وقوله : { واستفزز } ، واستخفف واستجهد { من استطعت منهم } ، أي : من ذرية آدم ، { بصوتك } ، قال ابن عباس و قتادة : بدعائك إلى معصية الله . وكل داع إلى معصية الله فهو من جند إبليس . قال الأزهري : معناه ادعهم دعاء تستفزهم به إلى جانبك ، أي : تستخفهم . وقال مجاهد : بالغناء والمزامير . { وأجلب عليهم بخيلك ورجلك } ، قيل : اجمع عليهم مكايدك وخيلك ، ويقال : أجلبوا ، و جلبوا ، إذا صاحوا ، يقول : صح بخيلك ورجلك وحثهم عليه بالإغواء . قال مقاتل : استعن عليهم بركبان جندك ومشاتهم ، والخيل : الركبان ، والرجل : المشاة . قال أهل التفسير : كل راكب وماش في معاصي الله فهو من جند إبليس . وقال مجاهد و قتادة : إن له خيلاً ورجلاً من الجن والإنس ، وهو كل من يقاتل في المعصية ، والرجل ، والرجالة والراجلة واحد ، يقال : راجل ورجل ، مثل : تاجر وتجر ، وراكب وركب ، وقرأ حفص ورجلك بكسر الجيم وهما لغتان . { وشاركهم في الأموال والأولاد } فالمشاركة في الأموال : كل ما أصيب من حرام ، أو أنفق في حرام ، هذا قول مجاهد والحسن وسعيد بن جبير . وقال عطاء : هو الربا وقال قتادة هو ما كان المشركون يحرمونه من الأنعام كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام . وقال الضحاك : هو ما كانوا يذبحونه لآلهتهم . وأما الشركة في الأولاد : روي عن ابن عباس : أنها المؤودة . وقال مجاهد والضحاك : هم أولاد الزنا . وقال الحسن ، وقتادة : هو أنهم هودوا أولادهم ، ونصروهم ، ومجسوهم . وعن ابن عباس رواية أخرى : هو تسميتهم الأولاد عبد الحارث وعبد شمس ، وعبد العزى ، وعبد الدار ، ونحوها . وروي عن جعفر بن محمد أن الشيطان يقعد على ذكر الرجل فإذا لم يقل : بسم الله أصاب معه امرأته ، وأنزل في فرجها كما ينزل الرجل . وروي في بعض الأخبار : إن فيكم مغربين ، قيل : وما المغربون ؟ قال : الذي يشارك فيهم الجن . وروي أن رجلاً قال لابن عباس : إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة من نار ؟ قال : ذلك من وطء الجن . وفي الآثار : إن إبليس لما أخرج إلى الأرض ، قال : يا رب أخرجتني من الجنة لأجل آدم ، فسلطني عليه وعلى ذريته ، قال : أنت مسلط ، فقال : لا أستطيعه إلا بك فزدني ، قال : استفزز من استطعت منهم بصوتك الآية ، فقال آدم : يا رب سلطت إبليس علي وعلى ذريتي وإني لا أستطيعه إلا بك قال : لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظونه ، قال : زدني ، قال : الحسنة بعشرة أمثالها ، والسيئة بمثلها ، قال : زدني ، قال : التوبة معروضة ما دام الروح في الجسد ، فقال : زدني ، قال : { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } الآية [ الزمر – 53 ] . وفي الخبر : أن إبليس قال : يا رب بعثت أنبياء وأنزلت كتباً فما قراءتي ؟ قال : الشعر ، قال : فما كتابي ؟ قال الوشم ، قال : ومن رسلي ؟ قال : الكهنة ، قال : وأين مسكني ؟ قال : الحمامات ، قال : وأين مجلسي ؟ قال : الأسواق ، قال : أي شيء مطعمي ؟ قال : ما لم يذكر عليه اسمي ، قال : ما شرابي ؟ قال : كل مسكر ، قال : وما حبالي ؟ قال : النساء ، قال : وما أذاني ؟ قال : المزامير . قوله عز وجل : { وعدهم } أي : منهم الجميل في طاعتك . وقيل : قل لهم : لا جنة ولا نار ولا بعث . { وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } ، والغرور تزيين الباطل بما يظن أنه حق . فإن قيل : كيف ذكر الله هذه الأشياء وهو يقول : { إن الله لا يأمر بالفحشاء } [ الأعراف – 28 ] ؟ قيل : هذا على طريق التهديد ، كقوله تعالى : { اعملوا ما شئتم } [ فصلت – 40 ] ، وكقول القائل : افعل ما شئت فسترى .
ثم أمره الله أن يفعل كل ما يقدر عليه من إضلالهم فقال : { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } ويدخل في هذا كل داع إلى المعصية .
{ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } ويدخل فيه كل راكب وماش في معصية الله فهو من خيل الشيطان ورجله .
والمقصود أن الله ابتلى العباد بهذا العدو المبين الداعي لهم إلى معصية الله بأقواله وأفعاله .
{ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ } وذلك شامل لكل معصية تعلقت بأموالهم وأولادهم من منع الزكاة والكفارات والحقوق الواجبة ، وعدم تأديب الأولاد وتربيتهم على الخير وترك الشر وأخذ الأموال بغير حقها أو وضعها بغير حقها أو استعمال المكاسب الردية .
بل ذكر كثير من المفسرين أنه يدخل في مشاركة الشيطان في الأموال والأولاد ترك التسمية عند الطعام والشراب والجماع ، وأنه إذا لم يسم الله في ذلك شارك فيه الشيطان كما ورد فيه الحديث .
{ وَعِدْهُمْ } الوعود{[475]} المزخرفة التي لا حقيقة لها ولهذا قال : { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا } أي : باطلا مضمحلا كأن يزين لهم المعاصي والعقائد الفاسدة ويعدهم عليها الأجر لأنهم يظنون أنهم على الحق ، وقال تعالى : { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا }
ثم أضاف - سبحانه - إلى إهانته وتحقيره لإِبليس أوامر أخرى ، فقال - تعالى - : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } .
قال الجمل : أمر الله - تعالى - إبليس بأوامر خمسة ، القصد بها : التهديد والاستدراج ، لا التكليف ، لأنها كلها معاص ، والله لا يأمر بها .
وهذه الأوامر الخمسة هى : اذهب ، واستفزز . . . وأجلب . . . وشاركهم .
وقوله : واستفزز ، من الاستفزاز ، بمعنى الاستخفاف والإِزعاج ، يقال : استفز فلان فلانا إذا استخف به ، وخدعه ، وأوقعه فيما أراده منه . ويقال : فلان استفزه الخوف ، إذا أزعجه .
وقوله : { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } أصل الإِجلاب : الصياح بصوت مسموع . يقال : أجلب فلان على فرسه وجلب عليه ، إذا صاح به ليستحثه على السرعة فى المشى .
قال الآلوسى : " قوله { وأجلب عليهم } أى : صح عليهم من الجلَبة وهى الصياح . قاله الفراء وأبو عبيدة . وقال الزجاج : أجلب على العدو : جمع عليه الخيل . وقال ابن السكيت : جلب عليه : أعان عليه . وقال ابن الأعرابى : أجلب على الرجل ، إذا توعده الشر ، وجمع عليه الجمع .
والخيل : يطلق على الأفراس حقيقة ولا واحد له من لفظه ، وعلى الفرسان مجازا ، وهو المراد هنا .
ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم فى بعض غزواته لأصحابه : " يا خيل الله اركبى " والرجل - بكسر الجيم - بمعنى راجل - كحذر بمعنى حاذر - هو الذى يمشى رجلاً ، أى غير راكب . . . " .
والمعنى . قال الله - تعالى - لإِبليس : اذهب أيها اللعين مذءوما مدحورًا . فإن جهنم هى الجزاء المعد لك ولأتباعك من ذرية آدم ، وافعل ما شئت معهم من الاستفزاز والخداع والإِزعاج ولهو الحديث وأجلب عليهم ما تستطيع جلبه من مكايد ، وما تقدر عليه من وسائل ، كأن تناديهم بصوتك ووسوستك إلى المعاصى ، وكأن تحشد جنودك على اختلاف أنواعهم لحربهم وإغوائهم وصدهم عن الطريق المستقيم .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : ما معنى استفزاز إبليس بصوته ، وإجلابه بخيله ورجله ؟
قلت : هو كلام وارد مورد التمثيل شبهت حاله فى تسلطه على من يغويه ، بمغوار أوقع على قوم ، فصوت بهم صوتًا يستفزهم من أماكنهم ، ويقلقهم عن مراكزهم ، وأجلب عليهم بجنده ، من خيالة ورجالة حتى استأصلهم ، وقيل : بصوته ، أى : بدعائه إلى الشر ، وبخيله ، ورجله : أى كل راكب وماش من أهل العبث . وقيل : يجوز أن يكون لإِبليس خيل ورجال " .
وعلى أية حال ، فالجملة الكريمة تصوير بديع ، لعداوة إبليس لآدم وذريته ، وأنه معهم فى معركة دائمة ، يستعمل فيها كل وسائل شروره ، ليشغلهم عن طاعة ربهم ، وليصرفهم عن الصراط المستقيم ، ولكنه لن يستطيع أن يصل إلى شئ من أغراضه الفاسدة ، ما داموا معتصمين بدين ربهم - عز وجل - .
وقوله - سبحانه - : { وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد وَعِدْهُمْ } ، معطوف على ما قبله .
أى : وشاركهم فى الأموال ، بأن تحضهم على جمعها من الطرق الحرام ، وعلى إنفاقها فى غير الوجوه التى شرعها الله ، كأن يستعملوها فى الربا والرشوة وغير ذلك من المعاملات المحرمة .
وشاركهم فى الأولاد : بأن تحثهم على أن ينشئوهم تنشئة تخالف تعاليم دينهم الحنيف وبأن تيسر لهم الوقوع فى الزنا الذى يترتب عليه ضياع الأنساب ، وبأن تظاهرهم على أن يسموا أولادهم بأسماء يبغضها الله - عز وجل - ، إلى غير ذلك من وساوسك التى تغرى الآباء بأن يربوا أبناءهم تربية يألفون معها الشرور والآثام ، والفسوق والعصيان .
قال الإِمام ابن جرير بعد أن ساق عددًا من الأقوال فى ذلك : " وأولى الأقوال بالصواب أن يقال : كل مولود ولدته أنثى ، عصى الله فيه ، بتسميته بما يكرهه الله ، أو بإدخاله فى غير الدين الذى ارتضاه الله ، أو بالزنا بأمه ، أو بقتله أو وأده ، أو غير ذلك من الأمور التى يعصى الله بفعله به أو فيه ، فقد دخل فى مشاركة إبليس فيه ، من ولد ذلك الولد له أو منه ، لأن الله لم يخصص بقوله : { وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد } معنى الشركة فيه ، بمعنى دون معنى ، فكل ما عصى الله فيه أو به ، أو أطيع الشيطان فيه أو به فهو مشاركة . . . " .
وقد علق الإِمام ابن كثير على كلام ابن جرير بقوله : وهذا الذى قاله - ابن جرير - متجه ، فقد ثبت فى صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله - عز وجل - إنى خلقت عبادى حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " .
وفى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتى أهله قال : باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد فى ذلك لم يضره الشيطان أبدًا " .
وقوله : { وعدهم } أى : وعدهم بما شئت من المواعيد الباطلة الكاذبة . كأن تعدهم بأن الدنيا هى منتهى آمالهم . فعليهم أن يتمتعوا بها كيف شاءوا بدون تقيد بشرع أو دين أو خلق . وكأن تعدهم بأنه ليس بعد الموت حساب أو ثواب أو عقاب ، أو جنة أو نار . . .
وقوله سبحانه { وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } تحذير من الله تعالى لعباده من اتباع الشيطان ، ومن السير وراء خطواته .
وأصل الغرور تزين الباطل بما يوهم أنه حق . يقال : غر فلان فلانا فهو يغُره غرورًا إذا خدعه ، وأصله من الغُرُّ ، وهو الأثر الظاهر من الشئ ، ومنه غرة الفرس لأنها أبرز ما فيه . ولفظ { غرورا } صفة لموصوف محذوف .
والتقدير : وعدهم - أيها الشيطان - بما شئت من الوعود الكاذبة ، وما يعد الشيطان بنى آدم إلا وعدا غرورا .
ويجوز أن يكون مفعولاً لأجله فيكون المعنى : وما يعدهم الشيطان إلا من أجل الغرور والمخادعة .
وفى الجملة الكريمة التفات من الخطاب إلى الغيبة ، إهمالاً لشأن الشيطان ، وبيانًا لحاله مع بنى آدم ؛ حتى يحترسوا منه ويحذروه .
( واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ) .
وهو تجسيم لوسائل الغواية والإحاطة ، والاستيلاء على القلوب والمشاعر والعقول . فهي المعركة الصاخبة ، تستخدم فيها الأصوات والخيل والرجل على طريقة المعارك والمبارزات . يرسل فيها الصوت فيزعج الخصوم ويخرجهم من مراكزهم الحصينة ، أو يستدرجهم للفخ المنصوب والمكيدة المدبرة . فإذا استدرجوا إلى العراء أخذتهم الخيل ، وأحاطت بهم الرجال !
( وشاركهم في الأموال والأولاد ) . .
وهذه الشركة تتمثل في أوهام الوثنية الجاهلية ، إذ كانوا يجعلون في أموالهم نصيبا للآلهة المدعاة - فهي للشيطان - وفي أولادهم نذورا للآلهة أو عبيدا لها - فهي للشيطان - كعبد اللات وعبد مناة . وأحيانا كانوا يجعلونها للشيطان رأسا كعبد الحارث !
كما تتمثل في كل مال يجبى من حرام ، أو يتصرف فيه بغير حق ، أو ينفق في إثم . وفي كل ولد يجيء من حرام . ففيه شركة للشيطان .
والتعبير يصور في عمومه شركة تقوم بين إبليس وأتباعه تشمل الأموال والأولاد وهما قوام الحياة !
وإبليس مأذون في أن يستخدم وسائله كلها ، ومنها الوعود المغرية المخادعة : ( وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ) كالوعد بالإفلات من العقوبة والقصاص . والوعد بالغنى من الأسباب الحرام . والوعد بالغلبة والفوز بالوسائل القذرة والأساليب الخسيسة . . .
ولعل أشد الوعود إغراء الوعد بالعفو والمغفرة بعد الذنب والخطيئة ؛ وهي الثغرة التي يدخل منها الشيطان على كثير من القلوب التي يعز عليه غزوها من ناحية المجاهرة بالمعصية والمكابرة . فيتلطف حينئذ إلى تلك النفوس المتحرجة ، ويزين لها الخطيئة وهو يلوح لها بسعة الرحمة الإلهية وشمول العفو والمغفرة !
