قوله تعالى : { الشمس والقمر بحسبان } قال مجاهد : كحسبان الرحى يدوران في مثل قطب الرحى . قال غيره : أي يجريان بحساب ومنازل لا يعدوانها ، قاله ابن عباس وقتادة . وقال ابن زيد وابن كيسان : يعني بهما تحسب الأوقات والآجال لولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب شيئاً . وقال الضحاك : يجريان بقدر ، والحسبان يكون مصدر حسبت حساباً وحسباناً ، مثل الغفران والكفران ، والرجحان والنقصان ، وقد يكون جمع الحساب كالشهبان والركبان .
وقوله - تعالى - : { الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ } بيان لنعمة رابعة من نعمه - تعالى - التى لا تحصى .
والحسبان : مصدر زيدت فيه الألف والنون ، والمراد بحساب دقيق ، وتقدير حكيم ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف . . . أى : الشمس والقمر يجريان فى هذا الكون ، بحساب دقيق فى بروجهما ومنازلهما ، بحيث لا يشوب جريهما اختلال أو اضطراب ، وبذلك يعرف الناس السنين والشهور والأيام ، ويعرفون أشهر الحج والصوم ، وغير ذلك من شئون الحياة .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }
ثم يستطرد في بيان آلاء الرحمن في المعرض الكوني العام :
حيث تتجلى دقة التقدير ، في تنسيق التكوين والحركة ، بما يملأ القلب روعة ودهشة ، وشعورا بضخامة هذه الإشارة ، وما في طياتها من حقائق بعيدة الآماد عميقة الأغوار .
إن الشمس ليست هي أكبر ما في السماء من أجرام . فهنالك في هذا الفضاء الذي لا يعرف البشر له حدودا ، ملايين الملايين من النجوم ، منها الكثير أكبر من الشمس وأشد حرارة وضوءا . فالشعرى اليمانية أثقل من الشمسبعشرين مرة ، ونورها يعادل خمسين ضعف نور الشمس . والسماك الرامح حجمه ثمانون ضعف حجم الشمس ونوره ثمانية آلاف ضعف . وسهيل أقوى من الشمس بألفين وخمسمائة مرة . . . وهكذا . . .
ولكن الشمس هي أهم نجم بالنسبة لنا - نحن سكان الكوكب الأرضي الصغير ، الذي يعيش هو وسكانه جميعا على ضوء الشمس وحرارتها وجاذبيتها .
وكذلك القمر وهو تابع صغير للأرض . ولكنه ذو أثر قوي في حياتها . وهو العامل الأهم في حركة الجزر والمد في البحار .
وحجم الشمس ، ودرجة حرارتها ، وبعدها عنا ، وسيرها في فلكها . وكذلك حجم القمر وبعده ودورته . . كلها محسوبة حسابا كامل الدقة بالقياس إلى آثارهما في حياة الأرض . وبالقياس إلى وضعهما في الفضاء مع النجوم والكواكب الأخرى . .
ونتناول طرفا من الحساب الدقيق في علاقتهما بكوكبنا الأرضي وما عليه من حياة وأحياء . .
إن الشمس تبعد عن الأرض باثنين وتسعين ونصف مليون من الأميال . ولو كانت أقرب إلينا من هذا لاحترقت الأرض أو انصهرت أو استحالت بخارا يتصاعد في الفضاء ! ولو كانت أبعد منا لأصاب التجمد والموت ما على الأرض من حياة ! والذي يصل إلينا من حرارة الشمس لا يتجاوز جزءا من مليوني جزء من حرارتها . وهذا القدر الضئيل هو الذي يلائم حياتنا . ولو كانت الشعرى بضخامتها وإشعاعها هي التي في مكان الشمس منا لتبخرت الكرة الأرضية ، وذهبت بددا !
وكذلك القمر في حجمه وبعده عن الأرض . فلو كان أكبر من هذا لكان المد الذي يحدثه في بحار الأرض كافيا لغمرها بطوفان يعم كل ما عليها . وكذلك لو كان أقرب مما وضعه الله بحسابه الذي لا يخطئ مقدار شعرة !
