اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ بِحُسۡبَانٖ} (5)

قوله : { والشمس والقمر بحسبان } فيه ثلاثة أوجه{[54263]} :

أحدها : أن الشمس مبتدأ ، و«بِحُسْبَان » خبره على حذف مضاف ، تقديره : جري الشمس والقمر بحسبان ، أي كائن ، أو مستقر ، أو استقر بحُسْبَان .

الثاني : أن الخبر محذوف يتعلق به هذا الجار ، تقديره : يجريان بحُسْبَان .

وعلى هذين القولين ، فيجوز في الحسبان وجهان :

أحدهما : أنه مصدر مفرد بمعنى «الحُسْبان » ، فيكون ك «الشُّكْران » و«الكُفْران » .

والثاني : أنه جمع حساب ، ك «شهاب » و«شُهْبَان » .

والثالث : أن «بحسبان » خبره ، و«الباء » ظرفية بمعنى «في » أي : كائنان في حسبان .

وحسبان على هذا اسم مفرد ، اسم للفلك المستدير ، مشبهة بحسبان الرَّحَى الذي باستدارته تدور الرّحى .

فصل

لما ذكر خلق الإنسان وإنعامه عليه لتعليمه البيان ، ذكر نعمتين عظيمتين ، وهما : الشمس والقمر ، وأنهما على قانون واحد وحسابٍ{[54264]} لا يتغيران ، وبذلك تتم منفعتهما للزراعات وغيرها ، ولولا الشمس لما زالت الظلمة ، ولولا القمر لفات كثير من المنافع الظاهرة ، بخلاف غيرهما من الكواكب ، فإن نعمها لا تظهر لكل أحد مثل ظهور نعمتهما ، وأنهما بحساب لا يتغير أبداً ، ولو كان مسيرهما غير معلوم للخلق لما انتفعوا بالزِّراعات في أوقاتها ، ومعرفة فصول السَّنة .

ثم لما ذكر النعم السماوية وذكر في مقابلتها أيضاً نعمتين ظاهرتين من الأرض ، وهما : النبات الذي لا ساق له ، وما له ساق ؛ لأن النبات أصل الرزق من الحبوب والثمار ، والحشيش للحيوان .

وقيل : إنما ذكر هاتين النعمتين بعد تعليم القرآن إشارة إلى أن من الناس من لا تكون نفسه زكيّة ، فيكتفي بأدلة القرآن ، فذكر له آيات الآفاق ، وخص الشمس والقمر ؛ لأن حركتهما بحسبان تدل على الفاعل المختار .

ولو اجتمع العالم ليبيّنوا سبب حركتهما على هذا التقدير المعين لعجزوا ، وقالوا : إن الله حركهما بالإرادة كما أراد .

وقيل : لما ذكر معجزة القرآن بإنزاله أنكروا نزول الجرم من السماء وصعوده إليها ، فأشار تعالى بحركتهما إلى أنها ليست بالطبيعة .

وهم يقولون بأن الحركة الدّورية من أنواع الحركات لا يكون إلا اختيارياً ، فقال تعالى : من حرّكهما على الاستدارة أنزل الملائكة على الاستقامة ، والثقيل على مذهبكم لا يصعد ، وصعود النَّجم والشجر إنما هو بقدرة الله تعالى ، فحركة الملك كحركة الفلك جائزة .

فصل في جريان الشمس والقمر

قال المفسرون : [ المعنى ]{[54265]} يجريان بحسبان معلوم فأضمر الخبر .

قال ابن عباس وقتادة وأبو مالك : يجريان بحساب في منازل لا تعدوها ولا يحيدان{[54266]} عنها .

وقال ابن زيد وابن كيسان : بهما تحسب الأوقات والأعمار ، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدرك أحد كيف يجد شيئاً إذا كان الدهر كله ليلاً أو نهاراً{[54267]} .

وقال السدي : «بحسبان » تقدير آجالهما{[54268]} ، أي : يجريان بآجال كآجال الناس ، فإذا جاء أجلهما هلكا ، نظيره : { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } [ الرعد : 2 ] .

وقال الضحاك : بقدر{[54269]} .

وقال مجاهد : «بحسبان »{[54270]} كحُسْبَان الرَّحى يعني : قطعها ، يدوران في مثل القُطْب .

والحُسْبَان : قد يكون مصدر «حسبته أحسبُه بالضم حَسْباً وحِسَاباً وحُسْبَاناً » مثل الغُفْرَان والكُفْران والرُّجحان .

وحسبته أيضاً : أي عددته .

وقال الأخفش : ويكون جماعة الحساب ، مثل «شِهَاب ، وشُهْبَان »{[54271]} .

والحُسْبَان - بالضم - أيضاً : العذاب والسِّهام القصار ، الواحدة : حُسْبَانة{[54272]} .

والحُسْبانة أيضاً : الوِسادَة الصغيرة تقول منه : «حَسَّبْتُهُ » إذا وسدته{[54273]} . قال : [ مجزوء الكامل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . *** لَثَوَيْتَ غَيْرَ مُحَسَّبِ{[54274]}

أي غير مُوسَّد ، يعني : غير مكرم ولا مكفن .


[54263]:ينظر: الدر المصون 6/236، البحر المحيط 8/187.
[54264]:في أ: بحسبان.
[54265]:سقط من ب.
[54266]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/573) عن ابن عباس وقتادة وأبي مالك وأخرجه الحاكم (2/474) عن ابن عباس وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/190) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى الفريابي، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وذكره أيضا عن أبي مالك وعزاه إلى ابن المنذر وعبد بن حميد.
[54267]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/574) عن ابن زيد وذكره البغوي في "تفسيره" (4/267) وكذا الماوردي (5/423 -424).
[54268]:ذكره الماوردي في "تفسيره" (5/423).
[54269]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/574) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/191) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.
[54270]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/574) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/191) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
[54271]:ينظر لسان العرب 2/866.
[54272]:ينظر لسان العرب 2/866.
[54273]:ينظر: لسان العرب 2/867.
[54274]:البيت لنهيك الفرازي يخاطب عامر بن الطفيل وتمام البيت: لَتَقيت بالوجعاء طعنة رهف *** مرّان أو لثويت غير محسَّب ينظر القرطبي 17/100، اللسان (حسب)، وتاج العروس (حسب).