قوله تعالى : { ومن قوم موسى } يعني من بني إسرائيل .
قوله تعالى : { أمة } أي : جماعة .
قوله تعالى : { يهدون بالحق } ، أي : يرشدون ويدعون إلى الحق ، وقيل : معناه يهتدون ويستقيمون عليه .
قوله تعالى : { وبه يعدلون } ، أي : بالحق يحكمون وبالعدل يقومون ، قال الكلبي والضحاك ، والربيع ، هم قوم خلف الصين ، بأقصى الشرق ، على نهر مجرى الرمل ، يسمى نهر الأردن ، ليس لأحد منهم مال دون صاحبه ، يمطرون بالليل ، ويسقون بالنهار ، ويزرعون ، لا يصل إليهم منا أحد ، وهم على دين الحق . وذكر : أن جبرائيل عليه السلام ذهب بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به إليهم ، فكلمهم فقال لهم جبريل : هل تعرفون من تكلمون ؟ قالوا : لا ، فقال لهم : هذا محمد النبي الأمي فآمنوا به ، فقالوا : يا رسول الله إن موسى عليه السلام أوصانا أن من أدرك منكم أحمد فليقرأ عليه منا السلام ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم على موسى وعليهم ، ثم أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكة ، وأمرهم بالصلاة ، والزكاة ، وأمرهم أن يقيموا مكانهم ، وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت . وقيل : هم الذين أسلموا من اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والأول أصح .
159 وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ أي : جماعة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ أي : يهدون به الناس في تعليمهم إياهم وفتواهم لهم ، ويعدلون به بينهم في الحكم بينهم ، بقضاياهم ، كما قال تعالى : وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ وفي هذا فضيلة لأمة موسى عليه الصلاة والسلام ، وأن اللّه تعالى جعل منهم هداة يهدون بأمره .
وكأن الإتيان بهذه الآية الكريمة فيه نوع احتراز مما تقدم ، فإنه تعالى ذكر فيما تقدم جملة من معايب بني إسرائيل ، المنافية للكمال المناقضة للهداية ، فربما توهم متوهم أن هذا يعم جميعهم ، فذكر تعالى أن منهم طائفة مستقيمة هادية مهدية .
ثم بين القرآن الكريم أن قوم موسى لم يكونوا جميعا ضالين . وإنما كان فيهم الأخيار وفيهم الأشرار فقال - تعالى - : { وَمِن قَوْمِ . . . } .
أى : ومن قوم موسى جماعة عظيمة يهدون الناس بالحق الذي جاءهم به من عند الله ، وبالحق - أيضاً - يسيرون في أحكامهم فلا يجورون ، ولا يرتشون ، وإنما يعدلون في كل شئونهم .
والمراد بهم أناس كانوا على خير وصلاح في عهد موسى - عليه السلام ، مخالفين لأولئك السفهاء من قومه .
وقيل المراد بهم من آمن بالنبى صلى الله عليه وسلم عند بعثته .
وهذا لون من ألوان عدالة القرآن في أحكامه ، وإنصافه لمن يستحق الانصاف من الناس .
إنه لا يسوق أحكامه معممة بحيث يندرج تحتها الصالح والطالح بدون تمييز ، كلا وإنما القرآن يسوق أحكامه بإنصاف واحتراس ، فهو يحكم للصالحين بما يستحقونه ، وتلك هى العدالة التي ما أحوج الناس في كل زمان ومكان إلى السير على طريقها ، وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - :
{ لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ } وقوله : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً } وقوله { بالحق } الباء للملابسة ، وهى مع مدخولها في محل الحال من الواو في يهدون . أى : يهدون الناس حال كونهم ملتبسين بالحق .
