اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ أَرَءَيۡتُمۡ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمُ ٱلَّيۡلَ سَرۡمَدًا إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَنۡ إِلَٰهٌ غَيۡرُ ٱللَّهِ يَأۡتِيكُم بِضِيَآءٍۚ أَفَلَا تَسۡمَعُونَ} (71)

قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً } الآية ، لما بيَّن{[40712]} بقوله : { وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة وَلَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فصل عقيب ذلك ببعض{[40713]} ما يجب أن يحمد عليه بما{[40714]} لا يقدر عليه سواه ، فقال : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً } ، نبَّه بذلك على كون الليل والنهار نعمتان متعاقبتان على الزمان ، ووجهه أن المرء في الدنيا مضطرٌّ إلى أن يتعب لتحصيل ما يحتاج إليه ولا يتم ذلك إلا براحة وسكون بالليل ولا بد منها والحالة هذه ، فأما في الجنة فلا نصب ولا تعب{[40715]} ولا حاجة بهم إلى الليل ، ولذلك يدوم لهم الضياء واللذات ، فبيَّن بذلك أن القادر على ذلك ليس إلاّ الله{[40716]} فقال : «قُلْ{[40717]} أَرَأَيْتُمْ » أخبروني يا أهل مكة { إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً } دائماً { إلى يَوْمِ القيامة } لا نهار معه { مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ } بنهار تطلبون فيه المعيشة «أَفَلاَ تَسْمَعُون » سماع فهم وقبول ؟ .

قوله{[40718]} : أَرَأَيْتُم ، وجعل تنازعاً في «اللَّيْل » وأعمل الثاني ومفعول «أَرَأَيْتُمْ » هي جملة الاستفهام بعده والعائد منها على الليل محذوف تقديره : بضياء بعده{[40719]} ، وجواب الشرط محذوف ، وتقدم تحرير هذا في الأنعام{[40720]} ، وسرمداً مفعول ثان إن كان الجعل{[40721]} تصييراً ، أو حال إن كان خلقاً وإنشاء{[40722]} ، والسَّرمد : الدائم الذي لا ينقطع{[40723]} قال طرفة{[40724]} :

4015 - لَعَمْرُكَ مَا أَمْرِي عَلَيَّ بِغُمَّةٍ *** نَهَارِي وَلاَ لَيْلِي عَلَيَّ بِسَرْمَدِ{[40725]}

والظاهر أن ميمه أصلية ، ووزنه فعلل كجعفر{[40726]} ، وقيل : هي زائدة واشتقاقه من السَّرد ، وهو تتابع الشيء على الشيء{[40727]} ، إلا أنَّ زيادة الميم وسطاً وآخراً لا تنقاس نحو : دُلاَمصِ{[40728]} ، وزُرْقُم{[40729]} ، من الدلاص والزُّرقة .

قوله : «إلَى يَوْمِ » متعلق ب «يَجْعَلَ » أو ب «سَرْمَداً » أو بمحذوف على أنه صفة ل «سَرْمَداً »{[40730]} وإنما قال : «أَفَلاَ تَسْمَعُونَ » ، «أَفَلاَ تُبْصِرُونَ » ، لأن الغرض من ذلك الانتفاع بما يسمعون ويبصرون من جهة التدبر ، فلما لم ينتفعوا أنزلوا منزلة من لا يسمع ولا يبصر{[40731]} ، قال المفسِّرون : «أَفَلاَ تَسْمَعُونَ » سماع فهم «أَفَلاَ تُبْصِرُونَ » ما أنتم عليه من الخطأ والضلال{[40732]} .

وقال الزمخشري : فإن قيل{[40733]} هلاَّ قيل بنهار يتصرَّفون فيه كما قيل بليل تسكنون فيه ، قلنا{[40734]} : ذكر الضياء وهو ضوء الشمس لأن المنافع التي تتعلق بها متكاثرة ليس التصرف في المعاش وحده{[40735]} والظلام ليس بتلك المنزلة ، وإنما قرن بالضياء «أَفَلاَ تَسْمَعُونَ » لأنَّ السمع يدرك ما لا يدركه البصر من درك منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل «أَفَلاَ تُبْصِرُونَ » لأن غيرك يدرك من منفعة الظلام ما تبصره{[40736]} أنت من السكون ونحوه{[40737]} .


[40712]:في الفخر الرازي: لما بيَّن من قبل استحقاقه للحمد على وجه الإجمال.
[40713]:في ب: بعض.
[40714]:في ب: ما.
[40715]:في ب: فلا تعب ولا نصب.
[40716]:انظر الفخر الرازي 25/12.
[40717]:في ب: هل. وهو تحريف.
[40718]:في ب: فصل قوله.
[40719]:انظر البحر المحيط 7/130.
[40720]:يشير إلى قوله تعالى: {قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم...} [الأنعام: 46]. انظر اللباب 3/413، 417.
[40721]:في ب: جعل.
[40722]:انظر التبيان 2/1025.
[40723]:لأنه من السرد، وهو المتابعة. انظر الكشاف 3/177، اللسان (سرد).
[40724]:تقدم.
[40725]:البيت من بحر الطويل، وقد تقدم.
[40726]:هذا معنى كلام أبي حيان فإنه قال: (سرمد قيل: من السرمد، فميمه زائدة ووزنه فعمل، ولا يزاد وسطاً ولا آخراً بقياس، وإنما هي ألفاظ تحفظ) البحر المحيط 7/130.
[40727]:انظر الكشاف 3/177.
[40728]:الدلامص: الدِّرع البراقة اللينة، بمعنى الدَّليص والدِّلاص وقد دلصت الدرع، أي: لانت. اللسان (دلص- دلمص).
[40729]:الزرقم: الأزرق الشديد الزرق، والمرأة زرقم أيضاً. والذكر والأنثى في ذلك سواء، وقال اللحياني: رجل أزرق وزرقم، وامرأة زرقاء بينة الزرق، وزرقمة. اللسان زرق.
[40730]:انظر التبيان 2/1025.
[40731]:انظر الفخر الرازي 25/12-13.
[40732]:انظر البغوي: 6/360.
[40733]:في الكشاف: فإن قلت:....قلت.
[40734]:في الكشاف: فإن قلت:....قلت.
[40735]:في ب: فيه.
[40736]:في ب: ما تبصرون.
[40737]:الكشاف 3/177.