السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{هُنَالِكَ ٱبۡتُلِيَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَزُلۡزِلُواْ زِلۡزَالٗا شَدِيدٗا} (11)

ولما كانت الشدة في الحقيقة إنما هي للثابت لأنه ما عنده إلا الهلاك أو النصرة قال تعالى : { هنالك } أي : في ذلك الوقت العظيم البعيد الرتبة { ابتلي المؤمنون } اختبروا فظهر المخلص من المنافق والثابت من المتزلزل { زلزلوا } أي : حركوا وأزعجوا بما يرون من الأهوال بتظافر الأعداء مع الكثرة وتطاير الأراجيف { زلزلاً شديداً } فثبتوا تثبيت الله تعالى لهم على عدوهم ، وعن صفية قالت : مر بنا رجل من اليهود فجعل يطوف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بيننا وبينهم من يدفع عنا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إذا أتانا آت قالت : فقلت يا حسان إن هذا اليهودي يطوف بنا كما ترى بالحصن وإني والله ما آمنه أن يدل على عوراتنا من ورائنا من يهود ، وقد شغل عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فانزل إليه فاقتله فقال : يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا .

قالت : فلما قال ذلك ولم أر عنده شيئاً احتجزت ثم أخذت عموداً ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته ، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل قال : ما لي بسلبه من حاجة يا ابنة عبد المطلب » وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم .

ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن غطفان أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإنما الحرب خدعة ، فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى قريظة وكان لهم نديماً في الجاهلية فقال لهم : يا بني قريظة قد عرفتم وِدِّي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم قالوا : صدقت لست عندنا بمتهم فقال لهم : إن قريشاً وغطفان جاؤوا لحرب محمد وقد ظاهرتموهم عليه ، وإن قريشاً وغطفان ليسوا كهيئتكم البلد بلدكم وبه أموالكم وأولادكم ونساؤكم لا تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره ، وإن قريشاً وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره إن رأو نهزة وغنيمة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ، والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن يقاتلوا معكم محمداً صلى الله عليه وسلم حين تناجزوه .

قالوا : لقد أشرت برأي ونصح ، ثم خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : قد عرفتم ودي إياكم وفراقي محمداً ، وقد بلغني أمر رأيته أن حقاً علي أن أبلغكم نصحاً لكم فاكتموا علي قالوا : نفعل قال : تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا بينهم وبين محمد ، وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ، ثم نكون معك على من بقي منهم فأرسل إليهم أن نعم ، فإن بعثت إليكم اليهود يلتمسون رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم رجلاً واحداً .

ثم خرج حتى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان أنتم أهلي وعشيرتي وأحب الناس إلي ولا أراكم تتهموني ، قالوا صدقت قال فاكتموا علي قالوا : نفعل ، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم مثل ما حذرهم فلما كانت ليلة السبت في شوال سنة خمس ، وكان مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان فقالوا : إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر فأعدوا للقتال حتى نناجز محمداً صلى الله عليه وسلم ونفرغ مما بيننا وبينه ، فأرسلوا إليهم أن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثاً فأصابه ما لم يخف عليكم ، ولسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمداً صلى الله عليه وسلم فإنا نخشى إن ضرمتكم الحرب واشتدت عليكم أن تسيروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا ، ولا طاقة لنا بذلك من محمد صلى الله عليه وسلم .

فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان : تعلمن والله أن الذي حدثكم به نعيم ابن مسعود لحق ، فأرسلوا إلى بني قريظة أنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا ، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا ، فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا : إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا ، فإن وجدوا فرصة انتهزوها ، وإن يكن غير ذلك استمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلادكم ، فأرسلوا إلى قريش وغطفان إنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً ، فأبوا عليهم . وخذل الله تعالى بينهم وبعث الله تعالى عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم ، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من أمرهم قال : من يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله تعالى الجنة ؟ .

قال حذيفة : فما قام منا رجل ، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل ، ثم التفت إلينا فقال مثله فأسكت القوم وما قام منا رجل ، ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويّاً من الليل ثم التفت إلينا فقال : ألا من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنة ؟ فما قام رجل من شدة الخوف وشدة البرد ، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا حذيفة فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني فقلت : لبيك يا رسول الله وقمت حتى أتيته وإن جنبي يضطربان ، فمسح رأسي ووجهي ثم قال : ائت هؤلاء القوم حتى تأتيني بخبرهم ولا تحدثن شيئاً حتى ترجع إليّ ، ثم قال : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته ، فأخذت سهمي وشددت عليّ أسلابي ، ثم انطلقت أمشي نحوهم كأني أمشي في حمام ، فذهبت فدخلت في القوم وقد أرسل الله عليهم ريحاً ، وجنود الله تعالى تفعل فيهم ما تفعل وأبو سفيان قاعد يصطلي فأخذت سهماً فوضعته في كبد قوسي فأردت أن أرميه ولو رميته لأصبته فذكرت قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا تحدثن شيئاً حتى ترجع ، فرددت سهمي في كنانتي ، فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله تعالى بهم لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء قام فقال : يا معشر قريش ليأخذن كل منكم بيد جليسه فلينظر من هو ، فأخذت بيد جليسي فقلت : من أنت قال : سبحان الله أما تعرفني أنا فلان فإذا رجل من هوازن فقال أبو سفيان يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخف وأخلفنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ، وبلغنا من هذه الريح ما ترون ، فارتحلوا فإني مرتحل ، ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم .

وسمعت غطفان بما فعلت قريش فاستمروا راجعين إلى بلادهم قال : فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأني أمشي في حمام فأتيته وهو قائم يصلي فلما أخبرته الخبر ضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل قال : فلما أخبرته وفرغت قررت وذهب عني الدفء ، فأدناني النبي صلى الله عليه وسلم فأنامني عند رجليه وألقى عليّ طرف ثوبه ، وألصق صدري ببطن قدميه فلم أزل نائماً حتى أصبحت فقال : قم يا نومان .