ثم تمضي القصة في سياقها بعد الرجفة التي أخذت رجالات بني إسرائيل . . ولا يذكر السياق هنا ماذا كان من أمرهم بعد دعوات موسى - عليه السلام - وابتهالاته . ولكنا نعرف من سياق القصة في سور أخرى أن الله أحياهم بعد الرجفة ، فعادوا إلى قومهم مؤمنين . وقبل أن يمضي السياق هنا في حلقة جديدة ، يقرر حقيقة عن قوم موسى . . أنهم لم يكونوا جميعاً ضالين :
( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) . .
هكذا كانوا على عهد موسى ؛ وهكذا كانت منهم طائفة تهدي بالحق وتحكم بالعدل من بعد موسى . . ومن هؤلاء من استقبلوا رسالة النبي الأمي في آخر الزمان بالقبول والاستسلام ، لما يعرفونه عنها في التوراة التي كانت بين أيديهم على مبعث رسول الله [ ص ] وفي أولهم الصحابي الجليل : عبدالله بن سلام رضي الله عنه . الذي كان يواجه يهود زمانه بما عندهم في التوراة عن النبي الأمي ، وما عندهم كذلك من شرائع تصدقها شرائع الإسلام .
يقول تعالى مخبرًا عن بني إسرائيل أن منهم طائفة يتبعون الحق ويعدلون به ، كما قال تعالى : { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [ آل عمران : 113 ] ، وقال تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ آل عمران : 199 ] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا [ وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ]{[12271]} } [ القصص : 52 - 54 ] ،
وقال تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } الآية [ البقرة : 121 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا* وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا * وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [ الإسراء : 107 - 109 ]
وقد ذكر ابن جرير في تفسيرها خبرًا عجيبًا ، فقال : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قوله : { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } قال : بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم ، وكفروا - وكانوا اثني عشر سبطا - تبرأ سبط منهم مما صنعوا ، واعتذروا ، وسألوا الله ، عز وجل ، أن يفرق بينهم وبينهم ، ففتح الله لهم نفقا في الأرض ، فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين ، فهم هنالك حنفاء مسلمين يستقبلون قبلتنا . قال ابن جريج : قال ابن عباس : فذلك قوله : { وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا } [ الإسراء : 104 ] و " وعد الآخرة " : عيسى ابن مريم{[12272]} - قال ابن جريج : قال ابن عباس : ساروا في السرب سنة ونصفًا .
وقال ابن عيينة ، عن صدقة أبي الهذيل ، عن السُّدِّي : { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } قال : قوم بينكم وبينهم نهر من شُهْد{[12273]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِن قَوْمِ مُوسَىَ أُمّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى يعني بني إسرائيل ، أُمّةٌ يقول : جماعة ، يَهْدُونَ بالحَقّ يقول : يهتدون بالحقّ : أي يستقيمون عليه ويعملون ، وَبِهِ يَعْدِلونَ : أي وبالحقّ يعطون ويأخذون ، وينصفون من أنفسهم فلا يجورون . وقد قال في صفة هذه الأمة التي ذكرها الله في الاَية جماعة أقوالاً نحن ذاكرو ما حضَرَنا منها :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، عن صدقة أبي الهذيل ، عن السديّ : وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمّةٌ يَهْدُونَ بالحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قال : قوم بينكم وبينهم نهر من شهد .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمّةٌ يَهْدُونَ بالحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قال : بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم كفروا ، وكانوا اثني عشر سبطا ، تبرأ سبط منهم مما صنعوا ، واعتذروا ، وسألوا الله أن يفرّق بينهم وبينهم ، ففتح الله لهم نَفَقا في الأرض ، فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين ، فهم هنالك حنفاء مسلمون ، يستقبلون قبلتنا . قال ابن جريج : قال ابن عباس : فذلك قوله : وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ فإذَا جاءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفا ووعد الاَخرة عيسى ابن مريم يخرجون معه . قال ابن جريج : قال ابن عباس : ساروا في السّرَب سنة ونصفا .