وقوله : { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } قيل : هو الغناء . قال مجاهد : باللهو والغناء ، أي : استخفهم بذلك .
وقال ابن عباس في قوله : { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } قال : كل داع دعا إلى معصية الله ، عز وجل ، وقال قتادة ، واختاره ابن جرير .
وقوله : { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } يقول : واحمل عليهم بجنودك خَيَّالتهم ورَجْلتَهم{[17645]} ؛ فإن " الرّجْل " جمع " راجل " ، كما أن " الركب " جمع " راكب " و " صحب " جمع " صاحب " .
ومعناه : تسلط عليهم بكل ما تقدرعليه . وهذا أمر قدري ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } [ مريم : 83 ] أي : تزعجهم إلى المعاصي إزعاجًا ، وتسوقهم إليها{[17646]} سوقًا . وقال ابن عباس ، ومجاهد في قوله : { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } قال : كل راكب وماش في معصية الله .
وقال قتادة : إن له خيلا ورجالا من الجن والإنس ، وهم الذين يطيعونه .
وتقول العرب : " أجلب فلان على فلان " : إذا صاح عليه . ومنه : " نهى في المسابقة عن الجَلَب والجَنَب " ومنه اشتقاق " الجلبة " ، وهي ارتفاع الأصوات .
وقوله : { وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ } قال ابن عباس ومجاهد : هو ما أمرهم به من إنفاق الأموال في معاصي الله .
وقال عطاء : هو الربا . وقال الحسن : [ هو ]{[17647]} جمعها من خبيث ، وإنفاقها في حرام . وكذا قال قتادة .
وقال العوفي ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : أما مشاركته إياهم في أموالهم ، فهو ما حرموه من أنعامهم ، يعني : من البحائر والسوائب ونحوها . وكذا قال الضحاك وقتادة .
[ ثم ]{[17648]} قال ابن جرير : والأولى أن يقال : إن الآية تعم ذلك كله .
وقوله : { وَالأولادِ } قال العوفي عن ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك : يعني أولاد الزنا .
وقال علي ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو ما كانوا قتلوه من أولادهم سفهًا بغير علم .
وقال قتادة ، عن الحسن البصري : قد والله شاركهم في الأموال والأولاد مَجَّسُوا وهودوا ونَصّروا وصبغوا غير صبغة الإسلام ، وجَزَّؤوا من أموالهم جزءًا للشيطان{[17649]} وكذا قال قتادة سواء .
وقال أبو صالح ، عن ابن عباس : هو تسميتهم أولادهم " عبد الحارث " و " عبد شمس " و " عبد فلان " .
قال ابن جرير : وأولى الأقوال بالصواب أن يقال : كل مولود ولدته أنثى ، عصى الله فيه ، بتسميته ما{[17650]} يكرهه الله ، أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله ، أو بالزنا بأمه ، أو بقتله ووأده ، وغير ذلك من الأمور التي يعصي{[17651]} الله بفعله به أو فيه ، فقد دخل في مشاركة إبليس فيه من ولد ذلك الولد له أو منه ؛ لأن الله لم يخصص بقوله : { وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ } معنى الشركة فيه بمعنى دون معنى ، فكل ما عصي الله فيه - أو به ، وأطيع فيه الشيطان - أو به ، فهو مشاركة .
وهذا الذي قاله مُتَّجه ، وكل{[17652]} من السلف ، رحمهم الله ، فسر بعض المشاركة ، فقد ثبت في صحيح مسلم ، عن عياض بن حمار{[17653]} ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله عز وجل : إني خلقت عبادي حُنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم{[17654]} عن دينهم ، وحَرّمت عليهم ما أحللت لهم " {[17655]} .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال : بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يُقَدّر بينهما ولد في ذلك ، لم يضره الشيطان أبدًا " {[17656]} .
وقوله : { وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا } كما أخبر تعالى عن إبليس أنه يقول إذا حصحص الحق يوم يقضى بالحق : { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } الآية [ إبراهيم : 22 ] .
{ واستفزز } واستخفف . { من استطعت منهم } أن تستفزه والفز الخفيف { بصوتك } بدعائك إلى الفساد . { وأجلب عليهم } وصح عليهم من الجلبة وهي الصياح . { بخيلك ورجلك } بأعوانك من راكب وراجل ، والخيل الخيالة ومنه قوله عليه الصلاة والسلام " يا خيل الله اركبي " والرجل اسم جمع للراجل كالصحب والركب ، ويجوز أن يكون تمثيلا لتسلطه على من يغويه بمغوار صوت على قوم فاستفزهم من أماكنهم واجلب عليهم بجنده حتى استأصلهم . وقرأ حفص { ورجلك } بالكسر وغيره بالضم وهما لغتان كندس وندس ومعناه : وجمعك الرجل . وقرئ و " رجالك " و " رجالك " . { وشاركهم في الأموال } بحملهم على كسبها وجمعها من الحرام والتصرف فيها على ما لا ينبغي { والأولاد } بالحث على التوصل إلى الولد بالسبب المحرم ، والإشراك فيه بتسميته عبد العزى ، والتضليل بالحمل على الأديان الزائغة والحرف الذميمة والأفعال القبيحة . { وعدهم } المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة والاتكال على كرامة الآباء وتأخير التوبة لطول الأمل . { وما يعدهم الشيطان إلا غرورا } اعتراض لبيان مواعيده الباطلة ، والغرور تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب .
{ واستفزز } معناه استخف واخدع حتى يقع في إرادتك ، تقول استفزني فلان في كذا إذا خدعك حتى تقع في أمر أراده ، ومن الخفة قيل لولد البقرة فز ومثله قول زهير :
كما استغاث بسيىء فز غيطلة . . . خاف العيون فلم ينظر به الحشك{[7624]}
و «الصوت » هنا : هو الغناء والمزامير والملاهي ، لأنها أصوات كلها مختصة بالمعاصي ، فهي مضافة إلى { الشيطان } ، قاله مجاهد ، وقيل معناه : بدعائك إياهم إلى طاعتك ، قال ابن عباس : صوته ، كل داع إلى معصية الله ، والصواب أن يكون الصوت يعم جميع ذلك . وقوله { وأجلب } أي هول ؛ والجلبة : الصوت الكثير المختلط الهائل ، وقرأ الحسن : «واجلُب » بوصل الألف وضم اللام . وقوله { بخيلك ورجلك } قيل هذا مجاز واستعارة ، بمعنى : اسع سعيك ، وابلغ جهدك ، وقيل معناه : أن له من الجن خيلاً ورجلاً ، قاله قتادة ، وقيل المراد : فرسان الناس ورجالتهم ، المتصرفون في الباطل ، فإنهم كلهم أعوان إبليس على غيرهم ، قاله مجاهد وقرأ الجمهور «ورجْلك » بسكون الجيم ، وهو جمع راجل ، كتاجر وتجر ، وصاحب وصحب ، وشارب وشرب ، وقرأ حفص عن عاصم : «ورجِلك » بكسر الجيم على وزن فعل ، وكذلك قرأ الحسن وأبو عمرو بخلاف عنه ، وهي صفة ؛ تقول فلان يمشي رجلاً ، غير راكب ، ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
أنا أقاتل عن ديني على فرسي . . . ولا كذا رجلاً إلا بأصحابي{[7625]}
وقرأ قتادة وعكرمة : «ورجالك » . { وشاركهم في الأموال } عام : لكل معصية يصنعها الناس بالمال ، فإن ذلك المصرف في المعصية ، هو خط إبليس ، فمن ذلك البحائر وشبهها ، ومن ذلك مهر البغي ، وثمن الخمر ، وحلوان الكاهن ، والربا ، وغير ذلك مما يوجد في الناس دأباً . وقوله { والأولاد } عام لكل ما يصنع في أمر الذرية من المعاصي فمن ذلك الإيلاد بالزنا ، ومن ذلك تسميتهم عبد شمس ، وعبد الجدي ، وأبا الكويفر ، وكل اسم مكروه ومن ذلك الوأد الذي كانت العرب تفعله ، ومن ذلك صنعهم في أديان الكفر ، وغير هذا ، وما أدخل النقاش من وطء الجن وأنه تحبل المرأة من الإنس فضعيف كله{[7626]} . وقوله { وعدهم } أي منّهم بما لا يتم لهم ، وبأنهم غير مبعوثين ، فهذه مشاركة في النفوس ، ثم أخبر الله تعالى أنه يعدهم { غروراً } منه ، لأنه لا يغني عنهم شيئاً .
