{ 71-73 } { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
هذا امتنان من اللّه على عباده ، يدعوهم به إلى شكره ، والقيام بعبوديته وحقه ، أنه جعل لهم من رحمته النهار ليبتغوا من فضل اللّه ، وينتشروا لطلب أرزاقهم ومعايشهم في ضيائه ، والليل ليهدأوا فيه ويسكنوا ، وتستريح أبدانهم وأنفسهم من تعب التصرف في النهار ، فهذا من فضله ورحمته بعباده .
فهل أحد يقدر على شيء من ذلك ؟ فلو جعل { عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ } مواعظ اللّه وآياته سماع فهم وقبول وانقياد ،
ثم أمر - سبحانه - نبيه صلى الله عليه وسلم بمظاهر قدرته - سبحانه - فى هذا الكون ، وأن يوقظ مشاعرهم للتأمل فى ظاهرتين كونيتين ، هما الليل والنهار ، فإن التدبر فيما اشتملتا عليه من تنظيم دقيق ، من شأنه أن يبعث على الإيمان بقدرة موجدهما ، وهو الله عز وجل . قال - تعالى - : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن . . . } .
السرمد : الدائم الذى لا ينقطع ، والمراد به هنا : دوام الزمان من ليل أو نهار .
والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - للناس ليعتبروا ويتعظوا وينتبهوا إلى مظاهر قدرتنا ورحمتنا ، أخبرونى ماذا كان يحصل لكم إن جعل الله - تعالى - عليكم الزمان ليلا دائما إلى يوم القيامة ، { مَنْ إله غَيْرُ الله } - تعالى - { يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ } تبصرون عن طريقه عجائب هذا الكون ، وتقضون فيه حوائجكم { أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } ما أرشدناكم إليه سماع تدبر وتفهم واعتبار يهديكم إلى طاعة الله - تعالى - وشكره على نعمه .
ثم قال لهم : أخبرونى بعد ذلك ، لو جعل الله - تعالى - عليكم الزمان ضياء دائما إلى يوم القيامة { مَنْ إله غَيْرُ الله } - تعالى - { يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ } أى : تستريحون فيه من عناء العمل والكد والتعب بالنهار { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } أى : أفلا تبصرون هذه الدلائل الساطعة الدالة على قدرة الله - تعالى - ورأفته بكم .
إن دوام الزمان على هيئة واحدة من ليل أو نهار ، يؤدى إلى اختلال الحياة ، وعدم توفر أسباب المعيشة السليمة لكم ، بل ربما أدى إلى هلاككم .
إن المشاهد من أحوال الناس ، أنهم مع وجود الليل لساعات محدودة ، يشتافون لطلوع الفجر ، لقضاء مصالحهم ، ومع وجود النهار لساعات محدودة - أيضا - يتطلعون إلى حلول الليل ، ليستريحوا فيه من عناء العمل .
وختم - سبحانه - الآية الأولى بقوله : { أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } لأن حاسة السمع - فيما لو كان الليل سرمدا - هى أكثر الحواس استعمالا فى تلك الحالة المفترضة ، وختم الآية الثانية بقوله : { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } ، لأن حاسة البصر - فيما لو كان النهار سرمدا - من أكثر الحواس استعمالا فى هذه الحالة .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا قيل : بنهار تتصرفون فيه ، كما قيل " بليل تسكنون فيه " ؟
قلت ذكر الضياء - هو ضوء الشمس - لأن المنافع التى تتعلق به متكاثرة ، ليس التصرف فى المعاش وحده ، والظلام ليس بتلك المنزلة .
الدرس السابع : 71 - 73 نعمة الله على الإنسان في تعاقب الليل والنهار
ثم يجول بهم جولة في مشاهد الكون الذي يعيشون فيه غافلين عن تدبير الله لهم ، واختياره لحياتهم ومعاشهم ؛
فيوقظ مشاعرهم لظاهرتين كونيتين عظيمتين . ظاهرتي الليل والنهار ، وما وراءهما من أسرار الاختيار والشهادة بوحدانية الخالق المختار :
( قل : أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء ? أفلا تسمعون ? قل : أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه ? أفلا تبصرون ? ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ، ولعلكم تشكرون ) . .
والناس لطول ما اعتادوا من كر الجديدين ينسون جدتهما المتكررة التي لا تبلى . ولا يروعهم مطلع الشمس ولا مغيبها إلا قليلا . ولا يهزهم طلوع النهار وإقبال الليل إلا نادرا . ولا يتدبرون ما في تواليهما من رحمة بهم وإنقاذ من البلى والدمار ، أو التعطل والبوار ، أو الملل والهمود .
