قوله تعالى : { وكذلك أنزلناه حكماً عربياً } ، يقول : كما أنزلنا إليك الكتاب يا محمد ، فأنكره الأحزاب ، كذلك أنزلنا الحكم والدين عربيا . نسب إلى العرب لأنه نزل بلغتهم فكذب به الأحزاب . وقيل : نظم الآية : كما أنزلت الكتب على الرسل بلغاتهم ، فكذلك أنزلنا عليك الكتاب حكما عربيا . { ولئن اتبعت أهواءهم } ، في الملة . وقيل : في القبلة ، { بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق } ، يعني : من ناصر ولا حافظ .
{ 37 } { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ }
أي : ولقد أنزلنا هذا القرآن والكتاب حكما ، عربيا أي : محكما متقنا ، بأوضح الألسنة وأفصح اللغات ، لئلا يقع فيه شك واشتباه ، وليوجب أن يتبع وحده ، ولا يداهن فيه ، ولا يتبع ما يضاده ويناقضه من أهواء الذين لا يعلمون .
ولهذا توعد رسوله -مع أنه معصوم- ليمتن عليه بعصمته ولتكون أمته أسوته في الأحكام فقال : { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } البين الذي ينهاك عن اتباع أهوائهم ، { مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ } يتولاك فيحصل لك الأمر المحبوب ، { وَلَا وَاقٍ } يقيك من الأمر المكروه .
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك بعض الفضائل التي امتاز بها القرآن الكريم فقال - تعالى - : { وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً .
والكاف للتشبيه ، واسم الإِشارة يعود إلى الإِنزال المأخوذ من { أنزلناه } وضمير الغائب في أنزلناه يعود إلى { بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } في قوله في الآية السابقة { يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ . . . } وقوله { حُكْماً عَرَبِيّاً } حالان من ضمير الغائب .
والمعنى : ومثل ذلك الإِنزال البديع الجامع لألوان الهداية والإِعجاز ، أنزلنا عليك القرآن يا محمد { حكما } أى : حاكما بين الناس { عربيا } أى : بلسان عربى مبين هو لسانك ولسان قومك .
ومنهم من يرى أن اسم الإِشارة يعود إلى الكتب السماوية السابقة ، فيكون المعنى :
وكما أنزلنا الكتب السماوية على بعض رسلنا بلغاتهم وبلغات أقوامهم أنزلنا عليك القرآن حاكما بين الناس بلغتك وبلغة قومك ، وهى اللغة العربية ليسهل عليهم فهمه وحفظه .
وعلى كلا القولين فأنت ترى أن هذه الجملة الكريمة قد اشتملت على فضيلتين للقرآن الكريم : فضيلة من جهة معانيه ومقاصده وهداياته وحكمه وأحكامه وتشريعاته ، وهو المعبر عنها بكونه " حكما " .
وفضيلة من جهة ألفاظه ومفرداته وتراكيبه ، وهى المعبر عنها بكونه " عربيا " .
أى : نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات وأغناها وأجملها .
ثم في كونه " عربيا " امتنان على العرب المخاطبين به ابتداء ، حيث إنه نزل بلغتهم ، فكان من الواجب عليهم أن يقابلوه بالفرح والتسليم لأوامره ونواهيه ، فهو الكتاب الذي فيه شرفهم وعزهم ، قال - تعالى - : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } أى : فيه بقاء شرفكم { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } وقال - تعالى - : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } وفى ذلك تعريض بغباء مشركى العرب ، حيث لم يشكروا الله - تعالى - على هذه النعمة ، بل قابلوا من أنزل عليه هذا القرآن بالعناد والعصيان .
ثم ساق - سبحانه - تحذيرا للأمة كلها في شخص نبيها صلى الله عليه وسلم من اتباع أهواء كل كافر أو فاسق : فقال - تعالى - : { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ } .
واللام في قوله { ولئن } موطئة للقسيم لتأكيد ما تضمنته من عقاب شديد لمتبع أهواء الكافرين .
والأهواء : جمع هوى ، والمراد بها آراؤهم المنحرفة عن الحق ، ومطالبهم المتعنتة ، والمراد بما جاءه من العلم : ما بلغه وعلمه من الدين عن طريق الوحى الصادق .