الاستفزاز : طلب الفَزّ ، وهو الخفة والانزعاج وترك التثاقل . والسين والتاء فيه للجَعل الناشىء عن شدة الطلب والحث الذي هو أصل معنى السين والتاء ، أي استخفهم وأزعجهم .
والصوت : يطلق على الكلام كثيراً ، لأن الكلام صوت من الفم . واستعير هنا لإلقاء الوسوسة في نفوس الناس . ويجوز أن يكون مستعملاً هنا تمثيلاً لحالة إبليس بحال قائد الجيش فيكون متصلاً بقوله : { وأجلب عليهم بخيلك } كما سيأتي .
والإجْلاب : جَمْع الجيش وسوقه ، مشتق من الجَلَبة بفتحتين ، وهي الصياح ، لأن قائد الجيش إذا أراد جمع الجيش نادى فيهم للنفير أو للغارة والهجوم .
والخيل : اسم جمع الفَرس . والمراد به عند ذكر ما يدل على الجيش الفرسان . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم « يا خيلَ الله اركبي » وهو تمثيل لحال صرف قوته ومقدرته على الإضلال بحال قائد الجيش يجمع فرسانه ورجالته . .
ولما كان قائد الجيش ينادي في الجيش عند الأمر بالغارة جاز أن يكون قوله : { واستفزز من استطعت منهم بصوتك } من جملة هذا التمثيل .
والرّجْل : اسم جمع الرجال كصحب . وقد كانت جيوش العرب مؤلفة من رجالة يقاتلون بالسيوف ومن كتائب فرسان يقاتلون بنضح النبال ، فإذا التحموا اجتلدوا بالسيوف جميعاً . قال أنيْف بن زَبان النّبْهاني :
وتحت نحور الخيل حرشف رَجْلة *** تتاح لحبات القلوب نبالها
فلما التقينا بيّن السيفُ بيننا *** لسائلةٍ عنا حَفِيّ سؤالُها
والمعنى : أجْمِع لمن اتبعك من ذرية آدم وسائلَ الفتنة والوسوسة لإضلالهم . فجعلت وسائل الوسوسة بتزيين المفاسد وتفظيع المصالح كاختلاف أصناف الجيش ، فهذا تمثيل حال الشيطان وحال متبعيه من ذرية آدم بحال من يغزو قوماً بجيش عظيم من فرسان ورجالة .
وقرأ حفص عن عاصم { ورجلك } بكسر الجيم ، وهو لغة في رَجُل مضموم الجيم ، وهو الواحد من الرجال . والمراد الجنس . والمعنى : بخيلك ورجالك ، أي الفرسان والمشاة .
والباء في { بخيلك } إما لتأكيد لصوق الفعل لمفعوله فهي لمجرد التأكيد . ومجرورها مفعول في المعنى لفعل { أجلب } مثل { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] ؛ وإما لتضمين فعل { أجلب } معنى ( اغزُهم ) فيكون الفعل مضمناً معنى الفعل اللازم وتكون الباء للمصاحبة .
والمشاركة في الأموال : أن يكون للشيطان نصيب في أموالهم وهي أنعامهم وزروعهم إذ سول لهم أن يجعلوا نصيباً في النتاج والحرث للأصنام . وهي من مصارف الشيطان لأن الشيطان هو المسول للناس باتخاذها ، قال تعالى : { وجعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } [ الأنعام : 136 ] .
وأما مشاركة الأولاد فهي أن يكون للشيطان نصيب في أحوال أولادهم مثل تسويله لهم أن يئدوا أولادهم وأن يستولدوهم من الزنى ، وأن يُسمّوهم بعبدة الأصنام ، كقولهم : عبد العُزى ، وعبد اللات ، وزيد مناة ، ويكون انتسابه إلى ذلك الصنم .
ومعنى { عِدْهُمْ } أعطهم المواعيد بحصول ما يرغبونه كما يسول لهم بأنهم إن جعلوا أولادهم للأصنام سلِم الآباء من الثكل والأولادُ من الأمراض ، ويسول لهم أن الأصنام تشفع لهم عند الله في الدنيا وتضمن لهم النصر على الأعداء ، كما قال أبو سفيان يوم أحُد « أعْلُ هبل » . ومنه وعدهم بأنهم لا يخشون عذاباً بعد الموت لإنكار البعث ، ووعد العصاة بحصول اللذات المطلوبة من المعاصي مثل الزنى والسرقة والخمر والمقامرة .
وحذف مفعول { وعدهم } للتعميم في الموعود به . والمقام دال على أن المقصود أن يعدهم بما يرغبون لأن العدة هي التزام إعطاء المرغوب . وسماه وعداً لأنه يوهمهم حصوله فيما يستقبل فلا يزالون ينتظرونه كشأن الكذاب أن يحتزر عن الإخبار بالعاجل لقرب افتضاحه فيجعل مواعيده كلها للمستقبل .
ولذلك اعترض بجملة { وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } .
والغرور : إظهار الشيء المكروه في صورة المحبوب الحسن . وتقدم عند قوله تعالى : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } في سورة [ آل عمران : 196 ] ، وقوله : { زخرف القول غرورا } في سورة [ الأنعام : 112 ] . والمعنى : أن ما سوله لهم الشيطان في حصول المرغوب إما باطل لا يقع ، مثل ما يسوله للناس من العقائد الفاسدة وكونه غروراً لأنه إظهار لما يقع في صورة الواقع فهو تلبيس ؛ وإما حاصل لكنه مكروه غير محمود بالعاقبة ، مثل ما يسوله للناس من قضاء دواعي الغضب والشهوة ومحبة العاجل دون تفكير في الآجل ، وكل ذلك لا يخلو عن مقارنة الأمر المكروه أو كونه آيلاً إليه بالإضرار . وقد بسط هذا الغزالي في كتاب الغرور من كتاب إحياء علوم الدين .
