وقوله - تعالى - { قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } بيان لما توعد الله - سبحانه - به إبليس وأتباعه .
والأمر فى قوله { اذهب } للإِهانة والتحقير . أى : قال الله - تعالى - لإِبليس { اذهب } مطرودًا ملعونًا ، وقد أخرناك إلى يوم القيامة ، فافعل ما بدا لك مع بنى آدم ، فمن أطاعك منهم ، فإن جهنم جزاؤك وجزاؤهم ، جزاء مكملا متمما لا نقص فيه .
وقال - سبحانه - { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ } مع أنه قد تقدم غائب ومخاطب فى قوله { فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } ، تغليبًا لجانب المخاطب - وهو إبليس - على جانب الغائب وهم أتباعه . لأنه هو السبب فى إغواء هؤلاء الأتباع .
وقوله : { جزاء } مفعول مطلق ، منصوب بالمصدر قبله .
وقوله { موفورا } اسم مفعول ، من قولهم وفر الشئ فهو وافر وموفور أى : مكمل متمم . وهو صفة لقوله : { جزاء } .
وهذا الوعيد الذى توعد الله - تعالى - به إبليس وأتباعه ، جاء ما يشبهه فى آيات كثيرة ، منها قوله - سبحانه - : { قَالَ فالحق والحق أَقُولُ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ }
وتشاء إرادة الله أن يطلق لرسول الشر والغواية الزمام ، يحاول محاولته مع بني الإنسان :
( قال : اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ) . .
اذهب فحاول محاولتك . اذهب مأذونا في إغوائهم . فهم مزودون بالعقل والإرادة ، يملكون أن يتبعوك أو يعرضوا عنك ( فمن تبعك منهم ) مغلبا جانب الغواية في نفسه على جانب الهداية ، معرضا عن نداء الرحمن إلى نداء الشيطان ، غافلا عن آيات الله في الكون ، وآيات الله المصاحبة للرسالات ، ( فإن جهنم جزاؤكم ) أنت وتابعوك ( جزاء موفورا ) .
لما سأل إبليس [ عليه اللعنة ]{[17644]} النظرة قال الله له : { اذْهَبْ } فقد أنظرتك . كما قال في الآية الأخرى : { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } [ الحجر : 37 ، 38 ] ثم أوعده ومن تَبِعه من ذرية آدم جهنم ، فقال : { فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ } أي : على أعمالكم { جَزَاءً مَوْفُورًا }
قال مجاهد : وافرا . وقال قتادة : مُوَفّرا عليكم ، لا ينقص لكم منه .
{ قال اذهب } امض لما قصدته وهو طرد وتخلية بينه وبين ما سلوت له نفسه . { فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم } جزاؤك جزاؤهم فغلب المخاطب على الغائب ، ويجوز أن يكون الخطاب للتابعين على الالتفات . { جزاء موفورا } مكملا من قولهم فر لصاحبك عرضه ، وانتصاب جزاء على المصدر بإضمار فعله أو بما في { جزاؤكم } من معنى تجازون ، أو حال موطئة لقوله { موفورا } .
وقوله : { اذهب } وما بعده من الأوامر ، هو صيغة افعل من التهديد ، كقوله تعالى { اعملوا ما شئتم }{[7623]} و { تبعك } معناه في طريق الكفر الذي تدعو إليه ، فالآية في الكفار وفي من ينفذ عليه الوعيد من العصاة وقوله : { جزاء } مصدر في موضع الحال ، و «الموفور » المكمل .
جواب من الله تعالى عن سؤال إبليس التأخير إلى يوم القيامة ، ولذلك فصلت جملة { قال } على طريقة المحاورات التي ذكرناها عند قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها } [ البقرة : 30 ] .
والذهاب ليس مراداً به الانصراف بل هو مستعمل في الاستمرار على العمل ، أي امض لشأنك الذي نويته . وصيغة الأمر مستعملة في التسوبة وهو كقول النبهاني من شعراء الحماسة :
فإن كنتَ سيدنا سُدتَنا *** وإن كنتَ للخال فاذْهَبْ فخَلْ
وقوله : فمن تبعك منهم } تفريع على التسوية والزجر كقوله تعالى : { قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس } [ طه : 97 ] .
والجزاء : مصدر جزاه على عمل ، أي أعطاه عن عمله عوضاً . وهو هنا بمعنى اسم المفعول كالخلق بمعنى المخلوق .
والموفور : اسم مفعول من وفره إذا كثّره .
وأعيد { جزاء } للتأكيد ، اهتماماً وفصاحةً ، كقوله : { إنا أنزلناه قرآناً عربياً } [ يوسف : 2 ] ، ولأنه أحسن في جريان وصف الموفور على موصوف متصل به دون فصل . وأصل الكلام : فإن جهنم جزاؤكم موفوراً . فانتصاب جزاء } على الحال الموطئة ، و { موفوراً } صفة له ، وهو الحال في المعنى ، أي جزاء غير منقوص .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال اذهب فمن تبعك منهم} على دينك، يعني: من ذرية آدم،
{فإن جهنم جزاؤكم} بأعمالكم الخبيثة،
{جزاء}، يعني: الكفر جزاء، {موفورا}، يعني: وافرا لا يفتر عنهم من عذابها شيء...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال الله لإبليس إذ قال له "لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا "اذهب فقد أخرتك، فمن تبعك منهم، يعني من ذرّية آدم عليه السلام فأطاعك، فإن جهنم جزاؤك وجزاؤهم، يقول: ثوابك على دعائك إياهم على معصيتي، وثوابهم على اتباعهم إياك وخلافهم أمري "جزاءً موْفُورًا": يقول: ثوابا مكثورا مكملا...
