ثم ذكر عموم علمه ، فقال : { يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : من السرائر والظواهر ، والغيب والشهادة . { وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بما فيها من الأسرار الطيبة ، والخبايا الخبيثة ، والنيات الصالحة ، والمقاصد الفاسدة ، فإذا كان عليمًا بذات الصدور ، تعين على العاقل البصير ، أن يحرص ويجتهد في حفظ باطنه ، من الأخلاق الرذيلة ، واتصافه بالأخلاق الجميلة .
ثم بين - سبحانه - شمول علمه لكل شىء فقال : { يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض } أى : هو - سبحانه - لا يخفى عليه شىء فى السموات والأرض .
{ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } - أيها الناس - والتصريح بذلك مع اندراجه فيما قبله ، من علم ما فى السموات وما فى الأرض ، لمزيد التأكيد فى الوعد والوعيد .
{ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } والمراد بذات الصدور ، النوايا والخواطر التى تخفيها الصدور ، وتكتمها القلوب .
أى : والله - تعالى - عليم علما تاما بالنوايا والخواطر التى اشتملت عليها الصدور ، فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد اشتملت على ثلاث جمل ، كل جملة منها أخص من سابقتها .
وجمع - سبحانه - بينها للإشارة إلى أن علمه - تعالى - محيط بالجزئيات والكليات ، دون أن يعزب عن علمه - تعالى - شىء منها .
وفى هذا رد على أولئك الكفار الجاحدين ، الذين استبعدوا إعادتهم إلى الحياة ، بعد أن أكلت الأرض أجسادهم ، وقالوا - كما حكى القرآن عنهم - { وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ }
واللمسة الرابعة في هذا المقطع هي تصوير العلم الإلهي المحيط بكل شيء ، المطلع على سر الإنسان وعلانيته ، وعلى ما هو أخفى من السر ، من ذوات الصدور الملازمة للصدور :
( يعلم ما في السماوات والأرض ، ويعلم ما تسرون وما تعلنون ، والله عليم بذات الصدور ) . .
واستقرار هذه الحقيقة في القلب المؤمن يفيده المعرفة بربه ، فيعرفه بحقيقته . ويمنحه جانبا من التصور الإيماني الكوني . ويؤثر في مشاعره واتجاهاته ؛ فيحيا حياة الشاعر بأنه مكشوف كله لعين الله . فليس له سر يخفى عليه ، وليس له نية غائرة في الضمير لا يراها وهو العليم بذات الصدور .
وإن آيات ثلاثة كهذه لكافية وحدها ليعيش بها الإنسان مدركا لحقيقة وجوده ، ووجود الكون كله ، وصلته بخالقه ، وأدبه مع ربه ، وخشيته وتقواه ، في كل حركة وكل اتجاه . .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصّدُورِ } .
يقول تعالى ذكره : يعلم ربكم أيها الناس ما في السموات السبع والأرض من شيء ، لا يخفى عليه من ذلك خافية وَيَعْلَمُ ما تُسِرّون أيها الناس بينكم من قول وعمل وَما تُعْلِنُونَ من ذلك فتظهرونه وَاللّهُ عَلِيمٌ بذَاتِ الصّدُورِ يقول جلّ ثناؤه : والله ذو علم بضمائر صدور عباده ، وما تنطوي عليه نفوسهم ، الذي هو أخفى من السرّ ، لا يعزب عنه شيء من ذلك . يقول تعالى ذكره لعباده : احذَروا أن تسرّوا غير الذي تعلنون ، أو تضمروا في أنفسكم غير ما تُبدونه ، فإن ربكم لا يخفى عليه من ذلك شيء ، وهو محص جميعه ، وحافظ عليكم كله .
ثم تدرج القول إلى أخفى من ذلك وهو جميع ما يقوله الناس في سر وفي علن ، ثم تدرج إلى ما هو أخفى ، وهو ما يهجس بالخواطر ، وذات الصدور : ما فيها من خطرات واعتقادات كما يقال : " الذئب مغبوط بذي بطنه " {[11137]} ، كما قال أبو بكر رضي الله عنه : إنما هو ذو بطن خارجة ، و { الصدور } هنا عبارة عن القلب ، إذ القلب في الصدر .
كانوا ينفون الحشر بعلة أنه إذا تفرقت أجزاء الجسد لا يمكن جمعها ولا يحاط بها . { وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أإنا لفي خلق جديد } [ السجدة : 10 ] ، فكان قوله تعالى : { يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون } دحضا لشبهتهم ، أي أن الذي يعلم ما في السماوات والأرض لا يعجزه تفرق أجزاء البدن إذا أراد جمعها . والذي يعلم السرّ في نفس الإِنسان ، والسرُّ أدق وأخفى من ذرات الأجساد المتفرقة ، لا تخفى عليه مواقع تلك الأجزاء الدقيقة ولذلك قال تعالى : { أيحسب الإِنسانُ أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه } [ القيامة : 3 - 4 ] .
فالمقصود هو قوله : { ويعلم ما تسرون } كما يقتضيه الاقتصار عليه في تذييله بقوله : { والله عليم بذات الصدور } ولم يذكر أنه عليم بأعمال الجوارح ، ولأن الخطاب للمشركين في مكة على الراجح . وذلك قبل ظهور المنافقين فلم يكن قوله : { ويعلم ما تسرون وما تعلنون } تهديداً على ما يبطنه الناس من الكفر .
وأما عطف { وما تعلنون } فتتميم للتذكير بعموم تعلق علمه تعالى بالأعمال .