وجاذبية الشمس وجاذبية القمر للأرض لهما حسابهما في توازن وضعها ، وضبط خطاها في هذا الفضاء الشاسع الرهيب ، الذي تجري فيه مجموعتنا الشمسية كلها بسرعة عشرين ألف ميل في الساعة في اتجاه واحد نحو برج الجبار . ومع هذا لا تلتقي بأي نجم في طريقها على ملايين السنين !
وفي هذا الفضاء الشاسع الرهيب لا يختل مدار نجم بمقدار شعرة ، ولا يختل حساب التوازن والتناسق في حجم ولا حركة .
وقوله : { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } أي : يجريان متعاقبين بحساب مُقَنَّن لا يختلف ولا يضطرب ، { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] ، وقال تعالى : { فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ الأنعام : 96 ] .
وعن عكرمة أنه قال : لو جعل الله نور جميع أبصار الإنس والجن والدواب والطير في عيني عبد ، ثم كشف حجابا واحدا من سبعين حجابا دون الشمس ، لما استطاع أن ينظر إليها . ونور الشمس جزء من سبعين جزءًا من نور الكرسي ، ونور الكرسي جزء من سبعين جزءًا من نور العرش ، ونور العرش جزء من سبعين جزءًا من نور الستر . فانظر ماذا أعطى الله عبده من النور في عينيه وقت النظر إلى وجه ربه الكريم عيانا . رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : الشّمْسُ والقَمَرُ بحُسْبانٍ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : الشمس والقمر بحسبان ، ومنازل لها يجريان ولا يعدوانها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن خلف العسقلاني ، قال : حدثنا الفريابي ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا سماك بن حرب ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، في قوله : الشّمْسُ والقَمَرُ بِحُسْبانٍ قال : بحساب ومنازل يرسلان .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : الشّمْسُ والقَمَرُ بِحُسْبانٍ قال : يجريان بعدد وحساب .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي مالك الشّمْسُ والقَمَرُ بِحُسْبانٍ قال : بحساب ومنازل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة الشّمْسُ والقَمَرُ بِحُسْبانٍ : أي بحساب وأجل .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : الشّمْسُ والقَمَرُ بِحُسْبانٍ قال : يجريان في حساب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : الشّمْسُ والقَمَرُ بِحُسْبانٍ قال : يحسب بهما الدهر والزمان لولا الليل والنهار ، والشمس والقمر لم يدرك أحد كيف يحسب شيئا لو كان الدهر ليلاً كله ، كيف يحسب ، أو نهارا كله كيف يحسب .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن مروان ، قال : حدثنا أبو العوّام ، عن قتادة الشّمْسُ والقَمَرُ بِحسْبانٍ قال : بحساب وأجل .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنهما يجريان بقَدَر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا عبد الله بن داود ، عن أبي الصهباء ، عن الضحاك ، في قوله : الشّمْسُ والقَمَرُ بِحُسْبانٍ قال : بقدر يجريان .
وقال آخرون : بل معنى ذلك أنهما يدوران في مثل قطب الرحا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن خلف العسقلاني ، قال : حدثنا محمد بن يوسف ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا أبو يحيى عن مجاهد وقال : حدثنا محمد بن يوسف ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : بِحُسْبانٍ قال : كحسبان الرحا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : بِحُسْبانٍ قال : كحسبان الرحا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : الشمس والقمر يجريان بحساب ومنازل ، لأن الحسبان مصدر من قول القائل : حسبته حسابا وحسبانا ، مثل قولهم : كُفرته كفرانا ، وغُفْرته غُفْرانا . وقد قيل : إنه جمع حساب ، كما الشهبان : جمع شهاب .
واختلف أهل العربية فيما رفع به الشمس والقمر ، فقال بعضهم : رفعا بحسبان : أي بحساب ، وأضمر الخبر ، وقال : وأظنّ والله أعلم أنه قال : يجريان بحساب وقال بعض من أنكر هذا القول منهم : هذا غلط ، بحسبان يرافع الشمس والقمر : أي هما بحساب ، قال : والبيان يأتي على هذا : علّمه البيان أن الشمس والقمر بحسبان قال : فلا يحذف الفعل ويُضمر إلاّ شاذّا في الكلام .