والقرآن الكريم يوقظهم من همود الإلف والعادة ، ويلفتهم إلى تملي الكون من حولهم ومشاهده العظيمة ؛ وذلك حين يخيل إليهم استمرار الليل أبدا أو النهار أبدا ، وحين يخيفهم من عواقب هذا وذاك . وما يشعر الإنسان بقيمة الشيء إلا حين يفقده أو يخاف عليه الفقدان .
قل : أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة . ومن إله غير الله يأتيكم بضياء ? أفلا تسمعون . .
والناس يشتاقون إلى الصبح حين يطول بهم الليل قليلا في أيام الشتاء ، ويحنون إلى ضياء الشمس حين تتوارى عنهم فترة وراء السحاب ! فكيف بهم لو فقدوا الضياء . ولو دام عليهم الليل سرمدا إلى يوم القيامة ? ذلك على فرض أنهم ظلوا أحياء . وإن الحياة كلها لمعرضة للتلف والبوار ، لو لم يطلع عليها النهار !
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ الْلّيْلَ سَرْمَداً إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلََهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } .
يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله : أيها القوم أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل دائما لا نهار إلى يوم القيامة يعقبه . والعرب تقول لكلّ ما كان متصلاً لا ينقطع من رخاء أو بلاء أو نعمة هو سرمد . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : سَرْمَدا : دائما لا ينقطع .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله إنْ جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ اللّيْلَ سَرْمَدا يقول : دائما .
وقوله : مَنْ إلَهٌ غيرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ يقول : من معبود غير المعبود الذي له عبادة كل شيء يأتيكم بضياء النهار ، فتستضيئون به أفَلا تَسْمَعُونَ يقول : أفلا تُرْعُون ذلك سمعكم ، وتفكرون فيه فتتعظون ، وتعلمون أن ربكم هو الذي يأتي بالليل ويذهب بالنهار إذا شاء ، وإذا شاء أتى بالنهار وذهب بالليل ، فينعم باختلافهما كذلك عليكم .
ثم أمر تعالى نبيه أن يوقفهم على أمر الليل والنهار وما منح الله فيهما من المصالح والمرافق وأن يوقفهم على إيجاده تعالى بتقليب الليل والنهار ، وأنه لو مد أحدهما { سرمداً } لما وجد من يأتي بالآخر ، و «السرمد » من الأشياء الدائم الذي لا ينقطع ، وقرأت فرقة هي الجمهور «بضياء » بالياء ، وقرأ ابن كثير في رواية قنبل «بضئاء » بهمزتين وضعفه أبو علي .
انتقال من الاستدلال على انفراده تعالى بالإلهية بصفات ذاته إلى الاستدلال على ذلك ببديع مصنوعاته ، وفي ضمن هذا الاستدلال إدماج الامتنان على الناس وللتعريض بكفر المشركين جلائل نعمه .
ومن أبدع الاستدلال أن اختير للاستدلال على وحدانية الله هذا الصنع العجيب المتكرر كل يوم مرتين ، والذي يستوي في إدراكه كل مميز ، والذي هو أجلى مظاهر التغير في هذا العالم فهو دليل الحدوث وهو مما يدخل في التكيف به جميع الموجودات في هذا العالم حتى الأصنام فهي تظلم وتسود أجسامها بظلام الليل وتشرق وتضيء بضياء النهار ، وكان الاستدلال بتعاقب الضياء والظلمة على الناس أقوى وأوضح من الاستدلال بتكوين أحدهما لو كان دائماً ، لأن قدرة خالق الضدين وجاعل أحدهما ينسخ الآخر كل يوم أظهر منها لو لم يخلق إلا أقواهما وأنفعهما ، ولأن النعمة بتعاقبهما دوماً أشد من الأنعام بأفضلهما وأنفعهما لأنه لو كان دائماً لكان مسؤوماً ولحصلت منه طائفة من المنافع ، وفقدت منافع ضده . فالتنقل في النعم مرغوب فيه ولو كان تنقلاً إلى ما هو دون . وسيق إليهم هذا الاستدلال بأسلوب تلقين النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم اهتماماً بهذا التذكير لهذا الاستدلال ولاشتماله على ضدين متعاقبين ، حتى لو كانت عقولهم قاصرة عن إدراك دلالة أحد الضدين لكان في الضد الآخر تنبيه لهم ، ولو قصروا عن حكمة كل واحد منهما كان في تعاقبهما ما يكفي للاستدلال .