وإظهار اسم الشيطان في قوله : { وما يعدهم الشيطان } دون أن يؤتى بضميره المستتر لأن هذا الاعتراض جملة مستقلة فلو كان فيها ضمير عائد إلى ما في جملةٍ أخرى لكان في النثر شبه عيب التضمين في الشعر ، ولأن هذه الجملة جارية مجرى المثل فلا يحسن اشتمالها على ضمير ليس من أجزائها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال سبحانه: {واستفزز}، يقول: واستزل
{من استطعت منهم بصوتك}، يعني: بدعائك،
{وأجلب}، يعني: واستعن {عليهم بخيلك}، يعني: كل راكب يسير في معصيته،
{ورجلك}، يعني: كل راجل يمشي في معصية الله عز وجل من الجن والإنس من يطيعك منهم،
{وشاركهم في الأموال}، يقول: زين لهم في الأموال، يعني: كل مال حرام، وما حرموا من الحرث والأنعام،
عن ابن عباس، قال: إن الزنا، والغضب، والأولاد، يعني: كل ولد من حرام، فهذا كله من طاعة إبليس وشركته...
{وعدهم}، يعني: ومنيهم الغرور ألا بعث،
{وما يعدهم الشيطان إلا غرورا}، يعني: باطلا، الذي ليس بشيء...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره بقوله "وَاسْتَفزِزْ": واستخفف واستجهل...
"مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوتِكَ". اختلف أهل التأويل في الصوت الذي عناه جلّ ثناؤه بقوله "وَاسْتَفْزِز مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوتِك"؛
فقال بعضهم: عنى به: صوت الغناء واللعب... وقال آخرون: عنى به "واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ" بدعائك إياه إلى طاعتك ومعصية الله... عن ابن عباس... قال: صوته كلّ داع دعا إلى معصية الله...
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الله تبارك وتعالى قال لإبليس: واستفزز من ذرّية آدم من استطعت أن تستفزّه بصوتك، ولم يخصص من ذلك صوتا دون صوت، فكل صوت كان دعاء إليه وإلى عمله وطاعته، وخلافا للدعاء إلى طاعة الله، فهو داخل في معنى صوته الذي قال الله تبارك وتعالى اسمه له "وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ".
وقوله: "وأجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ ورَجِلكَ" يقول: وأجمع عليهم من ركبان جندك ومشاتهم من يجلب عليها بالدعاء إلى طاعتك، والصرف عن طاعتي. يقال منه: أجلب فلان على فلان إجلابا: إذا صاح عليه. والجَلَبة: الصوت... وأما قوله: "وَشارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ والأوْلادِ"، فإن أهل التأويل اختلفوا في المشاركة التي عنيت بقوله: "وَشارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ والأوْلادِ"؛
فقال بعضهم: هو أمره إياهم بإنفاق أموالهم في غير طاعة الله واكتسابهموها من غير حلها...
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك كلّ ما كان من تحريم المشركين ما كانوا يحرّمون من الأنعام كالبحائر والسوائب ونحو ذلك...
وقال آخرون: بل عُنِي به ما كان المشركون يذبحونه لآلهتهم...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُنِي بذلك كلّ مال عصي الله فيه بإنفاق في حرام أو اكتساب من حرام، أو ذبح للآلهة، أو تسييب، أو بحر للشيطان، وغير ذلك مما كان معصيا به أو فيه، وذلك أن الله قال "وَشارِكْهُمْ في الأمْوَالِ" فكلّ ما أطيع الشيطان فيه من مال وعصى الله فيه، فقد شارك فاعل ذلك فيه إبليس، فلا وجه لخصوص بعض ذلك دون بعض.
وقوله: "والأوْلادِ"؛ اختلف أهل التأويل في صفة شركته بني آدم في أولادهم؛ فقال بعضهم: شركته إياهم فيهم بِزناهم بأمهاتهم... عن ابن عباس... قال: أولاد الزنا...
وقال آخرون: عُني بذلك: وأْدُهم أولادَهم وقتلهموهم... وقال آخرون: بل عني بذلك: صبغهم إياهم في الكفر... عن الحسن... قال: قد والله شاركهم في أموالهم وأولادهم، فمجسوا وهوّدوا ونصروا وصبغوا غير صبغة الإسلام وجزءوا من أموالهم جزءا للشيطان...
وقال آخرون: بل عني بذلك تسميتهم أولادهم عبد الحرث وعبد شمس...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: كلّ ولد ولدته أنثى عصى الله بتسميته ما يكرهه الله، أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله، أو بالزنا بأمه، أو قتله ووأده، أو غير ذلك من الأمور التي يعصى الله بها بفعله به أو فيه، فقد دخل في مشاركة إبليس فيه من ولد ذلك المولود له أو منه، لأن الله لم يخصص بقوله "وَشارِكْهُم في الأمْوَالِ والأولادِ" معنى الشركة فيه بمعنى دون معنى، فكلّ ما عصى الله فيه أو به، وأطيع به الشيطان أو فيه، فهو مشاركة من عصى الله فيه أو به إبليس فيه.
وقوله: "وَعِدْهُم وَما يَعِدُهُمُ الشّيْطانُ إلاّ غُرُورا" يقول تعالى ذكره لإبليس: وعد أتباعك من ذرّية آدم، النصرة على من أرادهم بسوء. يقول الله: "وَما يَعِدُهُمْ الشّيْطانُ إلاّ غُرُورا" لأنه لا يغني عنهم من عقاب الله إذا نزل بهم شيئا، فهم من عداته في باطل وخديعة، كما قال لهم عدوّ الله حين حصحص الحقّ: "إنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعَدَ الحَقّ وَوَعَدتُكُمْ فَأخْلَفْتُكُمْ وَما كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إلاّ أنْ دَعَوْتُكْمْ فاسْتَجَبَتُمْ لي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أنْفُسَكُمْ ما أنا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيّ إنّي كَفَرْتُ بِمَا أشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{واستفزز من استطعت منهم بصوتك} هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: على التمكن من ذلك والإقدار على ما ذكر؛ أي مكن له ذلك، وأقدر عليه لخذلانه إياه لما عصى ربه، وترك أمره بالسجود جورا منه حين قال: {وإن عليك اللعنة إلى يوم اليدين} (الحجر: 35) مكن له ذلك ليتم له اللعنة والخذلان.
والثاني: قال ذلك له على التوعد والتهدد. ألا ترى أنه ذكر له هذا على أمر وعيد، وهو قوله: {فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا}؟ فيخرج قوله: {واستفزز} على إثر ذلك مخرج الوعيد له لمن تبعه، وأجابه، كقوله: {اعملوا ما شئتم إنه بما تعلمون بصير} (فصلت: 40) لهذا، وإن كان ظاهره أمرا فهو وعيد. فعلى قوله: {واستفزز من استطعت منهم} فإن ذلك ولمن اتبعك كذا. أو لما ذكرنا من التمكين له من ذلك و الإقدار على ذلك ليُتِمَ له الخذلان واللعن الذي لعنه...
{وعدهم} قال عامة أهل التأويل: أي وعدهم أن لا جنة ولا نار، ولا بعث، أي يعدهم بخلاف ما وعدهم الله، وخوفهم على ضد ما خوفهم الله... وهو ما قال: {إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم} (إبراهيم: 22) أخبر أن ما وعد هو، قد أخلف. فذلك تأويل قوله: {وما يعدهم الشيطان إلا غرورا} أي كذبا وباطلا لأنه يخرج كله على خلاف ما وعد.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصًوْتِكَ}: أي افعل ما أمكنكَ، فلا تأثيرَ لفعلك في أحد، فإنَّ المنشئَ والمُبْدِعَ هو الله.. وهذا غاية التهديد...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله؟ قلت: هو كلام ورد مورد التمثيل، مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم فصوّت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم، وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم. وقيل: بصوته، بدعائه إلى الشر...