والولى : الناصر والمعين والقريب والحليف . والواقى : المدافع عن غيره .
والمعنى : " ولئن اتبعت " - يا محمد - على سبيل الفرض والتقدير أهواء هؤلاء الكافرين فيما يطلبونه منك ، " من بعد ما جاءك من العلم " اليقينى بأن الإِسلام هو الدين الحق ، " مالك من الله " أى من عقباه " من ولى " يلى أمرك وينصرك " ولا واق " يقبك من حسابه .
وسيق هذا التحذير في صورة الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم للتأكيد من مضمونه .
فكأنه - سبحانه يقول : لو اتبع أهواءهم - على سبيل الفرض - أكرم الناس عندى لعاقبته ، وأحق بهذا العقاب من كان دونه في الفضل والمنزلة ، وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين }
وقد أمر الرسول [ ص ] أن يعلن منهجه في مواجهة من ينكر بعض الكتاب ، وهو استمساكه الكامل بكامل الكتاب الذي أنزل إليه من ربه ، سواء فرح به أهل الكتاب كله ، أم أنكر فريق منهم بعضه . ذلك أن ما أنزل إليه هو الحكم الأخير ، نزل بلغته العربية وهو مفهوم له تماما ، وإليه يرجع ما دام هو حكم الله الأخير في العقيدة :
( وكذلك أنزلناه حكما عربيا ) . .
( ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق ) . .
فالذي جاءك هو العلم اليقين ، وما يقوله الأحزاب أهواء لا تستند إلى علم أو يقين . وهذا التهديد الموجه إلى الرسول [ ص ] أبلغ في تقرير هذه الحقيقة ، التي لا تسامح في الانحراف عنها ، حتى ولو كان من الرسول ، وحاشاه عليه الصلاة والسلام .
وقوله : { وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا } أي : وكما أرسلنا قبلك المرسلين ، وأنزلنا عليهم الكتب من السماء ، كذلك أنزلنا عليك القرآن محكما معربا ، شرّفناك به وفضلناك على من سواك بهذا الكتاب المبين الواضح الجلي الذي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 11 ] .
وقوله : { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ } أي : آراءهم ، { بَعْد مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } أي : من الله تعالى { مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ } أي : من الله تعالى . وهذا وعيد لأهل العلم أن يتبعوا{[15688]} سبل أهل الضلالة بعدما صاروا إليه من سلوك السنة النبوية والمحجة المحمدية ، على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام
[ والتحية والإكرام ] . {[15689]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ وَاقٍ } .
يقول تعالى ذكره : وكما أنزلنا عليك الكتاب يا محمد ، فأنكره بعض الأحزاب ، كذلك أيضا أنزلنا الحكم والدين حكما عربيا وجعل ذلك عربيا ، ووصفه به لأنه أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو عربيّ ، فنسب الدين إليه إذ كان عليه أُنزل ، فكذّب به الأحزاب . ثم نهاه جلّ ثناؤه عن ترك ما أنزل إليه واتباع الأحزاب ، وتهدده على ذلك إن فعله ، فقال : ولئن اتبعت يا محمد أهواءهم ، أهواء هؤلاء الأحزاب ورضاهم ومحبتهم ، وانتقلت من دينك إلى دينهم ، ما لك من يقيك من عذاب الله إن عذّبك على اتباعك أهواءهم ، وما لك من ناصر ينصرك فيستنقذك من الله إن هو عاقبك ، يقول : فاحذر أن تتبع أهواءهم .
وقوله : { وكذلك } المعنى : كما يسرنا هؤلاء للفرح ، وهؤلاء لإنكار البعض ، كذلك { أنزلناه حكماً عربياً } ، ويحتمل المعنى : والمؤمنون آتيناهموه يفرحون به لفهمهم به وسرعة تلقيهم .
ثم عدد النعمة بقوله : «كذلك جعلناه » أي سهلنا عليهم في ذلك وتفضلنا .
و { حكماً } نصب على الحال ، و «الحكم » هو ما تضمنه القرآن من المعاني ، وجعله { عربياً } لما كانت العبارة عنه بالعربية .
