وهنا يجسد في أذهان إخوة يوسف ما فعلوه معه في الماضى ، فينتابهم الخزى والخجل ، حيث قابل إساءتهم إليه بالإِحسان عليهم ، فقالوا له في استعطاف وتذلل : { قَالُواْ تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } أى : نقسم بالله - تعالى - لقد اختارك الله - تعالى - لرسالته ، وفضلك علينا بالتقوى وبالصبر وبكل الصفات الكريمة .
أما نحن فقد كنا خاطئين فيما فعلناه معك ، ومتعمدين لما ارتكبناه في حقك من جرائم ، ولذلك أعزك الله - تعالى - وأذلنا ، وأغناك وأفقرنا ، ونرجو منك الصفح والعفو .
أما هم فتتمثل لعيونهم وقلوبهم صورة ما فعلوا بيوسف ، ويجللهم الخزي والخجل وهم يواجهونه محسنا إليهم وقد أساءوا . حليما بهم وقد جهلوا . كريما معهم وقد وقفوا منه موقفا غير كريم :
( قالوا : تالله لقد آثرك الله علينا ، وإن كنا لخاطئين ) . .
اعتراف بالخطيئة ، وإقرار بالذنب ، وتقرير لما يرونه من إيثار الله له عليهم بالمكانة والحلم والتقوى والإحسان .
يقول تعالى مخبرا عن يوسف ، عليه السلام : أنه لما ذكر له إخوته ما أصابهم من الجهد والضيق وقلة الطعام وعموم الجدب ، وتذكر أباه وما هو فيه من الحزن لفقد ولديه ، مع ما هو فيه من الملك والتصرف والسعة ، فعند ذلك أخذته رقة ورأفة ورحمة وشفقة على أبيه وإخوته ، وبدره البكاء ، فتعرف إليهم ، يقال{[15280]} إنه رفع التاج عن جبهته ، وكان فيها شامة ، وقال : { هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ } ؟ يعني : كيف فرقوا بينه وبينه { إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ } أي : إنما حملكم على هذا{[15281]} الجهل بمقدار هذا الذي ارتكبتموه ، كما قال بعض السلف : كل من عصى الله فهو جاهل ، وقرأ : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ } إلى قوله : { إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [ النحل : 119 ] .
والظاهر - والله أعلم - أن يوسف ، عليه السلام ، إنما تعرف إليهم بنفسه ، بإذن الله له في ذلك ، كما أنه إنما أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين{[15282]} بأمر الله تعالى له في ذلك ، والله أعلم ، ولكن لما ضاق الحال واشتد الأمر ، فَرَّج الله تعالى من ذلك الضيق ، كما قال تعالى : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }{[15283]} [ الشرح : 5 ، 6 ] ، فعند ذلك قالوا : { أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ } ؟
وقرأ أبيّ بن كعب : " أو أنت{[15284]} يُوسُفُ " ، وقرأ ابن مُحَيْصِن : " إنَّك لأنتَ{[15285]} يُوسُفُ " . والقراءة المشهورة هي الأولى ؛ لأن الاستفهام يدل على الاستعظام ، أي : إنهم تَعجَّبوا من ذلك أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر ، وهم لا يعرفونه ، وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه ، فلهذا قالوا على سبيل الاستفهام : { أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي } { قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا } أي : بجمعه بيننا بعد التفرقة وبعد المدة ، { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ } يقولون معترفين له بالفضل والأثرة عليهم في الخلق والخلق ، والسعة والملك ، والتصرف والنبوة أيضا - على قول من لم يجعلهم أنبياء - وأقروا له بأنهم أساءوا إليه وأخطئوا في حقه .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنّا لَخَاطِئِينَ } .
يقول جلّ ثناؤه : قال إخوة يوسف له : تالله لقد فضلك الله علينا وآثرك بالعلم والحلم والفضل ، وَإنْ كُنّا لخاطِئِينَ يقول : وما كنا في فعلنا الذي فعلنا بك في تفريقنا بينك وبين أبيك وأخيك وغير ذلك من صنيعنا الذي صنعنا بك ، إلاّ خاطئين : يعنون مُخْطئين ، يقال منه : خَطِىء فلان يَخْطَأ خَطأً وخِطْأً ، وأخطأ يخطىء إخطاءً ومن ذلك قول أمية بن الأسكر :
وإنّ مُهاجِرَيْنِ تَكَنّفاهُ *** لعَمْرُ اللّهِ قَدْ خَطِئا وَخابا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : لما قال لهم يوسف : أنا يُوسُفُ وَهَذَا أخِي اعتذَروا إليه ، وقالوا : تاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنا وَإنْ كُنّا لَخاطِئِينَ فيما كنا صنعنا بك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : تاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنا وذلك بعد ما عرّفهم أنفسهم ، يقول : جعلك الله رجلاً حليما .
وقوله تعالى : { قالوا : تالله لقد آثرك الله علينا } الآية ، هذا منهم استنزال ليوسف وإقرار بالذنب في ضمنه استغفار منه .
