{ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ } بهذه الفتنة العظيمة { وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } بالخوف والقلق ، والجوع ، ليتبين إيمانهم ، ويزيد إيقانهم ، فظهر -وللّه الحمد- من إيمانهم ، وشدة يقينهم ، ما فاقوا فيه الأولين والآخرين .
وعندما اشتد الكرب ، وتفاقمت الشدائد ، صار إيمانهم عين اليقين ، { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا }
ولفظ { هُنَالِكَ } فى قوله - تعالى - : { هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون } : ظرف مكان للبعيد ، وهو منصوب بقوله { ابتلي } والابتلاء : الاختبار والامتحان بالشدائد والمصائب .
أى : فى ذلك المكان الذى أحاط به الأحزاب من كل جانب ، امتحن الله - تعالى - المؤمنين واختبرهم ، ليتميز قوى الإِيمان من ضعيفه .
{ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } أى : واضطربوا شديدا ، من شدة الفزع ، لأن الأعداء حاصروهم ، ولأن بنى قوى الإِيمان من ضعيفه .
{ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } اى : واضطربوا اضطرابا شديدا ، من شدة الفزع ، لأن الأعداء حاصروهم ، ولأن بنى قريظة نقضوا عهودهم .
ولقد بلغ انشغال المسلمين بعدوهم انشغالا عظيما ، حتى أنهم لم يستطيعوا أن يؤدوا بعض الصلوات فى أوقاتها ، " وقال بعض الصحابة : يا رسول الله ، ما صلينا ، فقال لهم صلى الله عليه وسلم : " ولا أنا ، والله ما صليت ثم قال : شغلنا المشركون عن الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ملأ الله أجوافهم وقلوبهم نارا "
. وخرجت طليعتان للمسلمين ليلا ، فالتقتا - دون أن تعرف إحداهما الأخرة - فتقاتلا . وحديث بينهم ما حدث من جراح وقتل ، ولم يشعروا أنهم من المسلمين ، حتى تنادوا بشعار الإِسلام : " حم . لا ينصرون " . فكف بعضهم عن بعض .
فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : " جراحكم فى سبيل الله ومن قتل منكم فإنه شهيد " " .
ثم تزيد سمات الموقف بروزا ، وتزيد خصائص الهول فيه وضوحا : ( هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ) . . والهول الذي يزلزل المؤمنين لا بد أن يكون هولا مروعا رعيبا .
قال محمد بن مسلمة وغيره : كان ليلنا بالخندق نهارا ؛ وكان المشركون يتناوبون بينهم ، فيغدو أبو سفيان ابن حرب في اصحابه يوما ، ويغدو خالد بن الوليد يوما ، ويغدو عمرو بن العاص يوما ، ويغدو هبيرة ابن أبي وهب يوما ، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما . ويغدو ضرار بن الخطاب يوما . حتى عظم البلاء وخاف الناس خوفا شديدا .
ويصور حال المسلمين ما رواه المقريزي في إمتاع الأسماع . قال :
ثم وافى المشركون سحرا ، وعبأ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أصحابه فقاتلوا يومهم إلى هوي من الليل ، وما يقدر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولا أحد من المسلمين أن يزولوا من موضعهم . وما قدر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على صلاة ظهر ولا عصر ولا مغرب ولا عشاء " فجعل أصحابه يقولون : يا رسول الله ما صلينا ! فيقول . ولا أنا والله ما صليت ! حتى كشف الله المشركين ، ورجع كل من الفريقين إلى منزله ، وقام أسيد بن حضير في مائتين على شفير الخندق ، فكرت خيل للمشركين يطلبون غرة - وعليها خالد بن الوليد - فناوشهم ساعة ، فزرق وحشى الطفيل بن النعمان بن خنساء الأنصاري السلمي بمزراق ، فقتله كما قتل حمزة - رضي الله عنه - بأحد . وقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يومئذ : " شغلنا المشركون عن صلاة الوسطى صلاة العصر . ملأ الله أجوافهم وقلوبهم نارا " . .
وخرجت طليعتان للمسلمين ليلا فالتقتا - ولا يشعر بعضهم ببعض ، ولا يظنون إلا أنهم العدو . فكانت بينهم جراحة وقتل . ثم نادوا بشعار الإسلام ! ( حم . لا ينصرون )فكف بعضهم عن بعض . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " جراحكم في سبيل الله ومن قتل منكم فإنه شهيد " . .
ولقد كان أشد الكرب على المسلمين ، وهم محصورون بالمشركين داخل الخندق ، ذلك الذي كان يجيئهم من انتقاض بني قريظة عليهم من خلفهم . فلم يكونوا يأمنون في أية لحظة أن ينقض عليهم المشركون من الخندق ، وأن تميل عليهم يهود ، وهم قلة بين هذه الجموع ، التي جاءت بنية استئصالهم في معركة حاسمة أخيرة .
ذلك كله إلى ما كان من كيد المنافقين والمرجفين في المدينة وبين الصفوف :
وقوله : هُنالكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ يقول : عند ذلك اختبر إيمان المؤمنين ، ومحّص القوم وعرف المؤمن من المنافق . وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله هُنالكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ قال : محصوا .
وقوله : وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدا يقول : وحرّكوا بالفتنة تحريكا شديدا ، وابتلوا وفتنوا .
الإشارة ب { هُنَالك } إلى المكان الذي تضمنه قوله { جاءتكم جنود } [ الأحزاب : 9 ] وقوله { إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم } . والأظهر أن تكون الإشارة إلى الزمان الذي دلت عليه { إذْ في قوله : وإذ زاغت الأبصار . } وكثيراً ما ينزّل أحد الظرفين منزلة الآخر ولهذا قال ابن عطية : { هنالك } : ظرف زمان والعامل فيه ابتلي اهـ . قلت : ومنه دخول ( لات ) على ( هَنّا ) في قول حجل بن نضلة :
خنت نَوارُ ولات هَنَّا حِنت *** وبدا الذي كانت نوار أجنت
فإن ( لات ) خاصة بنفي أسماء الزمان فكان ( هَنَّا ) إشارة إلى زمان منكر وهو لغة في ( هُنا ) . ويقولون : يومُ هُنَا ، أي يوم أول ، فيشيرون إلى زمن قريب ، وأصل ذلك مجاز توسع فيه وشاع .
والابتلاء : أصله الاختبار ، ويطلق كناية عن إصابة الشدة لأن اختبار حال الثبات والصبر لازم لها ، وسمى الله ما أصاب المؤمنين ابتلاء إشارة إلى أنه لم يزعزع إيمانهم .
والزلزال : اضطراب الأرض ، وهو مضاعف زَلّ تضعيفاً يفيد المبالغة ، وهو هنا استعارة لاختلال الحال اختلالاً شديداً بحيث تُخَيَّل مضطربة اضطراباً شديداً كاضطراب الأرض وهو أشدّ اضطراباً للحاقه أعظم جسم في هذا العالم . ويقال : زُلْزِلَ فلان ، مبنياً للمجهول تبعاً لقولهم : زُلزلت الأرض ، إذ لا يعرف فاعل هذا الفعل عُرفاً . وهذا هو غالب استعماله قال تعالى : { وزلزلوا حتى يقول الرسول الآية } [ البقرة : 214 ] .
والمراد بزلزلة المؤمنين شدة الانزعاج والذعر لأن أحزاب العدو تفوقُهم عَدداً وعُدة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.