{ ومن قوم موسى } يعنى من بني إسرائيل . { أمة يهدون بالحق } يهدون الناس محقين أو بكلمة الحق . { وبه } بالحق . { يعدلون } بينهم في الحكم والمراد بها الثابتون على الإيمان القائمون بالحق من أهل زمانه ، اتبع ذكرهم ذكر أضدادهم على ما هو عادة القرآن تنبيها على أن تعارض الخير والشر وتزاحم أهل الحق والباطل أمر مستمر . وقيل مؤمنو أهل الكتاب . وقيل قوم وراء الصين رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فآمنوا به .
{ ومن قوم موسى } عطف على قوله : { واتخذ قوم موسى من بعده من حُليهم عِجلاً } [ الأعراف : 148 ] الآية ، فهذا تخصيص لظاهر العموم الذي في قوله : { واتخذ قوم موسى } [ الأعراف : 148 ] قصد به الاحتراس لئلا يتوهم أن ذلك قد عمله قوم موسى كلُّهُم ، وللتنبيه على دفع هذا التوهم ، قُدّم { ومن قوم موسى } على متعلقه .
وقوم موسى هم أتباع دينه من قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فمن بقي متمسكاً بدين موسى ، بعد بلوغ دعوة الإسلام إليه ، فليس من قوم موسى ، ولكن يقال هو من بني إسرائيل أو من اليهود ، لأن الإضافة في { قوم موسى } تؤذن بأنهم متبعو دينه الذي من جملة أصوله ترقب مجيء الرسول الأمي صلى الله عليه وسلم .
و { أمة } : جماعة كثيرة متفقة في عمل يجمعها ، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : { أمة واحدة } في سورة البقرة ( 213 ) ، والمراد أن منهم في كل زمان قبل الإسلام .
و { يَهدون بالحق } أي يهدون الناس من بني إسرائيل أو من غيرهم ببث فضائل الدين الإلهي ، وهو الذي سماه الله بالحق ويعدلون أي يحكمون حكماً لا جَور فيه .
وتقديم المجرور في قوله : { وبه يعدلون } للاهتمام به ولرعاية الفاصلة ، إذ لا مقتضي لإرادة القصر ، بقرينة قوله : { يهدون بالحق } حيث لم يقدم المجرور ، والمعنى : إنهم يحكمون بالعدل على بصيرة وعِلم ، وليس بمجرد مصادفة الحق عن جهل ، فإن القاضي الجاهل إذا قضى بغير علم كان أحدَ القاضيين اللذين في النار ، ولو صادف الحق ، لأنه بجهله قد استخف بحقوق الناس ولا تنفعه مصادفة الحق ؛ لأن تلك المصادفة لا عمل له فيها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى" يعني بني إسرائيل، "أُمّةٌ "يقول: جماعة، "يَهْدُونَ بالحَقّ" يقول: يهتدون بالحقّ: أي يستقيمون عليه ويعملون، "وَبِهِ يَعْدِلونَ": أي وبالحقّ يعطون ويأخذون، وينصفون من أنفسهم فلا يجورون.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وتقدير الكلام في معنى الآية إذا: كان من قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون، قد مدحوا بذلك وعظموا، فعلى كل أمة أن يكونوا كهذه الأمة الكريمة في هذا المعنى. والأمة: الجماعة التي تؤم أمرا بأن تقصده وتطلبه، وأمة محمد (صلى الله عليه وآله) تؤم شريعته وأمة موسى وعيسى مثل ذلك...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
هم الذين سبقت لهما لعناية، وصدقت فيهم الولاية فبقوا على الحق من غير تحريف ولا تحويل، وأدركتهم الرحمةُ السابقةُ، فلم تتطرق إليهم مفاجأة تغيير، ولا خفيُّ تبديل.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ} هم المؤمنون التائبون من بني إسرائيل، لما ذكر الذين تزلزلوا منهم في الدين وارتابوا حتى أقدموا على العظيمتين عبادة العجل واستجازة رؤية الله تعالى، ذكر أنّ منهم أمة موقنين ثابتين يهدون الناس بكلمة الحق، ويدلونهم على الاستقامة ويرشدونهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله: {ومن قوم موسى...