واختلف الناس في قوله : { بحسبان } فقال مكي والزهراوي عن قتادة : هو مصدر كالحساب في المعنى وكالغفران والطغيان في الوزن . وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى والضحاك : هو جمع حساب ، كشهاب وشهبان ، والمعنى أن هذين لهما في طلوعهما وغروبهما وقطعهما البروج وغير ذلك حسابات شتى ، وهذا مذهب ابن عباس وأبي مالك وقتادة . وقال ابن زيد لولا الليل والنهار لم يدر أحد كيف يحسب شيئاً ، يريد من مقادير الزمان . وقال مجاهد : «الحسبان » الفلك المستدير ، شبه بحسبان الرحى ، وهو العود المستدير الذي باستدارته تدور المطحنة .
جملة هي خبر رابع عن الرحمن وإلاّ كان ذِكره هنا بدون مناسبة فينقلب اعتراضاً . ورابط الجملة بالمبتدأ تقديره : بحسبانه ، أي حسبان الرحمن وضبطه .
وهذا استدلال على التفرد بخلق كوكب الشمس وكرة القمر وامتنان بما أودع فيهما من منافع للناس ، ونظام سيرهما الذي به تدقيق نظام معاملات الناس واستعدادهم لما يحتاجون إليه عند تغيرات أجْوَائِهم وأرزاقهم . ويتضمن الامتنان بما في ذلك من منافعهم . وفي كون هذا الخبر جارياً على أسلوب التعديد ما قد علمت آنفاً من التبكيت ، ووجهه أنهم غفلوا عما في نظام الشمس والقمر من الحكمة وما يَدل عليه ذلك النظام من تفرد الله بتقديره ، فاشتغل بعضهم بعبادة الشمس وبعضهم بعبادة القمر كما قال تعالى : { ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون } [ فصلت : 37 ] .
وجيء بهذه الجملة اسمية للتهويل بالابتداء باسم الشمس والقمر ، وللدلالة على أن حسبانهما ثابت لا يتغير منذ بدء الخلق مؤذن بحكمة الخالق . واستغني بجعل اسم الشمس والقمر مسنداً إليهما عن تفكيك المسند إلى مسندين : أحدهما : يدل على الاستدلال ، والآخر يدل على الامتنان ، كما وقع في قوله : { خلق الإنسان علمه البيان } [ الرحمن : 3 ، 4 ] .
والحُسبان : مصدر حسَب بمعنى عد مثل الغفران .
والباء للملابسة وهي ظرف مستقر هو خبر عن الشمس والقمر ، والتقدير : كائنان بحسبان ، أي بملابسة حسبان ، أي لحساب الناس مواقع سيرهما .
وإسناد هذه الملابسة إلى الشمس والقمر مجازي عقلي لأن الشمس والقمر سبب لتلبس الناس بحسابهما كما تقول : أنتَ بعنايةٍ مني ، جعلت عنايتك ملابسة للمخاطب ملابسةً اعتبارية ، وقوله تعالى : { فإنك بأعيننا } [ الطور : 48 ] ، وقد تقدم في قوله تعالى : { والشمس والقمر حسباناً } في سورة الأنعام ( 96 ) . والحُسبان كناية عن انتظام سيرهما انتظاماً مطرداً لا يختل حساب الناس له والتوقيت به .
واقتصر على ذكر الشمس والقمر دون بقية الكواكب وإن كان فيها حسبان الأنواء ، والحَرّ والبرد ، مثللِ الجوزاء ، والشِعرى ، ومنزلة الأسد ، والثريا ، لأن هذين الكوكبين هما الباديان لجميع الناس لا يحتاج تعقل أحوالهما إلى تعليم توقيت مثل الكواكب الأخرى .
ولأن السورة هذه بنيت على ذكر الأمور المزدوجة والشمس والقمر مزدوجان في معارف عموم الناس فالشمس : كوكب سماوي لأنه أعلى من الأرض والأرض تدور حوله وداخلة في النظام الشمسي . والقمر : كوكب أرضي لأنه دون الأرض وتابع لها كبقية أقمار الكواكب فذكر الشمس والقمر كذكر السماء ، والأرض ، والمشرق ، والمغرب ، والبحرين .