ثم خاطب النبي عليه السلام محذراً من اتباع أهواء هذه الفرق الضالة ، والخطاب لمحمد عليه السلام ، وهو بالمعنى بتناول المؤمنين إلى يوم القيامة .
ووقف ابن كثير وحده على «واقي » و «هادي » و «والي » بالياء . قال أبو علي : والجمهور يقفون بغير ياء ، وهو الوجه . وباقي الآية بين .
اعتراض وعطف على جملة { والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك } [ الرعد : 36 ] لما ذكر حال تلقي أهل الكتابين للقرآن عند نزوله عُرج على حال العرب في ذلك بطريقة التعريض بسوء تلقي مشركيه له مع أنهم أولَى الناس بحسن تلقيه إذ نزل بلسانهم مشتملاً على ما فيه صلاحهم وتنوير عقولهم . وقد جُعل أهم هذا الغرض التنويهَ بعلوّ شأن القرآن لفظاً معنى . وأدمج في ذلك تعريض بالمشركين من العرب .
والقول في اسم الإشارة في قوله : { وكذلك } مثل ما تقدم في قوله : { كذلك أرسلناك في أمة } [ سورة الرعد : 30 ] .
وضمير الغائب في { أنزلناه } عائد إلى { ما أنزل إليك } في قوله : { يفرحون بما أنزل إليك } .
والجار والمجرور من اسم الإشارة نائب عن المفعول المطلق . والتقدير ؛ أنزلناه إنزالاً كذلك الإنزال .
و { حكماً عربياً } حالان من ضمير { أنزلناه } . والحكم : هنا بمعنى الحكمة كما في قوله : { وآتيناه الحكم صبيا } [ سورة مريم : 12 ] . وجُعل نفس الحكم حالاً منه مبالغة . والمراد أنه ذو حكم ، أي حكمة . والحكمة تقدمت .
و{ عربياً } حال ثانية وليس صفة ل { حكماً } إذ الحكمة لا توصف بالنسبة إلى الأمم وإنما المعنى أنه حكمة معبر عنها بالعربية . والمقصود أنه بلغة العرب التي هي أفصح اللغات وأجملها وأسهلها ، وفي ذلك إعجازه . فحصل لهذا الكتاب كمالان : كمال من جهة معانيه ومقاصده وهو كونه حكماً ، وكمال من جهة ألفاظه وهو المكنى عنه بكونه عربياً ، وذلك ما لم يبلغ إليه كتاب قبله لأن الحكمة أشرف المعقولات فيناسب شرفها أن يكون إبلاغها بأشرف لغة وأصلحها للتعبير عن الحكمة ، قال تعالى : { وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين } [ سورة الشعراء : 192 195 ] .
ثم في كونه عربياً امتنان على العرب المخاطبين به ابتداء بأنه بلغتهم وبأن في ذلك حسن سمعتهم ، ففيه تعريض بأفن رأي الكافرين منهم إذ لم يشكروا هذه النعمة كما قال تعالى : { لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون } [ سورة الأنبياء : 10 ] . قال مالك : فيه بقاء ذكركم .
وجملة { ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم } معترضة ، واللام موطئة للقسم وضمير الجمع في قوله : { أهواءهم } عائد إلى معلوم من السياق وهم المشركون الذين وجه إليهم الكلام .
واتباع أهوائهم يحتمل السعي لإجابة طلبتهم إنزال آية غير القرآن تحذيراً من أن يسأل الله إجابتهم لما طلبوه كما قال لنوح عليه السلام { فلا تسألني ما ليس لك به علم إنّي أعظك أن تكون من الجاهلين } .
ومعنى { ما جاءك من العلم } ما بلغك وعُلّمته ، فيحتمل أن يراد بالموصول القرآن تنويهاً به ، أي لئن شايعَتهم فسألَتنا آية غير القرآن بعد أن نزل عليك القرآن ، أو بعد أن أعلمناك أنا غير متنازلين لإجابة مقترحاتهم .
ويحتمل اتباع دينهم فإن دينهم أهواء ويكون ما صدق { ما جاءك من العلم } هو دين الإسلام .
والوليّ : النصير . والواقي : المدافع .