}، {يهدون} معناه: يرشدون أنفسهم، وهذا الكلام يحتمل أن يريد به وصف المؤمنين المتقين من بني إسرائيل على عهد موسى وما والاه من الزمن، فأخبر أنه كان في بني إسرائيل على عتوهم وخلافهم من اهتدى واتقى وعدل، ويحتمل أن يريد الجماعة التي آمنت بمحمد صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل على جهة الاستجلاب لإيمان جميعهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كثر عد مثالب إسرائيل، وختم بتخصيص المتبع لهذا النبي الكريم بالهداية والرحمة المسببة عنها، وكان فيهم المستقيم على ما شرعه له ربه، المتمسك بما لزمه أهل طاعته وحزبه، سواء كان من صفات النبي صلى الله عليه وسلم أو غيرها، مع الإذعان لذلك كله؛ نبه عليه عائداً إلى تتميم أخبارهم، ثم ما وقع في أيام موسى عليه السلام وبعدها من شرارهم، تعزية لهذا النبي الكريم وتسلية، وتطييباً لنفسه الزكية وتأسية، وهو مع ما بعده من أدلة {سأصرف عن آياتي} [الأعراف: 146] فقال تعالى عاطفاً على {واتخذ قوم موسى من بعده} [الأعراف: 148] {ومن قوم موسى أمة} أي قوم يستحقون أن يؤموا لأنهم لا يتكبرون في الأرض بغير الحق، بل {يهدون} أي يوقعون الهداية وهي البيان {بالحق وبه} أي خاصة {يعدلون} أي يجعلون القضايا المختلفة المتنازع فيها معادلة ليقع الرضى بها، لا يقع منهم جور في شيء منها، ومنهم الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم كعبد الله بن سلام ومخيريق رضي الله عنهما...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
.. {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} أي ومن قوم موسى (أيضا) جماعة عظيمة يهدون الناس بالحق الذي جاءهم به من عند الله تعالى ويعدلون به دون غيره إذا حكموا بين الناس، لا يتبعون فيه الهوى، ولا يأكلون السحت والرشى، فالظاهر المتبادر أن هؤلاء ممن كانوا في عصره وبعد عصره حتى بعد ما كان من ضياع أصل التوراة ثم وجود النسخة المحرفة بعد السبي، فإن الأمم العظيمة لا تخلو من أهل الحق والعدل. وهذا من بيان القرآن للحقائق، وعدله في الحكم على الأمم، كقوله: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك إلّا ما دمت عليه قائما} [آل عمران: 75] الآية وقيل في وجه التناسب والاتصال إنه ذكر هؤلاء من قومه في مقابل متخذي العجل للدلالة على أنهم كانوا بعض قومه لا كلهم، وهو جائز على بعد يقدر بقدر بعد هذه الآية عن قصة العجل، وما قلناه أظهر.
فإن قيل: إن قوله:"يهدون ويعدلون" للحال المفيد للاستمرار قلنا: إن أمثاله مما حكي فيه حال الغابرين وحدهم بصيغة المضارع كثير. ووجهه أن التعبير لتصوير الماضي في صورة الحاضر، وما هنا يشمل أهل الحق من قوم موسى إلى زمن نزول هذه السورة ممن لم تكن بلغتهم دعوة النبي الأمي خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وهم الذين كانوا كلما بلغت أحدا منهم الدعوة قبلها وأسلم وقد ورد في وصفهم آيات صريحة وحمل بعضهم هذه الآية التي نفسرها عليهم وحدهم.
.. فالآيات في الخيار من أهل الكتاب ثلاثة أنواع:
- الصريحة في الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا قبل إيمانهم أو بعده كقوله تعالى في سورة البقرة: {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به} [البقرة: 121] وقوله في سورة القصص: {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون} [القصص: 52] إلى قوله: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين} [القصص: 55] الآيات ومثلهن في سور الأنعام والرعد والإسراء والقصص والعنكبوت الخ.