وجيء في الشرطين بحرف { إن } لأن الشرط مفروض فرضاً مخالفاً للواقع . وعلم أنه قصد الاستدلال بعبرة خلق النور ، فلذلك فرض استمرار الليل ، والمقصود ما بعده وهو قوله { من إله غير الله يأتيكم بضياء } .
والسرمد : الدائم الذي لا ينقطع . قال في « الكشاف » : من السرد وهو المتابعة ومنه قولهم في الأشهر الحُرم : ثلاثة سرد وواحد فرد . والميم مزيدة ووزنه فعمل ، ونظيره دُلامص من الدلاص اه . دُلامص ( بضم الدال وكسر الميم ) من صفات الدرع وأصلها دِلاص ( بدال مكسورة ) أي براقة . ونسب إلى صاحب « القاموس » وبعض النحاة أن ميم سرمد أصلية وأن وزنه فعلل . والمراد بجعل الليل سرمداً أن لا يكون الله خلق الشمس ويكون خلق الأرض فكانت الأرض مظلمة .
والرؤية قلبية . والاستفهام في { أرأيتم } تقريري ، والاستفهام في { من إله غير الله يأتيكم بضياء } إنكاري وهم معترفون بهذا الانتفاء وأن خالق الليل والنهار هو الله تعالى لا غيره .
والمراد بالغاية في قوله { إلى يوم القيامة } إحاطة أزمنة الدنيا وليس المراد انتهاء جعله سرمداً .
والإتيان بالضياء وبالليل مستعار للإيجاد ؛ شبه إيجاد الشيء الذي لم يكن موجوداً بالإجاءة بشيء من مكان إلى مكان ، ووجه الشبه المثول والظهور .
والضياء : النور . وهو في هذا العالم من شعاع الشمس قال تعالى { هو الذي جعل الشمس ضياء } وتقدم في سورة يونس ( 5 ) . وعُبر بالضياء دون النهار لأن ظلمة الليل قد تخف قليلاً بنور القمر فكان ذكر الضياء إيماء إلى ذلك .
وفي تعدية فعل { يأتيكم } في الموضعين إلى ضمير المخاطبين إيماء إلى أن إيجاد الضياء وإيجاد الليل نعمة على الناس . وهذا إدماج للامتنان في أثناء الاستدلال على الانفراد بالإلهية . وإذ قد استمر المشركون على عبادة الأصنام بعد سطوع هذا الدليل وقد علموا أن الأصنام لا تقدر على إيجاد الضياء جعلوا كأنهم لا يسمعون هذه الآيات التي أقامت الحجة الواضحة على فساد معتقدهم ، ففرع على تلك الحجة الاستفهام الإنكاري عن انتفاء سماعهم بقوله { أفلا تسمعون } أي أفلا تسمعون الكلام المشتمل على التذكير بأن الله هو خالق الليل والضياء ومنه هذه الآية . وليس قوله { أفلا تسمعون } تذييلاً .
وكرر الأمر بالقول في مقام التقرير لأن التقرير يناسبه التكرير مثل مقام التوبيخ ومقام التهويل .
وعُكس الاستدلال الثاني بفرض أن يكون النهار وهو انتشار نور الشمس ، سرمداً بأن خلق الله الأرض غير كروية الشكل بحيث يكون شعاع الشمس منتشراً على جميع سطح الأرض دوماً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل} يا محمد، لكفار مكة: {أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة} فدامت ظلمته {من إله غير الله يأتيكم بضياء} يعني: بضوء النهار، {أفلا} يعني: أفهلا {تسمعون} المواعظ.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله: أيها القوم أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل دائما لا نهار إلى يوم القيامة يعقبه. والعرب تقول لكلّ ما كان متصلاً لا ينقطع من رخاء أو بلاء أو نعمة هو سرمد...
وقوله:"مَنْ إلَهٌ غيرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ" يقول: من معبود غير المعبود الذي له عبادة كل شيء يأتيكم بضياء النهار، فتستضيئون به.