وأما المشاركة في الأموال والأولاد فكل معصية يحملهم عليها في بابهما، كالربا والمكاسب المحرّمة، والبحيرة والسائبة، والإنفاق في الفسوق، والإسراف. ومنع الزكاة، والتوصل إلى الأولاد بالسبب الحرام، ودعوى ولد بغير سبب، والتسمية بعبد العزى وعبد الحرث، والتهويد والتنصير، والحمل على الحرف الذميمة والأعمال المحظورة، وغير ذلك...
{وَعِدْهُمْ} المواعيد الكاذبة. من شفاعة الآلهة والكرامة على الله بالأنساب الشريفة، وتسويف التوبة ومغفرة الذنوب بدونها، والاتكال على الرحمة... وإيثار العاجل على الآجل...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{واستفزز} معناه استخف واخدع حتى يقع في إرادتك، تقول استفزني فلان في كذا إذا خدعك حتى تقع في أمر أراده... والصوت... قال ابن عباس: صوته، كل داع إلى معصية الله، والصواب أن يكون الصوت يعم جميع ذلك...
{وأجلب} أي هول؛ والجلبة: الصوت الكثير المختلط الهائل... {وشاركهم في الأموال} عام: لكل معصية يصنعها الناس بالمال، فإن ذلك المصرف في المعصية، هو خط إبليس، فمن ذلك البحائر وشبهها، ومن ذلك مهر البغي، وثمن الخمر، وحلوان الكاهن، والربا، وغير ذلك مما يوجد في الناس دأباً.
{والأولاد} عام لكل ما يصنع في أمر الذرية من المعاصي...
الأول: قال الفراء: إنه من الجلبة وهو الصياح وربما قالوا الجلب كما قالوا الغلبة والغلب والشفقة والشفق، وقال الليث وأبو عبيدة أجلبوا وجلبوا من الصياح.
الثاني: قال الزجاج في فعل وأفعل، أجلب على العدو إجلابا إذا جمع عليه الخيول.
الثالث: قال ابن السكيت يقال هم يجلبون عليه بمعنى أنهم يعينون عليه.
والرابع: روى ثعلب عن ابن الأعرابي أجلب الرجل على الرجل إذا توعده الشر وجمع عليه الجمع، فقوله: وأجلب عليهم معناه على قول الفراء صح عليهم بخيلك ورجلك، وعلى قول الزجاج: أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك وتكون الباء في قوله: بخيلك زائدة على هذا القول، وعلى قول ابن السكيت معناه أعن عليهم بخيلك ورجلك، ومفعول الإجلاب على هذا القول محذوف كأنه يستعين على إغوائهم بخيله ورجله، وهذا أيضا يقرب من قول ابن الأعرابي... واختلفوا في تفسير الخيل والرجل، فروى أبو الضحى عن ابن عباس أنه قال: «كل راكب أو راجل في معصية الله تعالى فهو من خيل إبليس وجنوده»، ويدخل فيه كل راكب وماش في معصية الله تعالى، فعلى هذا التقدير خيله ورجله كل من شاركه في الدعاء إلى المعصية.
والقول الثاني: يحتمل أن يكون لإبليس جند من الشياطين بعضهم راكب وبعضهم راجل.
والقول الثالث: أن المراد منه ضرب المثل كما تقول للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك وهذا الوجه أقرب، والخيل تقع على الفرسان...
{وشاركهم في الأموال والأولاد} نقول: أما المشاركة في الأموال فهي عبارة عن كل تصرف قبيح في المال سواء كان ذلك القبيح بسبب أخذه من غير حقه أو وضعه في غير حقه ويدخل فيه الربا والغصب والسرقة والمعاملات الفاسدة، وهكذا قاله القاضي وهو ضبط حسن... وأما المفسرون فقد ذكروا وجوها؛ قال قتادة: المشاركة في الأموال هي أن جعلوا بحيرة وسائبة، وقال عكرمة هي عبارة عن تبتيكهم آذان الأنعام، وقيل هي أن جعلوا من أموالهم شيئا لغير الله تعالى كما قال تعالى: {فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا} [الأنعام: 136] والأصوب ما قاله القاضي... وأما المشاركة في الأولاد فذكروا فيه وجوها؛
وخامسها:... إن كل تصرف من المرء في ولده على وجه يؤدي إلى ارتكاب منكر أو قبيح فهو داخل فيه...
{وعدهم}... واعلم أنه لما كان مقصود الشيطان الترغيب في الاعتقاد الباطل والعمل الباطل والتنفير عن الاعتقاد الحق والعمل الحق، ومعلوم أن الترغيب في الشيء لا يمكن إلا بأن يقرر عنده أنه لا ضرر البتة في فعله ومع ذلك فإنه يفيد المنافع العظيمة، والتنفير عن الشيء لا يمكن إلا بأن يقرر عنده أنه لا فائدة في فعله، ومع ذلك فيفيد المضار العظيمة... إن الشيطان إذا دعا إلى المعصية فلا بد وأن يقرر أولا أنه لا مضرة في فعله البتة، وذلك إنما يمكن إذا قال لا معاد ولا جنة ولا نار، ولا حياة بعد هذه الحياة، فبهذا الطريق يقرر عنده أنه لا مضرة البتة في فعل هذه المعاصي... وأما طريق التنفير عن الطاعة فهو أن يقرر أولا عنده أنه لا فائدة فيه وتقريره من وجهين:
الأول: أن يقول لا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عذاب.
والثاني: أن هذه العبادات لا فائدة فيها للعابد والمعبود فكانت عبثا محضا فبهذين الطريقين يقرر الشيطان عند الإنسان أنه لا فائدة فيها، وإذا فرغ عن هذا المقام قال إنها توجب التعب والمحنة وذلك أعظم المضار...
واعلم أن الله تعالى لما قال: {وعدهم} أردفه بما يكون زاجرا عن قبول وعده فقال: {وما يعدهم الشيطان إلا غرورا} والسبب فيه أنه إنما يدعو إلى أحد أمور ثلاثة قضاء الشهوة وإمضاء الغضب وطلب الرياسة وعلو الدرجة ولا يدعو البتة إلى معرفة الله تعالى ولا إلى خدمته...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}... ومعناه: تسلط عليهم بكل ما تقدرعليه. وهذا أمر قدري...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بدأ سبحانه بالوعيد لطفاً بالمكلفين، عطف على "اذهب "قوله ممثلاً حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع بقوم فصوت بهم صوتاً يستفزهم من أماكنهم، ويقلعهم عن مراكزهم، وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم: {واستفزز} أي استخف، والفز أصله القطع، أي استزله بقطعه عن الصواب -قاله الرماني {من استطعت منهم} وهم الذين سلطناك عليهم {بصوتك} أي دعائك بالغنى والمزامير وكل ما تزينه بالوساس {وأجلب} أي اجمع أو سق بغاية ما يمكنك من الصياح {عليهم بخيلك} أي ركبان جندك {ورجلك} أي ومشاتهم؛ والمعنى: افعل جميع ما تقدر عليه، ولا تدع شيئاً من قوتك، فإنك لا تقدر على شيء لم أقدره لك.
