوا *** غضفاً دواجن قافلا اعصامها

بمعنى إذا يئسوا من كل شيء مما يمكن إلاّ الذي ظهر لهم أرسلوا فهو في معنى : حتى إذا علموا أن ليس وجه إلاّ الذي رأوا وانتهى علمهم فكان ما سواه يأساً .

{ أَنْ لَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ } من كفرهم وأعمالهم الخبيثة { قَارِعَةٌ } داهية ومصيبة وشديدة تقرعهم من أنواع البلاء والعذاب أحياناً بالجدب وأحياناً بالسلب وأحياناً بالقتل وأحياناً بالأسر .

وقال ابن عباس : أراد بالقارعة السرايا التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثهم إليها { أَوْ تَحُلُّ } أي تنزل أنت يا محمد بنفسك { قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ } .

وقال قتادة : هي تاء التأنيث يعني وتحل القارعة قريباً من دارهم { حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ } الفتح والنصر وظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه ، وقيل يعني القيامة { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ }