اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ ٱذۡهَبۡ فَمَن تَبِعَكَ مِنۡهُمۡ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمۡ جَزَآءٗ مَّوۡفُورٗا} (63)

قوله تعالى : { اذهب فَمَن } : تقدَّم أن الباء تدغم في الفاء في ألفاظٍ منها هذه ، عند أبي عمرو ، والكسائي ، وحمزة في رواية خلادٍ عنه ؛ بخلاف في قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك } [ الحجرات : 11 ] .

وهذا ليس من الذَّهاب الذي هو ضدُّ المجيء ، وإنما معناه : امضِ لشأنك الذي اخترته ، و المقصود التخلية ، وتفويض الأمر إليه ، كقول موسى - صلوات الله عليه- : { فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ } [ طه : 97 ] ثم قال عزَّ وجلَّ : { فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } .

فإن قيل : الأولى أن يقال : فإن جهنَّم جزاؤهم ؛ ليعود الضمير إلى قوله : { فَمَن تَبِعَكَ } ؟ فالجواب{[20532]} من وجوهٍ :

الأول : تقديره : جزاؤهم وجزاؤكم ؛ لأنه تقدَّم غائب ومخاطب في قوله : { فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } فغلَّب المخاطب على الغائب ، فقيل : جزاؤكم .

والثاني : يجوز أن يكون الخطاب مراداً به " مَنْ " خاصة ، ويكون ذلك على طريق الالتفات .

والثالث : أنه - صلوات الله وسلامه عليه - قال : " مَنْ سَنَّ سُنَّةً سيِّئةً فَعليْهِ وِزْرُهَا ووِزْرُ مِنْ عَمِلَ بِهَا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ " {[20533]} فكل معصية توجد فيحصل لإبليس مثل وزْرِ ذلك العامل ، فلما كان إبليس هو الأصل في كلِّ المعاصي ، صار المخاطب بالوعيد هو إبليس .

قوله تعالى : " جَزَاءً " في نصبه أوجهٌ :

أحدها : أنّه منصوبٌ على المصدر ، الناصب له المصدر قبله ، وهو مصدر مبين لنوع المصدر الأول .

الثاني : أنه منصوب على المصدر أيضاً ، لكن بمضمرٍ ، أي : يجازون جزاء .

الثالث : أنه حالٌ موطئة ك " جَاءَ زيدٌ رجُلاً صَالحاً " .

الرابع : أنه تمييزٌ ، وهو غير متعقَّل .

و " مَوفُوراً " اسم مفعولٍ ، من وفرته ، ووفر يستعمل متعدِّياً ، ومنه قول زهير : [ الطويل ]

ومَنْ يَجْعَلِ المعرُوفَ من دُونِ عِرْضهِ *** يَفِرهُ ومَنْ لا يتَّقِ الشَّتمَ يُشتمِ{[20534]}

والآية الكريمة من هذا ، ويستعمل لازماً ، يقال : وفرَ المالُ يَفِرُ وفُوراً ، فهو وَافِرٌ ، فعلى الأول : يكون المعنى جزاء موفَّراً ، وعلى الثاني : يكون المعنى جزاء وافراً مكمَّلاً يقال : وفرتهُ أفرهُ وفْراً .


[20532]:ينظر: الفخر الرازي 21/5.
[20533]:تقدم.
[20534]:ينظر: ديوانه (30) ، وشرح القصائد السبع 287، وروح المعاني 15/110، والبحر المحيط 6/55، والدر المصون 4/405.