- الصريحة في الذين كانوا في عهد موسى عليه السلام واستقاموا معه ثم في عهده من بعده من أنبيائهم إلى عهد البعثة العامة قبل بلوغ دعوتها كالآية التي نحن بصدد تفسيرها.
- المحتملة للقسمين كقوله تعالى: {من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله} [آل عمران: 113] الخ فراجع تفسيرهن (في ج4 تفسير)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقوم موسى هم أتباع دينه من قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فمن بقي متمسكاً بدين موسى بعد بلوغ دعوة الإسلام إليه فليس من قوم موسى، ولكن يقال هو من بني إسرائيل أو من اليهود، لأن الإضافة في {قوم موسى} تؤذن بأنهم متبعو دينه الذي من جملة أصوله ترقب مجيء الرسول الأمي صلى الله عليه وسلم. و {يَهدون بالحق} أي يهدون الناس من بني إسرائيل أو من غيرهم ببث فضائل الدين الإلهي، وهو الذي سماه الله بالحق ويعدلون أي يحكمون حكماً لا جَور فيه. والمعنى: إنهم يحكمون بالعدل على بصيرة وعِلم، وليس بمجرد مصادفة الحق عن جهل، فإن القاضي الجاهل إذا قضى بغير علم كان أحدَ القاضيين اللذين في النار، ولو صادف الحق، لأنه بجهله قد استخف بحقوق الناس ولا تنفعه مصادفة الحق؛ لأن تلك المصادفة لا عمل له فيها.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن القرآن الكريم ينصف القلة من الكثرة، فإذا كانت الكثرة طاغية عاتية، وفيهم قلة هادية مرشدة؛ يذكر القرآن الكريم أهل الخير من بينهم، وإن طغى الشر في جمعهم، وصار الفساد هو المظهر فيهم. ولذا قال تعالى في وسط بيان مآثم اليهود: {ومن قوم موسى امة يهدون بالحق}، أي ومن هؤلاء الذين كانت فيهم عبادة العجل، وكان منهم من قالوا: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، من هؤلاء جماعة كأنهم أمة واحدة منفصلون بشعورهم وعقولهم عنها؛ ولذلك عبر بأمة من حيث إنهم قد اجتمعوا على طاعة الله وطاعة رسوله موسى، وذكرهم منتسبين إلى موسى، إشارة إلى اتباعهم له، وأنهم قومه الحقيقيون الجديرون بنسبتهم إليه، وهم منه وهو منهم وذكر الله تعالى لهم وصفين هما كمال في كمال: أولهما – أنهم يهدون بالحق، أي أنهم في وسط انحراف بني إسرائيل إخوانهم وبني جلدتهم ونسبهم يدعون بالحق، أي يعلنونه ويدعون إليه، ويؤمنون به غير محرفين، والهداية بالحق كلمة جامعة للدعوة بكل ما هو خير، يهدون إلى التوحيد، وهو الحق أو من الحق، ويدعون إلى طاعة موسى وهي حق، ويدعون إلى شكر نعمة الله التي أنعمها عليهم، ويذكرون آلاء الله تعالى عليهم، ونجاتهم من فرعون، ويعبدون الله وحده. الوصف الثاني – ذكره الله تعالى بقوله: {وبه يعدلون}، أي بالحق وحده يزنون كل شيء، فيزنون كل قول وفعل يكون في جماعتهم بميزان الحق وحده لا بميزان الهوى والشهوة، فإنها والحق نقيضان لا يجتمعان. وقدم الجار والمجرور للدلالة على قصر الحكم على الحق وحده لا يحكمون بغيره... وهكذا شأن الكتاب الحكيم لا يدغم الخير في الشر، بل يخص الخير بالذكر، ويخرجه من وسط ظلمات الباطل...