مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ بِحُسۡبَانٖ} (5)

ثم قال تعالى : { الشمس والقمر بحسبان ، والنجم والشجر يسجدان } وفي الترتيب وجوه ( أحدها ) هو أن الله تعالى لما ثبت كونه رحمن وأشار إلى ما هو شفاء ورحمة وهو القرآن ذكر نعمه وبدأ بخلق الإنسان فإنه نعمة جميع النعم به تتم ، ولولا وجوده لما انتفع بشيء ، ثم بين نعمة الإدراك بقوله : { علمه البيان } وهو كالوجود إذ لولاه لما حصل النفع والانتفاع ، ثم ذكر من المعلومات نعمتين ظاهرتين هما أظهر أنواع النعم السماوية وهما الشمس والقمر ولولا الشمس لما زالت الظلمة ، ولولا القمر لفات كثير من النعم الظاهرة بخلاف غيرهما من الكواكب فإن نعمها لا تظهر لكل أحد مثل ما تظهر نعمتهما ، ثم بين كمال نفعهما في حركتهما بحساب لا يتغير ولو كانت الشمس ثابتة في موضع لما انتفع بها أحد ، ولو كان سيرها غير معلوم للخلق لما انتفعوا بالزراعات في أوقاتها وبناء الأمر على الفصول ، ثم بين في مقابلتهما نعمتين ظاهرتين من الأرض وهما النبات الذي لا ساق له والذي له ساق ، فإن الرزق أصله منه ، ولولا النبات لما كان للآدمي رزق إلا ما شاء الله ، وأصل النعم على الرزق الدار ، وإنما قلنا : النبات هو أصل الرزق لأن الرزق إما نباتي وإما حيواني كاللحم واللبن وغيرهما من أجزاء الحيوان ، ولولا النبات لما عاش الحيوان والنبات وهو الأصل وهو قسمان قائم على ساق كالحنطة والشعير والأشجار الكبار وأصول الثمار وغير قائم كالبقول المنبسطة على الأرض والحشيش والعشب الذي هو غذاء الحيوان ( ثانيها ) هو أنه تعالى لما ذكر القرآن وكان هو كافيا لا يحتاج معه إلى دليل آخر قال بعده : { الشمس والقمر بحسبان ، والنجم والشجر } وغيرها من الآيات إشارة إلى أن بعض الناس إن تكن له النفس الزكية التي يغنيها الله بالدلائل التي في القرآن ، فله في الآفاق آيات منها الشمس والقمر ، وإنما اختارهما للذكر لأن حركتهما بحسبان تدل على فاعل مختار سخرهما على وجه مخصوص ، ولو اجتمع من في العالم من الطبيعيين والفلاسفة وغيرهم وتواطئوا أن يثبتوا حركتهما على الممر المعين على الصواب المعين والمقدار المعلوم في البطء والسرعة لما بلغ أحد مراده إلى أن يرجع إلى الحق ويقول : حركهما الله تعالى كما أراد ، وذكر الأرض والسماء وغيرهما إشارة إلى ما ذكرنا من الدلائل العقلية المؤكدة لما في القرآن من الدلائل السمعية ( ثالثها ) هو أنا ذكرنا أن هذه السورة مفتتحة بمعجزة دالة عليها من باب الهيئة فذكر معجزة القرآن بما يكون جوابا لمنكري النبوة على الوجه الذي نبهنا عليه ، وذلك هو أنه تعالى أنزل على نبيه الكتاب وأرسله إلى الناس بأشرف خطاب ، فقال : بعض المنكرين كيف يمكن نزول الجرم من السماء إلى الأرض وكيف يصعد ما حصل في الأرض إلى السماء ؟ فقال تعالى : { الشمس والقمر بحسبان } إشارة إلى [ أن ] حركتهما بمحرك مختار ليس بطبيعي وهم وافقونا فيه وقالوا : إن الحركة الدورية لا يمكن أن تكون طبيعية اختيارية فنقول : من حرك الشمس والقمر على الاستدارة أنزل الملائكة على الاستقامة ثم النجم والشجر يتحركان إلى فوق على الاستقامة مع أن الثقيل على مذهبكم لا يصعد إلى جهة فوق فذلك بقدرة الله تعالى وإرادته ، فكذلك حركة الملك جائزة مثل الفلك ، وأما قوله : { بحسبان } ففيه إشارة إلى الجواب عن قولهم : { أأنزل عليه الذكر من بيننا بل } وذلك لأنه تعالى كما اختار لحركتهما ممرا معينا وصوبا معلوما ومقدارا مخصوصا كذلك اختار للملك وقتا معلوما وممرا معينا بفضله وفي التفسير مباحث :

الأول : ما الحكمة في تعريفه عما يرجع إلى الله تعالى حيث قال هما : { بحسبان } ولم يقل : حركهما الله بحسبان أو سخرهما أو أجراهما كما قال : { خلق الإنسان } وقال : { علمه البيان } ؟ نقول : فيه حكم منها أن يكون إشارة إلى أن خلق الإنسان وتعليمه البيان أتم وأعظم من خلق المنافع له من الرزق وغيره ، حيث صرح هناك بأنه فاعله وصانعه ولم يصرح هنا ، ومنها أن قوله : { الشمس والقمر } هاهنا بمثل هذا في العظم يقول القائل : إني أعطيتك الألوف والمئات مرارا وحصل لك الآحاد والعشرات كثيرا وما شكرت ، ويكون معناه حصل لك مني ومن عطائي لكنه يخصص التصريح بالعطاء عند الكثير ، ومنها أنه لما بينا أن قوله : { الشمس والقمر } إشارة إلى دليل عقلي مؤكد السمعي ولم يقل : فعلت صريحا إشارة إلى أنه معقول إذا نظرت إليه عرفت أنه مني واعترفت به ، وأما السمعي فصرح بما يرجع إليه من الفعل الثاني على أي وجه تعلق الباء من { بحسبان } ، نقول : هو بين من تفسيره والتفسير أيضا مر بيانه وخرج من وجه آخر ، فنقول : في الحسبان وجهان : ( الأول ) المشهور أن المراد الحساب يقال : حسب حسابا وحسبانا ، وعلى هذا فالباء للمصالحة تقول : قدمت بخير أي مع خير ومقرونا بخير فكذلك الشمس والقمر يجريان ومعهما حسابهما ومثله : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } ، وكل شيء عنده بمقدار } ويحتمل أن تكون للاستعانة كما في قولك : بعون الله غلبت ، وبتوفيق الله حجت ، فكذلك يجريان بحسبان من الله ( والوجه الثاني ) أن الحسبان هو الفلك تشبيها له بحسبان الرحا وهو ما يدور فيدير الحجر ، وعلى هذا فهو للاستعانة كما يقال : في الآلات كتبت بالقلم فهما يدوران بالفلك وهو كقوله تعالى : { وكل في فلك يسبحون } ، ( الثالث ) على الوجه المشهور هل كل واحد يجري بحسبان أو كلاهما بحسبان واحد ما المراد ؟ نقول : كلاهما محتمل فإن نظرنا إليهما فلكل واحد منهما حساب على حدة فهو كقوله تعالى : { كل في فلك } لا بمعنى أن الكل مجموع في فلك واحد وكقوله : { وكل شيء عنده بمقدار } وإن نظرنا إلى الله تعالى فللكل حساب واحد قدر الكل بتقدير حسبانهما بحساب ، مثاله من يقسم ميراث نفسه لكل واحد من الورثة نصيبا معلوما بحساب واحد ، ثم يختلف الأمر عندهم فيأخذ البعض السدس والبعض كذا والبعض كذا ، فكذلك الحساب الواحد .