ولما كان الشيطان طالباً شركة الناس في جميع أمورهم بوساوسه الحاملة لهم على إفسادها، فإن أطاعوه كانوا طالبين لأن يشركوه وإن كانوا لا شعور لهم بذلك، عبر بصيغة المفاعلة فقال تعالى: {وشاركهم} أي بوثوبك على مخالطتهم عند ما يشاركونك بفعل ما يوافق هواك {في الأموال} أي التي يسعون في تحصيلها {والأولاد} أي التي ينسلونها، إن اقتنوها بوجه محرم أو لم يذكروا اسمي عليها، وكذا قرابينهم لغير الله وإنفاقهم في المحرمات وتعليمهم أولادهم المعاصي والكفر مشاركة فيها {وعدهم} من المواعيد الباطلة ما يستخفهم ويغرهم من شفاعة الآلهة والكرامة على الله تعالى وتسويف التوبة- ونحو ذلك؛ ثم التفت إلى الصالحين من عباده فأخبرهم تثبيتاً لهم وتنبيهاً لغيرهم على أنه ليس بيده شيء، فقال تعالى مظهراً لضميره بما يدل على تحقيره، تقبيحاً لأمره وتنفيراً منه: {وما يعدهم الشيطان} أي المحترق المطرود باللعنة، من عدم البعث وطول الأجل وشفاعة الآلهة ونحو ذلك {إلا غروراً} والغرور: تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وعبر عن الدعاء بالصوت تحقيراً له حتى كأنه لا معنى له...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَعِدْهُمْ} الوعود المزخرفة التي لا حقيقة لها ولهذا قال: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} أي: باطلا مضمحلا كأن يزين لهم المعاصي والعقائد الفاسدة ويعدهم عليها الأجر لأنهم يظنون أنهم على الحق...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك). وهو تجسيم لوسائل الغواية والإحاطة، والاستيلاء على القلوب والمشاعر والعقول. فهي المعركة الصاخبة، تستخدم فيها الأصوات والخيل والرجل على طريقة المعارك والمبارزات. يرسل فيها الصوت فيزعج الخصوم ويخرجهم من مراكزهم الحصينة، أو يستدرجهم للفخ المنصوب والمكيدة المدبرة. فإذا استدرجوا إلى العراء أخذتهم الخيل، وأحاطت بهم الرجال!... وإبليس مأذون في أن يستخدم وسائله كلها، ومنها الوعود المغرية المخادعة: (وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) كالوعد بالإفلات من العقوبة والقصاص. والوعد بالغنى من الأسباب الحرام. والوعد بالغلبة والفوز بالوسائل القذرة والأساليب الخسيسة... ولعل أشد الوعود إغراء الوعد بالعفو والمغفرة بعد الذنب والخطيئة؛ وهي الثغرة التي يدخل منها الشيطان على كثير من القلوب التي يعز عليه غزوها من ناحية المجاهرة بالمعصية والمكابرة. فيتلطف حينئذ إلى تلك النفوس المتحرجة، ويزين لها الخطيئة وهو يلوح لها بسعة الرحمة الإلهية وشمول العفو والمغفرة!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ولما كان قائد الجيش ينادي في الجيش عند الأمر بالغارة جاز أن يكون قوله: {واستفزز من استطعت منهم بصوتك} من جملة هذا التمثيل... والمعنى: أجْمِع لمن اتبعك من ذرية آدم وسائلَ الفتنة والوسوسة لإضلالهم. فجعلت وسائل الوسوسة بتزيين المفاسد وتفظيع المصالح كاختلاف أصناف الجيش، فهذا تمثيل حال الشيطان وحال متبعيه من ذرية آدم بحال من يغزو قوماً بجيش عظيم من فرسان ورجالة... وقرأ حفص عن عاصم {ورجلك} بكسر الجيم، وهو لغة في رَجُل مضموم الجيم، وهو الواحد من الرجال. والمراد الجنس. والمعنى: بخيلك ورجالك، أي الفرسان والمشاة... وحذف مفعول {وعدهم} للتعميم في الموعود به. والمقام دال على أن المقصود أن يعدهم بما يرغبون لأن العدة هي التزام إعطاء المرغوب. وسماه وعداً لأنه يوهمهم حصوله فيما يستقبل فلا يزالون ينتظرونه كشأن الكذاب أن يحتزر عن الإخبار بالعاجل لقرب افتضاحه فيجعل مواعيده كلها للمستقبل... وإظهار اسم الشيطان في قوله: {وما يعدهم الشيطان} دون أن يؤتى بضميره المستتر لأن هذا الاعتراض جملة مستقلة فلو كان فيها ضمير عائد إلى ما في جملةٍ أخرى لكان في النثر شبه عيب التضمين في الشعر، ولأن هذه الجملة جارية مجرى المثل فلا يحسن اشتمالها على ضمير ليس من أجزائها...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أي استخفهم، وحرضهم، وحركهم إلى اتبعاك ليجيئوا إليك تابعين، لصوتك الداعي، وجاهر به في الدعوة إلى المعاصي... وفي الكلام تشبيه، وهو تشبيه حال الشيطان في دعوته الغاوية الضالة والمستعد للشر والإغواء بحال جيش من الأشرار يستفز الأنصار الأتباع، ويكون جلبة من خيالة وراجلين، فهذه الحال تشبه حال جيش فساد مستعد للإغارة على الخير... ومعنى هذه المشاركة في الأموال أنه يشاركهم في إثمها، والعذاب عليها لا أنه يشركهم فيها بالأخذ، إنه لا يريد منهم إلا الإغواء، فهو يغويهم، ويشاركهم في كل مآثم الإغواء...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{واستفزز من استطعت منهم بصوتك}، ويصدق هذا على الأغاني المثيرة والمزامير المهيجة، التي تضج بها أندية الليل وأوكار الفساد، كما يصدق على الخطب والتصريحات، التي تثير الفتن بين الأفراد والجماعات...
{وأجلب عليهم بخيلك ورجلك}، ويصدق هذا على الحروب العدوانية، والفتن الداخلية... ويندرج تحت هذه الآية "أولاد الغير "الذين يقع تبنيهم وإدماجهم في سجل "الحالة المدنية"، فتختلط بسبب تبنيهم الباطل الأنساب والأرحام...
{بخيلك ورجلك}: أي: صوت وصح بهم راكباً الخيل لتفزعهم... وقوله: {وما يعدهم الشيطان إلا غرورا}: أي: لا يستطيع أن يغر بوعوده إلا صاحب الغرة والغفلة، ومنها الغرور: أي يزين لك الباطل في صورة الحق فيقولون: غره. وأنت لا تستطيع أبداً أن تصور لإنسان الباطل في صورة الحق إلا إذا كان عقله قاصراً غافلاً؛ لأنه لو عقل وانتبه لتبين له الحق من الباطل، إنما تأخذه على غرة من فكره، وعلى غفلة من عقله...
إذن: في الآيتين السابقتين خمسة أوامر لإبليس: اذهب، استفزز، وأجلب، وشاركهم، وعدهم. وهذه الأوامر ليست لتنفيذ مضمونها، بل للتهديد ولإظهار عجزه عن الوقوف في وجه الدعوة، أو صد الناس عنها، وكأن الحق سبحانه يقول له: افعل ما تريد ودبر ما تشاء، فلن توقف دعوة الله...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وَتقول للإِنسان: عليك بمُراقبة نفسك مِن خلال الجوانب الأربعة هَذهِ:
أ: البرامج التبليغية التي تجد دلالتها في التعبير القرآني "واستفزر مَن استطعت مِنهم بصوتك "حيث اعتبر بعض المفسّرين أنّها تعني فقط أنغام الموسيقي الشهوانية المثيرة، والأغاني المبتذلة، ولكن هَذا المعنى يتسع حتى يشمل جميع البرامج الدعائية التي تقود للانحراف والتي تستخدم عادة الأجهزة الصوتية وَالسمعية.