"أفَلا تَسْمَعُونَ "يقول: أفلا تُرْعُون ذلك سمعكم، وتفكرون فيه فتتعظون، وتعلمون أن ربكم هو الذي يأتي بالليل ويذهب بالنهار إذا شاء، وإذا شاء أتى بالنهار وذهب بالليل، فينعم باختلافهما كذلك عليكم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"أفلا تسمعون" معناه:أفلا تقبلونه وتتفكرون فيه؟ وفى ذلك تبكيت لهم على ترك الفكر فيه، لأنهم إذا لم يفكروا فيما يسمعونه من حجج الله فكأنهم ما سمعوه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إن قلت: هلا قيل: بنهار تتصرفون فيه، كما قيل: {بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ}؟ قلت ذكر الضياء وهو ضوء الشمس: لأن المنافع التي تتعلق به متكاثرة، ليس التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس بتلك المنزلة، ومن ثمة قرن بالضياء {أَفَلاَ تَسْمَعُونَ} لأنّ السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائدهّ، وقرن بالليل {أَفلاَ تُبْصِرُونَ}.
اعلم أنه تعالى لما بين من قبل استحقاقه للحمد على وجه الإجمال بقوله: {وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون} فصل عقيب ذلك ببعض ما يجب أن يحمد عليه مما لا يقدر عليه سواه فقال لرسوله: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة}.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
خص سبحانه النهار بذكر البصر، لأنه محله. وفيه سلطان البصر وتصرفه. وخص الليل بذكر السمع. لأن سلطان السمع يكون بالليل، وتسمع فيه الحيوانات مالا تسمع في النهار. لأنه وقت هدوء الأصوات، وخمود الحركات، وقوة سلطان السمع وضعف سلطان البصر. والنهار بالعكس، فيه قوة سلطان البصر، وضعف سلطان السمع.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما قامت على القدرة الشاملة والعلم التام وأنه الإله وحده إن وحدوا أو الحدوا هذه الأعلام على هذا النظام، أقام دليلاً دالاًّ على ذلك كله بما اجتمع فيه من العلم والحكمة وتمام القدرة، منبهاً على وجوب حمده مفصلاً لبعض ما يحمد عليه، فقال مقدماً الليل لأن آيته عدمية، وهي أسبق: {قل} لمن ربما عاندوا في ذلك، منكراً عليهم ملزماً لهم، وعبر بالجمع لأنه أدل على الإلزام، أعظم في الإفحام، فقال: {أرأيتم} أي أخبروني {إن جعل الله} أي الملك الأعلى نظراً إلى مقام العظمة والجلال {عليكم الليل} الذي به اعتدال حر النهار {سرمداً} أي دائماً، وقال: {إلى يوم القيامة} تنبيهاً على أنه مما لا يتوجه إليه إنكار {من إله غير الله} العظيم الشأن الذي لا كفوء له.
ولما كان النور نعمة في نفسه، ويعرف به خالقه، صرح به وطوى أثره فقال: {يأتيكم بضياء} أي يولد نهاراً تنتشرون فيه، ولقوة إعلامه بالقدرة وتعريفه بالله عبر بهذا دون يؤتيكم ضياء، ولما كان الليل محل السكون ومجمع الحواس، فهو أمكن للسمع وأنفذ للفكر، قال تعالى: {أفلا تسمعون} أي ما يقال لكم إصغاء وتدبر، كما يكون لمن هو في الليل فينتفع بسمعه من أولي العقل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يجول بهم جولة في مشاهد الكون الذي يعيشون فيه غافلين عن تدبير الله لهم، واختياره لحياتهم ومعاشهم؛ فيوقظ مشاعرهم لظاهرتين كونيتين عظيمتين. ظاهرتي الليل والنهار، وما وراءهما من أسرار الاختيار والشهادة بوحدانية الخالق المختار... والناس لطول ما اعتادوا من كر الجديدين ينسون جدتهما المتكررة التي لا تبلى. ولا يروعهم مطلع الشمس ولا مغيبها إلا قليلا. ولا يهزهم طلوع النهار وإقبال الليل إلا نادرا. ولا يتدبرون ما في تواليهما من رحمة بهم وإنقاذ من البلى والدمار، أو التعطل والبوار، أو الملل والهمود. والقرآن الكريم يوقظهم من همود الإلف والعادة، ويلفتهم إلى تملي الكون من حولهم ومشاهده العظيمة؛ وذلك حين يخيل إليهم استمرار الليل أبدا أو النهار أبدا، وحين يخيفهم من عواقب هذا وذاك. وما يشعر الإنسان بقيمة الشيء إلا حين يفقده أو يخاف عليه الفقدان. قل: أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة. من إله غير الله يأتيكم بضياء؟ أفلا تسمعون.. والناس يشتاقون إلى الصبح حين يطول بهم الليل قليلا في أيام الشتاء، ويحنون إلى ضياء الشمس حين تتوارى عنهم فترة وراء السحاب! فكيف بهم لو فقدوا الضياء. ولو دام عليهم الليل سرمدا إلى يوم القيامة؟ ذلك على فرض أنهم ظلوا أحياء. وإن الحياة كلها لمعرضة للتلف والبوار، لو لم يطلع عليها النهار!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال من الاستدلال على انفراده تعالى بالإلهية بصفات ذاته إلى الاستدلال على ذلك ببديع مصنوعاته، وفي ضمن هذا الاستدلال إدماج الامتنان على الناس وللتعريض بكفر المشركين جلائل نعمه. ومن أبدع الاستدلال أن اختير للاستدلال على وحدانية الله هذا الصنع العجيب المتكرر كل يوم مرتين، والذي يستوي في إدراكه كل مميز، والذي هو أجلى مظاهر التغير في هذا العالم فهو دليل الحدوث وهو مما يدخل في التكيف به جميع الموجودات في هذا العالم حتى الأصنام فهي تظلم وتسود أجسامها بظلام الليل وتشرق وتضيء بضياء النهار، وكان الاستدلال بتعاقب الضياء والظلمة على الناس أقوى وأوضح من الاستدلال بتكوين أحدهما لو كان دائماً، لأن قدرة خالق الضدين وجاعل أحدهما ينسخ الآخر كل يوم أظهر منها لو لم يخلق إلا أقواهما وأنفعهما، ولأن النعمة بتعاقبهما دوماً أشد من الأنعام بأفضلهما وأنفعهما لأنه لو كان دائماً لكان مسؤوماً ولحصلت منه طائفة من المنافع، وفقدت منافع ضده. فالتنقل في النعم مرغوب فيه ولو كان تنقلاً إلى ما هو دون. وسيق إليهم هذا الاستدلال بأسلوب تلقين النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم اهتماماً بهذا التذكير لهذا الاستدلال ولاشتماله على ضدين متعاقبين، حتى لو كانت عقولهم قاصرة عن إدراك دلالة أحد الضدين لكان في الضد الآخر تنبيه لهم، ولو قصروا عن حكمة كل واحد منهما كان في تعاقبهما ما يكفي للاستدلال. وجيء في الشرطين بحرف {إن} لأن الشرط مفروض فرضاً مخالفاً للواقع. وعلم أنه قصد الاستدلال بعبرة خلق النور، فلذلك فرض استمرار الليل، والمقصود ما بعده وهو قوله {من إله غير الله يأتيكم بضياء}...
والمراد بالغاية في قوله {إلى يوم القيامة} إحاطة أزمنة الدنيا وليس المراد انتهاء جعله سرمداً. والإتيان بالضياء وبالليل مستعار للإيجاد؛ شبه إيجاد الشيء الذي لم يكن موجوداً بالإجاءة بشيء من مكان إلى مكان، ووجه الشبه المثول والظهور...
وإذ قد استمر المشركون على عبادة الأصنام بعد سطوع هذا الدليل وقد علموا أن الأصنام لا تقدر على إيجاد الضياء جعلوا كأنهم لا يسمعون هذه الآيات التي أقامت الحجة الواضحة على فساد معتقدهم، ففرع على تلك الحجة الاستفهام الإنكاري عن انتفاء سماعهم بقوله {أفلا تسمعون} أي أفلا تسمعون الكلام المشتمل على التذكير بأن الله هو خالق الليل والضياء ومنه هذه الآية. وليس قوله {أفلا تسمعون} تذييلاً. وكرر الأمر بالقول في مقام التقرير لأن التقرير يناسبه التكرير مثل مقام التوبيخ ومقام التهويل. وعُكس الاستدلال الثاني بفرض أن يكون النهار وهو انتشار نور الشمس، سرمداً بأن خلق الله الأرض غير كروية الشكل بحيث يكون شعاع الشمس منتشراً على جميع سطح الأرض دوماً...
قال {بضياء.. 71} [القصص] ولم يقل بنور؛ لأن النور قد يأتي من النجوم، وقد يأتي من القمر، أما الضياء وهو نور وأشعة وحرارة، فلا يأتي إلا من الشمس. لذلك يقول سبحانه: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا.. 5} [يونس]