قوله تعالى : { وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم } هذا جواب لقولهم هل هذا إلا بشر مثلكم يعني : إنا لم نرسل الملائكة إلى الأولين إنما أرسلنا رجالاً نوحى إليهم { فاسألوا أهل الذكر } يعني : أهل التوراة والإنجيل يريد : علماء أهل الكتاب ، فإنهم لا ينكرون أن الرسل كانوا بشراً ، وإن أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمر المشركين بمسألتهم لأنهم إلى تصديق من لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم أقرب منهم إلى تصديق من آمن به . وقال ابن زيد : أراد بالذكر القرآن ، أراد فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن . { إن كنتم لا تعلمون* }
{ 7 - 9 } { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ * ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ }
هذا جواب لشبه المكذبين للرسول القائلين : هلا كان ملكا ، لا يحتاج إلى طعام وشراب ، وتصرف في الأسواق ، وهلا كان خالدا ؟ فإذا لم يكن كذلك ، دل على أنه ليس برسول .
وهذه الشبه ما زالت في قلوب المكذبين للرسل ، تشابهوا في الكفر ، فتشابهت أقوالهم ، فأجاب تعالى عن هذه الشبه لهؤلاء المكذبين للرسول ، المقرين بإثبات الرسل قبله - ولو لم يكن إلا إبراهيم عليه السلام ، الذي قد أقر بنبوته جميع الطوائف ، والمشركون يزعمون أنهم على دينه وملته - بأن الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، كلهم من البشر ، الذين يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، وتطرأ عليهم العوارض البشرية ، من الموت وغيره ، وأن الله أرسلهم إلى قومهم وأممهم ، فصدقهم من صدقهم ، وكذبهم من كذبهم ، وأن الله صدقهم ما وعدهم به من النجاة ، والسعادة لهم ولأتباعهم ، وأهلك المسرفين المكذبين لهم .
فما بال محمد صلى الله عليه وسلم ، تقام الشبه الباطلة على إنكار رسالته ، وهي موجودة في إخوانه المرسلين ، الذين يقر بهم المكذبون لمحمد ؟ فهذا إلزام لهم في غاية الوضوح ، وأنهم إن أقروا برسول من البشر ، ولن يقروا برسول من غير البشر ، إن شبههم باطلة ، قد أبطلوها هم بإقرارهم بفسادها ، وتناقضهم بها ، فلو قدر انتقالهم من هذا إلى إنكار نبوة البشر رأسا ، وأنه لا يكون نبي إن لم يكن ملكا مخلدا ، لا يأكل الطعام ، فقد أجاب [ الله ] تعالى عن هذه الشبهة بقوله : { وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ* وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ }
وأن البشر لا طاقة لهم بتلقي الوحي من الملائكة { قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا } فإن حصل معكم شك وعدم علم بحالة الرسل المتقدمين { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ } من الكتب السالفة ، كأهل التوراة والإنجيل ، يخبرونكم بما عندهم من العلم ، وأنهم كلهم بشر من جنس المرسل إليهم .
وهذه الآية وإن كان سببها خاصا بالسؤال عن حالة الرسل المتقدمين لأهل الذكر وهم أهل العلم ، فإنها عامة في كل مسألة من مسائل الدين ، أصوله وفروعه ، إذا لم يكن عند الإنسان علم منها ، أن يسأل من يعلمها ، ففيه الأمر بالتعلم والسؤال لأهل العلم ، ولم يؤمر بسؤالهم ، إلا لأنه يجب عليهم التعليم والإجابة عما علموه .
وفي تخصيص السؤال بأهل الذكر والعلم ، نهي عن سؤال المعروف بالجهل وعدم العلم ، ونهي له أن يتصدى لذلك ، وفي هذه الآية دليل على أن النساء ليس منهن نبية ، لا مريم ولا غيرها ، لقوله { إِلَّا رِجَالًا }
ثم بين - سبحانه - أن حكمته قد اقتضت أن يكون جميع الرسل من البشر وأن يعيشوا الحياة التى تقتضيها الطبيعة البشرية ، وأن يؤيدهم الله - تعالى - بالمعجزات الدالة على صدقهم ، فقال - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا . . . . } .
أى : وما أرسلنا قبلك - أيها الرسول الكريم - إلى الأمم السابقة إلا رسلا من البشر ، ليعيشوا حياة البشر ، ويتمكنوا من التعامل والتخاطب والتفاهم مع من هم من جنسهم ، ولو كان الرسل من غير البشر لما كانت هناك وشيجة ورابطة بينهم وبين أقوامهم .
وهذه الجملة رد مفحم على المشركين الجاهلين الذين استبعدوا أن يكون الرسول بشرا وقالوا قبل ذلك : { هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } وقوله - تعالى - : { نوحي إِلَيْهِمْ } استئناف مبين لكيفية الإرسال .
أى : اقتضت حكمتنا أن يكون الرسل من الرجال ، وأن نبلغهم ما نكلفهم به عن طريق الوحى المنزل إليهم من جهتنا .
وقوله - سبحانه - : { فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } توبيخ لهم وتجهيل ، لأنهم قالوا ما قالوا بدون تعقل أو تدبر .
والمراد بأهل الذكر : علماء أهل الكتاب الذين كان المشركون يرجعون إليهم فى أمور دينهم .
والفاء فى قوله : { فاسئلوا . . . } لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه .
أى : ما دامت قد بلغت بكم الجهالة أن تستبعدوا أن يكون الرسول بشرا فاسألوا أهل العلم فى ذلكن فسيبينون لكم أن الرسل السابقين لم يكونوا إلا رجالا .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } يريد أهل التوراة والإنجيل الذين آمنوا بالنبى - صلى الله عليه وسلم - وسماهم أهل الذكر ، لأنهم كانوا يذكرون خبر الأنبياء ، مما لم تعرفه العرب ، وكان كفار قريش يراجعون أهل الكتاب فى أمر النبى - صلى الله عليه وسلم - .
وقال ابن زيد : أراد بالذكر : القرآن . أى : فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن . . . .
( وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون . وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام ، وما كانوا خالدين ) . .
فقد اقتضت حكمة الله أن يكون الرسل من البشر ، يتلقون الوحي فيدعون به الناس . وما كان الرسل من قبل إلا رجالا ذوي أجساد . وما جعل الله لهم أجسادا ثم جعلهم لا يأكلون الطعام . فأكل الطعام من مقتضيات الجسدية ، والجسدية من مقتضيات البشرية . وهم بحكم أنهم بشر مخلوقون لم يكونوا خالدين . . هذه هي سنة الله المطردة فليسألوا أهل الكتاب الذين عرفوا الأنبياء من قبل . إن كانوا هم لا يعلمون .
يقول تعالى رادًّا على من أنكر بعثة الرسل من البشر : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا يُوحَى{[19595]} إِلَيْهِمْ }
أي : جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالا من البشر ، لم يكن فيهم أحد من الملائكة ، كما قال في الآية الأخرى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا يُوحَى{[19596]} إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [ يوسف : 109 ] ، وقال تعالى : { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ } [ الأحقاف : 9 ] ، وقال تعالى حكاية عمن تقدم من الأمم أنهم أنكروا ذلك فقالوا : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } [ التغابن : 6 ] ؛ ولهذا قال تعالى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } أي : اسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف : هل كان الرسل الذين أتوهم بشرًا أو ملائكة ؟ إنما كانوا بشرًا ، وذلك من تمام نِعمَ الله على خلقه ؛ إذ بعث فيهم رسلا{[19597]} منهم يتمكنون من تناول البلاغ منهم والأخذ عنهم .
{ وما أرسلنا قبلك إلا رجالا يوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } جواب لقولهم { هل هذا إلا بشر مثلكم } فأمرهم أن يسألوا أهل الكتاب عن حال الرسل المتقدمة ليزول عنهم الشبهة والإحالة عليهم إما للإلزام فإن المشركين كانوا يشاورونهم في أمر النبي عليه الصلاة والسلام ويثقون بقولهم ، أو لأن إخبار الجم الغفير يوجب العلم وإن كانوا كفارا وقرأ حفص " نوحي " بالنون .