لهذا فإنَّ أوّل برامج الشيطان هو الاستفادة مِن هذِهِ الأجهزة. هَذِه القضية تتوضح في زماننا هَذا أكثر، لأنَّ عالمنا اليوم هُوَ عالم الأمواج الراديوية، وَعالم الدعاية والتبليغ الواسع، سواء كان على الصعيد السمعي أو البصري. حيثُ أنَّ الشياطين وأحزابهم في الشرق والغرب يعتمدون على هَذِه الأجهزة وَيخصصون قسماً كبيراً مِن ميزانيتهم للصرف في هَذا الطريق حتى يستعمروا عبيد الله، وَيُحرفوهم عن طريق الحق والاستقلال، وَيزيغوا بهم عن طريق الهداية والإِيمان والتقوى، وَيجعلون مِنهم عبيداً تابعين لا حول لهم وَلا قوة.
ب: الاستفادة مِن القوة العسكرية: وَهذا لا يخص زماننا حيثُ أنَّ الشياطين يستخدمون القوّة العسكرية لأجل الحصول على مَناطق للنفوذ. إِنَّ الأداة العسكرية تعتبر أداةً خطرة لكل الظالمين والمستكبرين في العالم. فهؤلاء وَفي لحظة واحدة يصرخون في قواتهم العسكرية وَيرسلونها إلى المناطق التي تحاول الحصول على حريتها واستقلالها وتسعى إلى الاعتماد بقوات على قدراتها الخاصّة.
وَفي عصرنا الحاضر نرى أنّهم نظَّموا ما يسمونه بقوات (التدخل السريع) والذي هو نفس مفهوم (الإجلاب) القرآني، وَهذا يعني أنّهم جعلوا جزءاً مِن قواتهم العسكرية على شكل قوات خاصّة كي يستطيعوا إِرسالها في أسرع وقت إلى أي منطقة مِن مَناطق العالم تتعرض فيها مصالحهم غير المشروعة للخطر، لكي يقضوا بواسطة هَذِهِ القوات على أي حركة تطالب بالحق وتنادي بالاستقلال.
وَقبل أن تصل القوات السريعة الخاصّة هَذِهِ، يكون هؤلاء قد هيأوا الأرضية بواسطة جواسيسهم الماهرين، والذين هُم في الواقع كناية عن جيش المشاة (الرجّالة).
إِنَّ هؤلاء في مخططاتهم هَذِهِ قد غفلوا عن أنَّ الله سبحانُه وَتعالى قد وَعَدَ أولياءه الحقيقيين في نفس هَذِهِ الآيات بأنَّ الشيطان وَجيشه لا يستطيع أن يسيطر عليهم.
ج: البرامج الاقتصادية ذات الظاهر الإِنساني: مِن أساليب الشيطان الأُخرى المؤثرة في النفوذ والغواية، هي المشاركة في الأموال والأنفس، وَهُنا نرى أيضاً: أنّ بعض المفسّرين يخصص هَذِهِ المشاركة ب (الربا). أمّا المشاركة في الأولاد فيحصر معناها ب «الأولاد غير الشرعيين».
في حين أنَّ هاتين الكلمتين لهما معاني أوسع، إِذ تشمل جميع الأموال المستحصلة عن طريق الحرام، والأبناء غير الشرعيين وغيرهم. فمثلا في زماننا الحاضر نشاهد أنَّ الشياطين المستكبرين يقترحون دائماً استثمار وتأسيس الشركات، وإيجاد مُختلف المصانع والمصالح الاقتصادية في الدول الضعيفة، وَتحت غطاء هَذِهِ الشركات تتم مُختلف أشكال النشاطات الخطرة والضارَّة بالبلد المستضعف، حيث يرسل الشياطين جواسيسهم تحت عنوان خبراء فنيين أو مستشارين اقتصاديين أو مهندسين تقنيين، وَيقوم هؤلاء جميعاً بامتصاص خيرات البلد الذين هم فيه بأبرع الحيل وأظرفها، وَيقفون حائلا بين البلد وَبين تحقيقه لاستقلاله الاقتصادي على بُنية اقتصادية تحتية حقيقية.
وَعن طريق تأسيس المدارس والجامعات والمكتبات والمستشفيات والمراكز السياحية، فإنّهم يشاركون هذه الدول الضعيفة في أبنائها حيثُ يحاولون أن يستميلوا هؤلاء نحوهم، وأحياناً عن طريق توفير (المنح الدراسية) للشباب، فإنّهم يقومون (بجلبهم) نحو ثقافتهم وَيشاركونهم في أفكارهم، وَما يترتب على ذلك مِن فساد العقيدة.
ومن الأساليب الرائجة والمخربة لهؤلاء الشياطين إيجاد مراكز الفساد تحت غطاء الفنادق العالمية وإيجاد المناطق الترفيهية ودور السينما والأفلام المبتذلة وأمثال ذلك، حيث لا تكون هذه الوسائل أدوات لترويج الفحشاء وزيادة أولاد الزنا فحسب، بل تؤدي إلى انحراف جيل الشباب وتميّعهم و تغرّبهم، وتصنع منهم أشخاصاً فاقدين للإرادة. وكلما أمعنا النظر في دسائسهم و مكرهم تكشفت لنا الأخطار الكبيرة الكامنة في هذه الوساوس الشيطانية.
د: برامج التخريب النفسي: مِن البرامج الأُخرى التي يتبعها الشياطين، الاستفادة مِن الوعود والأُمنيات الكاذبة التي يطلقونها بمختلف الحيل، فهؤلاء الشياطين يعدّون مجموعة ماهرة وَمتمكنة مِن علماء النفس لغواية الناس البسطاء مِنهم والأذكياء، كلا بما يناسب وَضعه، ففي بعض الأحيان يصورون لهم حالهم بأنّهم سيصبحون قريباً مِن الدول المتمدنة والكبيرة، أو أنَّ شبابهم لا مثيل له، وَيستطيع الشباب في بلدانهم أن يصل مِن خلال إتباعه برامجهم إلى أوج العظمة، وَهكذا في بلدانهم يغرقوهم في هذه الخيالات الواهية التي تتلخّص في جملة (وعدهم).
في أحيان أُخرى يسلك الشياطين طريقاً معكوسة، إِذ يصوّرون للبلد بأنَّهُ لا يستطيع مُطلقاً مُواجهة القوى الكبرى، وأنّهم مُتأخرون عن هَذِهِ القوى بمائة عام أو أكثر، وَبهذا الأسلوب تُزرع المبررات النفسية لاستمرار التخلف وعدم انطلاق جهود البلد الضعيف نحو العمل والبناء الحقيقي.
بالطبع هَذهِ القصّة لها بدايات بعيدة، وَطرق نفوذ الشيطان فيها لا تنحصر بواحد أو اثنتين.
وَلكنَّ (عباد الله) الحقيقيين والمخلصين، وَبالإِتكاء على الوعد القرآني القاطع بالنصر، والذي تضمنتُه هَذِهِ الآيات، سيقومون بمحاربة الشياطين وَلا يسمحون بالتردد يساور أنفسهم، وَهم يعلمون برغم الأصوات الكثيرة للشياطين أنّهم سينتصرون، وإنّهم بصبرهم وَصمودهم وبإيمانهم وَتوكلهم على الله سوف يُفشِلون الخطط الشيطانية.