وقد تضمن قوله : { ويعلم ما تسرون وما تعلنون } وعيداً ووعداً ناظريْن إلى قوله : { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } [ التغابن : 2 ] فكانت الجملة لذلك شديدة الاتصال بجملة { هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } [ التغابن : 2 ] .
وإعادة فعل { يعلم } للتنبيه على العناية بهذا التعلق الخاص للعلم الإِلهي بعد ذكر تعلقه العام في قوله : { يعلم ما في السموات والأرض } تنبيهاً على الوعيد والوعد بوجه خاص .
وجملة { والله عليم بذات الصدور } تذييل لجملة { ويعلم ما تسرون } لأنه يعلم ما يُسِرُّه جميع الناس من المخاطبين وغيرهم .
و { ذات الصدور } صفة لموصوف محذوف نزلت منزلة موصوفها ، أي صاحبات الصدور ، أي المكتومة فيها .
والتقدير : بالنوايا والخواطر ذات الصدور كقوله : { وحملناه على ذات ألواح } [ القمر : 13 ] وتقدم بيانه عند قوله تعالى : { إنه عليم بذات الصدور } في سورة [ الأنفال : 43 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يعلم ربكم أيها الناس ما في السموات السبع والأرض من شيء، لا يخفى عليه من ذلك خافية" وَيَعْلَمُ ما تُسِرّون "أيها الناس بينكم من قول وعمل "وَما تُعْلِنُونَ" من ذلك فتظهرونه.
"وَاللّهُ عَلِيمٌ بذَاتِ الصّدُورِ" يقول جلّ ثناؤه: والله ذو علم بضمائر صدور عباده، وما تنطوي عليه نفوسهم، الذي هو أخفى من السرّ، لا يعزب عنه شيء من ذلك. يقول تعالى ذكره لعباده: احذَروا أن تسرّوا غير الذي تعلنون، أو تضمروا في أنفسكم غير ما تُبدونه، فإن ربكم لا يخفى عليه من ذلك شيء، وهو محص جميعه، وحافظ عليكم كله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
نبه بعلمه ما في السموات والأرض، ثم بعلمه ما يسره العباد ويعلنونه، ثم بعلمه ذوات الصدور: أن شيئاً من الكليات والجزئيات غير خاف عليه ولا عازب عنه، فحقه أن يتقي ويحذر ولا يجترأ على شيء مما يخالف رضاه. وتكرير العلم في معنى تكرير الوعيد، وكل ما ذكره بعد قوله تعالى: {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} [التغابن: 2] كما ترى في معنى الوعيد على الكفر، وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق ويجعله من جملته، والخلق: أعظم نعمة من الله على عباده، والكفر: أعظم كفران من العباد لربهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يعلم} أي علمه حاصل في الماضي والحال والمآل يتعلق بالمعلومات على حسب تعليق قدرته على وفق إرادته بوجدانها {ما} أي الذي أو كل شيء {في السماوات} كلها... {والأرض} ولما ذكر حال الظرف على وجه يشمل المظروف، وكان الاطلاع على أحوال العقلاء أصعب، قال مؤكداً بإعادة العامل: {ويعلم} أي على سبيل الاستمرار {ما تسرون} أي حال الانفراد وحال الخصوصية مع بعض الإفراد...
{وما تعلنون} من الكليات والجزيئات...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(يعلم ما في السماوات والأرض، ويعلم ما تسرون وما تعلنون، والله عليم بذات الصدور).. واستقرار هذه الحقيقة في القلب المؤمن يفيده المعرفة بربه، فيعرفه بحقيقته. ويمنحه جانبا من التصور الإيماني الكوني. ويؤثر في مشاعره واتجاهاته؛ فيحيا حياة الشاعر بأنه مكشوف كله لعين الله. فليس له سر يخفى عليه، وليس له نية غائرة في الضمير لا يراها وهو العليم بذات الصدور...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون} دحضا لشبهتهم، أي أن الذي يعلم ما في السماوات والأرض لا يعجزه تفرق أجزاء البدن إذا أراد جمعها. والذي يعلم السرّ في نفس الإِنسان، والسرُّ أدق وأخفى من ذرات الأجساد المتفرقة، لا تخفى عليه مواقع تلك الأجزاء الدقيقة...
وقد تضمن قوله: {ويعلم ما تسرون وما تعلنون} وعيداً ووعداً ناظريْن إلى قوله: {فمنكم كافر ومنكم مؤمن} [التغابن: 2]...
وإعادة فعل {يعلم} للتنبيه على العناية بهذا التعلق الخاص للعلم الإِلهي بعد ذكر تعلقه العام في قوله: {يعلم ما في السموات والأرض} تنبيهاً على الوعيد والوعد بوجه خاص.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تجسّد هذه الآية علم الله اللامتناهي في ثلاثة مستويات:
علمه بكلّ المخلوقات، وما في السموات والأرض.
ثمّ علمه بأعمال الإنسان كافّة، سواء أضمرها أو أظهرها.
والثالث علمه بنيّة الإنسان وعقائده الداخلية التي تحكم قلب الإنسان وروحه.
ولا شكّ أنّ معرفة الإنسان بهذا العلم الإلهي ستترك عليه آثاراً تربوية كثيرة، وتحذّره بأنّ جميع تحرّكاته وسكناته وكلّ تصرّفاته ونيّاته، وفي أي مكان كانت، إنّما هي في علم الله وتحت نظره تبارك وتعالى. وممّا لا شكّ فيه أنّ ذلك سيهيئ الإنسان للحركة نحو الرقي والتكامل.