و { آثرك } لفظ يعم جميع التفضيل وأنواع العطايا ، والأصل فيها همزتان وخففت الثانية ، ولا يجوز تحقيقها ، والمصدر إيثار ، و { خاطئين } من خطىء يخطأ ، وهو المتعمد للخطأ ، والمخطىء من أخطأ ، وهو الذي قصد الصواب فلم يوفق إليه ، ومن ذلك قول الشاعر - وهو أمية بن الأسكر - [ الوافر ]
وإن مهاجرَينِ تكتفاه*** لعمرُ الله قد خطئا وخابا{[6823]}
الإيثار : التفضيل بالعطاء . وصيغة اليمين مستعملة في لازم الفائدة ، وهي علمهم ويقينهم بأن ما ناله هو تفضيل من الله وأنهم عرفوا مرتبتَه ، وليس المقصود إفادة تحصيل ذلك لأن يوسف عليه السلام يعلمه . والمراد : الإيثار في الدنيا بما أعطاه الله من النعم .
واعترفوا بذنبهم إذ قالوا : { وإنّ كنا لخاطئين } . والخاطىء : فاعل الخطيئة ، أي الجريمة ، فنفعت فيهم الموعظة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قالوا تالله}، يعني والله، {لقد ءاثرك الله علينا}، يعني اختارك... علينا عند يعقوب، وأعطاك وملكك الملك، {و إن كنا لخاطئين}، في أمرك، فأقروا بخطيئتهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه: قال إخوة يوسف له: تالله لقد فضلك الله علينا وآثرك بالعلم والحلم والفضل، "وَإنْ كُنّا لخاطِئِينَ "يقول: وما كنا في فعلنا الذي فعلنا بك في تفريقنا بينك وبين أبيك وأخيك وغير ذلك من صنيعنا الذي صنعنا بك، إلاّ خاطئين: يعنون مُخْطئين...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا) قسم قد اعتادوه في فحوى كلامهم على غير إرادة يمين بذلك. هكذا عادة العرب، وإلا كان يعلم يوسف أن الله قد آثره عليهم. ويشبه أن يكون القسم ههنا على تأكيد معرفة فضله ومنزلته؛ أي لم تزل كما كنت مؤثرا مفضلا علينا...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والخطيئة: إزالة الشيء عن جهته إلى ما لا يصلح فيه... وخطئ إذا تعمد الخطأ، وأخطأ إذا لم يتعمد الخطأ...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
اعترفوا بالفضل ليوسف -عليه السلام- حيث قالوا: لقد آثرك الله علينا، وأكَّدوا إقرارَهم بالقَسَم بقوله: {تَاللَّهِ} وذلك بعد ما جحدوا فَضْلَه بقولهم: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، وهكذا من جحد فلأنه ما شهد، ومن شهد فما جحد. ويقال لمَّا اعترفوا بفضله وأقرُّوا بما اتصفوا به من جُرْمِهم بقولهم: {وإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} وجدوا التجاوزَ عنهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَقَدْ ءَاثَرَكَ الله عَلَيْنَا} أي فضلك علينا بالتقوى والصبر وسيرة المحسنين. وإنّ شأننا وحالنا أنا كنا خاطئين متعمدين للإثم، لم نتق ولم نصبر، لا جرم أنّ الله أعزّك بالملك وأذلنا بالتمسكن بين يديك...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا منهم استنزال ليوسف وإقرار بالذنب في ضمنه استغفار منه.
و {آثرك} لفظ يعم جميع التفضيل وأنواع العطايا... و {خاطئين} من خطئ يخطأ، وهو المتعمد للخطأ، والمخطئ من أخطأ، وهو الذي قصد الصواب فلم يوفق إليه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان ما ذكر، كان كأنه قيل: لقد أتاهم ما لم يكونوا يحتسبون فما قالوا؟ فقيل: {قالوا} متعجبين غاية التعجب. ولذلك أقسموا بما يدل على ذلك: {تالله} أي الملك الأعظم {لقد آثرك الله} أي الذي له الأمر كله {علينا} أي جعل لك أثراً يغطي آثارنا بعلوه فالمعنى: فضلك علينا أي بالعلم والعقل والحكم والحسن والملك والتقوى وغير ذلك {وإن} خففوها من الثقيلة تأكيداً بالإيجاز للدلالة على الاهتمام بالإبلاغ في الاعتذار في أسرع وقت {كنا} أي كوناً هو جبلة لنا {لخاطئين} أي عريقين في الخطأ، وهو تعمد الإثم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وصيغة اليمين مستعملة في لازم الفائدة، وهي علمهم ويقينهم بأن ما ناله هو تفضيل من الله وأنهم عرفوا مرتبتَه، وليس المقصود إفادة تحصيل ذلك لأن يوسف عليه السلام يعلمه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وخضعوا للمنطق الإيماني في حديث يوسف الذي كان يتحدث ليس فقط من موقع الإيمان بل من موقع القوة التي يلمسها إخوته في سيطرته الواسعة على موارد الثروة في هذا البلد، ولهذا كان تأثيره عليهم كبيراً، وكانت فرحتهم به، كندمهم على ما بدر منهم تجاهه. {قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} واختارك وفضّلك، في العلم والحلم، والكمال في العقل، والجمال في الجسد، وها أنت في الموقع الرفيع، ونحن في الموقع الوضيع، فاغفر لنا ما بدر منا تجاهك وتجاه أخيك، فإنك الكريم بن الكريم...