وجعل نفي الولي والنصير جواباً للشرط كناية عن الجواب ، وهو المؤاخذة والعقوبة .
والمقصود من هذا تحذير المسلمين من أن يركنوا إلى تمويهات المشركين ، والتحذير من الرجوع إلى دينهم تهييجاً لتصلبهم في دينهم على طريقة قوله تعالى : { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك } [ سورة الزمر : 65 ] ، وتأييس المشركين من الطمع في مجيء آية توافق مقترحاتهم .
ومن } الداخلة على اسم الجلالة تتعلق ب { ولي } و { واق } . و { من } الداخلة على { ولي } لتأكيد النفي تنصيصاً على العموم . وتقدم الخلاف بين الجمهور وابن كثير في حذفهم ياء { واق } في حالتي الوصل والوقف وإثبات ابن كثير الياء في حالة الوقف دون الوصل عند قوله تعالى : { ولكل قوم هاد } في هذه السورة [ الرعد : 7 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم}، يعني حين دعا إلى ملة آبائه، {بعد ما جاءك من العلم} يعني من البيان، {ما لك من الله من ولي}، يعني قريبا ينفعك، {ولا واق}، يعني يقي العذاب عنك...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وكما أنزلنا عليك الكتاب، يا محمد، فأنكرهُ بعض الأحزاب، كذلك أيضًا أنزلنا الحكم والدين "حُكْمًا عربيًا "وجعل ذلك عربيًا، ووصفه به لأنه أنزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم وهو عربيٌّ، فنسب الدين إليه، إذ كان عليه أنزل، فكذَّب به الأحزابُ. ثم نهاه جل ثناؤه عن ترك ما أنزل إليه واتباع الأحزاب، وتهدَّده على ذلك إنْ فعله فقال: (ولئن اتبعت) يا محمد (أهواءهم)، أهوَاء هؤُلاء الأحزاب ورضَاهم ومحبتَهم وانتقلت من دينك إلى دينهم، ما لك من يَقيك من عَذاب الله إنْ عذّبك على اتباعك أهواءَهم، وما لك من ناصر ينصرك فيستنقذك من الله إن هو عاقبك، يقول: فاحذر أن تتّبع أهَواءهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
سمى القرآن حكما لأنه للحكم أنزله الله...
(وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ) هذا يدل أنهم كانوا يدعون إلى أن يشاركهم في بعض ما هم فيه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي حُكْماً ببيان العرب؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى أرسل الرسلَ في كلِّ وقتٍ كُلاً بلسان قومه ليهتدوا إليه...
{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوآءَهُم}: أي ولئن وافقتهم، ولم تعتصم بالله، ووَقَعَتْ على قلبك حشمةٌ من غير الله -فَمَا لَكَ من واقٍ من الله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وكذلك أنزلناه} ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مأموراً فيه بعبادة الله وتوحيده والدعوة إليه وإلى دينه، والإنذار بدار الجزاء {حُكْمًا عَرَبِيّا} حكمة عربية مترجمة بلسان العرب...
[وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوآءَهُم] كانوا يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمور يوافقهم عليها منها أن يصلي إلى قبلتهم بعد ما حوّله الله عنها، فقيل له: لئن تابعتهم على دين ما هو إلا أهواء وشبه بعد ثبوت العلم عندك بالبراهين والحجج القاطعة، خذلك الله فلا ينصرك ناصر، وأهلكك فلا يقيك منه واق، وهذا من باب الإلهاب والتهييج، والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب فيه، وأن لا يزلّ زالّ عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة، وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدّة الشكيمة بمكان...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وكذلك} المعنى: كما يسرنا هؤلاء للفرح، وهؤلاء لإنكار البعض، كذلك {أنزلناه حكماً عربياً}، ويحتمل المعنى: والمؤمنون آتيناهموه يفرحون به لفهمهم به وسرعة تلقيهم. ثم عدد النعمة بقوله: «كذلك جعلناه» أي سهلنا عليهم في ذلك وتفضلنا...
و «الحكم» هو ما تضمنه القرآن من المعاني،...
{أنزلناه حكما عربيا} فيه وجوه:... الثاني: القرآن مشتمل على جميع أقسام التكاليف، فالحكم لا يمكن إلا بالقرآن، فلما كان القرآن سببا للحكم جعل نفس الحكم على سبيل المبالغة. الثالث: أنه تعالى حكم على جميع المكلفين بقبول القرآن والعمل به، فلما حكم على الخلق بوجوب قبوله جعله حكما...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{كذلك أرسلناك} أو مثل إنزال كتب أهل الكتاب {أنزلناه} بما لنا من العظمة حال كونه {حكماً عربيّاً} أي ممتلئاً حكمة تقضي بالحق، فائقاً لجميع الكتب بهذا الوصف؛ والحكم: القطع بالمعنى على ما تدعو إليه الحكمة، وهو أيضاً فصل الأمر على الحق؛ فالمعنى أنه لا يقدر أحد على نقض شيء منه، فإن ذلك في الحقيقة هو الحكم... {ما لك} حينئذ {من الله} أي الملك الأعلى وأعرق في النفي فقال: {من ولي} أي ناصر يتولى من نصرك وجميع أمرك ما يتولاه القريب مع قريبه... {ولا واق} أي يقيك بنفسه فيجعلها دون نفسك، وقد يوجد من الأنصار من لا يسمح بذلك، وهذا بعث للأمة وتهييج على الثبات في الدين والتصلب فيه،
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
ثم شرع في رد إنكارِهم لفروع الشرائع الواردةِ ابتداءً أو بدلاً من الشرائع المنسوخةِ ببيان الحكمةِ في ذلك فقيل: {وكذلك أنزلناه} أي ما أنزل إليك، وذلك إشارةٌ إلى مصدر أنزلناه أو أنزل إليك، ومحلُّه النصبُ على المصدرية أي مثلَ ذلك الإنزالِ البديعِ المنتظم لأصول مجمَعٍ عليها وفروعٍ متشعبة إلى موافِقة ومخالِفة حسبما تقتضيه قضيةُ الحكمةِ والمصلحة أنزلناه {حُكْمًا} حاكماً يحكم في القضايا والواقعات بالحق أو يُحكم به كذلك، والتعرضُ لذلك العنوان مع أن بعضَه ليس بحكم لتربية وجوبِ مراعاتِه وتحتم المحافظةِ عليه {عَرَبِيّاً} مترجماً بلسان العربِ، والتعرضُ لذلك للإشارة إلى أن ذلك إحدى موادِّ المخالفة للكتب السابقةِ مع أن ذلك مقتضى الحكمةِ إذ بذلك يسهُل فهمه وإدراكُ إعجازه، والاقتصارُ على اشتمال الإنزالِ على أصول الديانات المجمعِ عليها حسبما يفيده قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله} [الرعد، الآية 36] الخ، يأباه التعرّض لاتباع أهوائِهم وحديثِ المحو والإثبات، وأنْ لكل أجلٍ كتابٌ فإن المجمعَ عليه لا يتصور فيه الاستتباعُ والاتباع {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم} التي يدعونك إليها من تقرير الأمور المخالفةِ لما أنزل إليك من الحق كالصلاة إلى بيت المقدس بعد التحويل {بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم} العظيمِ الشأن الفائضِ من ذلك الحُكم العربيِّ أو العلم بمضمونه {مَا لَكَ مِنَ الله} من جنابه العزيز، والالتفاتُ من التكلم إلى الغَيبة وإيرادُ الاسم الجليلِ لتربية المهابة... {مِن وَلِىّ} يلي أمرَك وينصرك على من يبغيك الغوائلَ {وَلاَ وَاقٍ} يقيك من مصارع السوءِ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقد أمر الرسول [ص] أن يعلن منهجه في مواجهة من ينكر بعض الكتاب، وهو استمساكه الكامل بكامل الكتاب الذي أنزل إليه من ربه، سواء فرح به أهل الكتاب كله، أم أنكر فريق منهم بعضه. ذلك أن ما أنزل إليه هو الحكم الأخير، نزل بلغته العربية وهو مفهوم له تماما، وإليه يرجع ما دام هو حكم الله الأخير في العقيدة:
(ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق)..