عن قتادة، قوله: "قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا" عذاب جهنم جزاؤهم، ونقمة من الله من أعدائه فلا يعدل عنهم من عذابها شيء...
عن مجاهد (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا) قال: وافرا...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فقال الله تعالى عند ذلك "اذهب "يا إبليس "فمن تبعك" من ذرية آدم واقتفى أثرك وقبل منك "فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا" أي كاملا...
. وفي ذلك استخفاف به وهوان له...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
هذا غاية التهديد، وفيه إشارة وبيان بألا مراء ولا تفويتٍ، ولو أَخرَّ عقوبةَ قومٍ فإن ذلك إمهالُ لا إهمال، ومكرٌ واستدراجٌ لا إنعامٌ وإكرامٌ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{اذهب} ليس من الذهاب الذي هو نقيض المجيء، إنما معناه: امض لشأنك الذي اخترته خذلانا وتخلية، وعقبه بذكر ما جرّه سوء اختياره في قوله {فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ} كما قال موسى عليه السلام للسامري {فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} [طه: 97]...
فإن قلت: أما كان من حق الضمير في الجزاء أن يكون على لفظ الغيبة ليرجع إلى من تبعك؟ قلت: بلى، ولكن التقدير: فإنّ جهنم جزاؤهم وجزاؤك، ثم غلب المخاطب على الغائب فقيل: جزاؤكم. ويجوز أن يكون للتابعين على طريق الالتفات،...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{اذهب} وما بعده من الأوامر، هو صيغة افعل من التهديد، كقوله تعالى {اعملوا ما شئتم} و {تبعك} معناه في طريق الكفر الذي تدعو إليه، فالآية في الكفار وفي من ينفذ عليه الوعيد من العصاة وقوله: {جزاء} مصدر في موضع الحال، و «الموفور» المكمل...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" قال اذهب "هذا أمر إهانة، أي اجهد جهدك فقد أنظرناك...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فكأنه قيل: لقد أطال في الاجتراء فما قال له ربه بعد الثالثة؟ فقيل: {قال} مهدداً له: {اذهب} أي امض لثباتك الذي ذكرته بإرادتي لا بأمري، فإنك لن تعدو أمرنا فيك، وقد حكمنا بشقاوتك وشقاوة من أردنا طاعته لك، ولذلك سبب عنه قوله تعالى: {فمن تبعك} أي أدنى اتباع {منهم} أي أولاد آدم عليه السلام، ويجوز أن يراد بتجريد الفعل أن من تبعه بغير معالجة من فطرته الأولى لا يكون إلا عريقاً في الشر.
ولما كان التقدير: أذقته من خزيك، عبر عنه بقوله تعالى: {فإن جهنم} أي الطبقة النارية التي تتجهم داخلها {جزاؤكم} أي جزاءك وجزاءهم، تجزون ذلك {جزاء موفوراً} مكملاً وافياً بما تستحقون على أعمالكم الخبيثة.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فقال الله له: {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ} واختارك على ربه ووليه الحق، {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} أي: مدخرا لكم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
اذهب فحاول محاولتك. اذهب مأذونا في إغوائهم. فهم مزودون بالعقل والإرادة، يملكون أن يتبعوك أو يعرضوا عنك "فمن تبعك منهم "مغلبا جانب الغواية في نفسه على جانب الهداية، معرضا عن نداء الرحمن إلى نداء الشيطان، غافلا عن آيات الله في الكون، وآيات الله المصاحبة للرسالات، "فإن جهنم جزاؤكم" أنت وتابعوك "جزاء موفورا"...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والذهاب ليس مراداً به الانصراف بل هو مستعمل في الاستمرار على العمل، أي امض لشأنك الذي نويته. وصيغة الأمر مستعملة في التسوية... والجزاء: مصدر جزاه على عمل، أي أعطاه عن عمله عوضاً... والموفور: اسم مفعول من وفره إذا كثّره... وأعيد {جزاء} للتأكيد، اهتماماً وفصاحةً...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{فإنه جهنم جزاؤكم جزاء موفورا} فمن يتبعك مختارا مستجيبا لإغرائك، فأنت وهم قد صرتم جمعا واحدا، جزاؤك وجزاؤهم واحد، ولذا خاطبهم جميعا باعتبار أنهم جميعا صاروا جمعا واحدا، وكان الخطاب بالجمع؛ لأن الخطاب له ابتداء، ولهم بالتبع، ووصفت بأنها جزاء موفور أي كامل على قدر ما أساءوا
... "جزاء موفوراً "أي: وافياً مكتملاً لا نقص فيه، لا من العذاب، ولا من المعذبين...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وَسائل الشيطان المختلفة في الوسوسة والإِغواء:
بالرغم مِن أنَّ المخاطب في الآيات أعلاه هو الشيطان، وأنَّ الله جلَّ جلاله يتوعده وَيقول له: افعل كل ما تريده في سبيل غواية الناس، واستخدم كل طرقك في ذلك، إِلاَّ أنَّ هَذا الوعيد ـ في الواقع ـ هو تهديد وَتنبيه لنا نحنُ بني الإِنسان حتى نعرف الطرق التي ينفذ مِنها الشيطان والوسائل التي يستخدمها في وساوسه وإغوائه. الطريف في الأمر أنَّ الآيات القرآنية أعلاه تشير إلى أربعة طرق وأساليب مهمّة وأساسية مِن أساليب الشيطان...