فالذي جاءك هو العلم اليقين، وما يقوله الأحزاب أهواء لا تستند إلى علم أو يقين. وهذا التهديد الموجه إلى الرسول [ص] أبلغ في تقرير هذه الحقيقة، التي لا تسامح في الانحراف عنها، حتى ولو كان من الرسول، وحاشاه عليه الصلاة والسلام.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اعتراض وعطف على جملة {والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك} لما ذكر حال تلقي أهل الكتابين للقرآن عند نزوله عُرج على حال العرب في ذلك بطريقة التعريض بسوء تلقي مشركيه له مع أنهم أولَى الناس بحسن تلقيه إذ نزل بلسانهم مشتملاً على ما فيه صلاحهم وتنوير عقولهم. وقد جُعل أهم هذا الغرض التنويهَ بعلوّ شأن القرآن لفظاً معنى. وأدمج في ذلك تعريض بالمشركين من العرب...
فحصل لهذا الكتاب كمالان: كمال من جهة معانيه ومقاصده وهو كونه حكماً، وكمال من جهة ألفاظه وهو المكنى عنه بكونه عربياً، وذلك ما لم يبلغ إليه كتاب قبله لأن الحكمة أشرف المعقولات فيناسب شرفها أن يكون إبلاغها بأشرف لغة وأصلحها للتعبير عن الحكمة. {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} [سورة الشعراء: 192- 195]. ثم في كونه عربياً امتنان على العرب المخاطبين به ابتداء بأنه بلغتهم وبأن في ذلك حسن سمعتهم، ففيه تعريض بأفن رأي الكافرين منهم إذ لم يشكروا هذه النعمة كما قال تعالى: {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون} [سورة الأنبياء: 10]. قال مالك: فيه بقاء ذكركم...
ومعنى {ما جاءك من العلم} ما بلغك وعُلّمته، فيحتمل أن يراد بالموصول القرآن تنويهاً به، أي لئن شايعَتهم فسألَتنا آية غير القرآن بعد أن نزل عليك القرآن، أو بعد أن أعلمناك أنا غير متنازلين لإجابة مقترحاتهم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
كذلك، التشبيه بين ما هو كائن، وما قدره الله تعالى، وأحكمه، أي كهذا الذي تراه من نزول القرآن بلسان عربي مبين قدرناه وأحكمناه حكما عربيا... ويصح أن يراد من كلمة "حكما": قرآنا، أي أنزلناه قرآنا عربيا، وعبر عنه بحكم؛ لأن ما اشتمل عليه هو الحكم القائم إلى يوم القيامة...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
المتبادر أن هذه الآية استهدفت أيضا التدعيم للرسالة النبوية وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم في موقفه وأنها هي الأخرى متصلة بالسياق والموقف الجدلي: فكما أنزل الله الكتب على الأنبياء السابقين أنزل عليه القرآن. وقد جعله عربيا محكما حتى يتبين السامعون فحوى الدعوة وحكمة الله وأحكامه ولا يكون عليهم فيها إبهام ولا غموض. وعلى النبي أن يلتزم ذلك وأن لا يحيد عنه بعدما جاءه من العلم ولا يجاريهم أو يسايرهم في أهوائهم، ولن يكون له من الله إن فعل ناصر ولا واق...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
فما قبل هذه الآية وما بعدها يؤيّدان أنّ المراد من «عربياً» هو الفصاحة والوضوح في البيان وخلوّه من الاعوجاج والالتواء...
ثمّ يخاطب القرآن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلحن التهديد وبشكل قاطع حيث يقول: (ولئن اتّبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق) وبما أنّ احتمال الانحراف غير موجود إطلاقاً في شخصيّة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لما يتميّز به من مقام العصمة والمعرفة، فهذا التعبير أوّلا يُوضّح أنّ الله سبحانه وتعالى ليس له ارتباط خاص مع أي أحد حتّى لو كان نبيّاً، فمقام الأنبياء الشامخ إنّما هو بسبب عبوديتهم وتسليمهم واستقامتهم. وثانياً: تأكيد وإنذار للآخرين، لأنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا لم يكن مصوناً من العقوبات الإلهيّة في حالة انحرافه عن مسيرة الحقّ واتجاهه صوب الباطل، فما بال الآخرين؟...