{ وَمَنْ جَاهَدَ } نفسه وشيطانه ، وعدوه الكافر ، { فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } لأن نفعه راجع إليه ، وثمرته عائدة إليه ، والله غني عن العالمين ، لم يأمرهم بما أمرهم به لينتفع به ، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بُخْلًا عليهم .
وقد علم أن الأوامر والنواهي يحتاج المكلف فيها إلى جهاد ، لأن نفسه تتثاقل بطبعها عن الخير ، وشيطانه ينهاه عنه ، وعدوه الكافر يمنعه من إقامة دينه ، كما ينبغي ، وكل هذا معارضات تحتاج إلى مجاهدات وسعي شديد .
وقوله - سبحانه - : { وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } معطوف على ما قبله ، ومؤكد لمضمونه . أى : ومن جاهد فى طاعة الله ، وفى سبيل إعلاء كلمته ، ونصرة دينه ، فإنما يعود ثواب جهاده ونفعه لنفسه لا لغيره .
{ إِنَّ الله } - تعالى - { لَغَنِيٌّ عَنِ العالمين } جميعا ، لأنه - سبحانه - لا تنفعه طاعة مطيع ، كما لا تضره معصية عاص ، وإنما لنفسه يعود ثواب المطيع وعليها يرجع عقاب المسئ .
والإيقاع الرابع يواجه القلوب التي تحتمل تكاليف الإيمان ، ومشاق الجهاد ، بأنها إنما تجاهد لنفسها ولخيرها ولاستكمال فضائلها ، ولإصلاح أمرها وحياتها ؛ وإلا فما بالله من حاجة إلى أحد ، وإنه لغنى عن كل أحد :
( ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ، إن الله لغني عن العالمين ) . .
فإذا كتب الله على المؤمنين الفتنة وكلفهم أن يجاهدوا أنفسهم لتثبت على احتمال المشاق ، فإنما ذلك لإصلاحهم ، وتكميلهم ، وتحقيق الخير لهم في الدنيا والآخرة . والجهاد يصلح من نفس المجاهد وقلبه ؛ ويرفع من تصوراته وآفاقه ؛ ويستعلي به على الشح بالنفس والمال ، ويستجيش أفضل ما في كيانه من مزايا واستعدادات . وذلك كله قبل أن يتجاوز به شخصه إلى الجماعة المؤمنة ، وما يعود عليها من صلاح حالها ، واستقرار الحق بينها ، وغلبة الخير فيها على الشر ، والصلاح فيها على الفساد .
( ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ) .
فلا يقفن أحد في وسط الطريق ، وقد مضى في الجهاد شوطا ؛ يطلب من الله ثمن جهاده ؛ ويمن عليه وعلى دعوته ، ويستبطئ المكافأة على ما ناله ! فإن الله لا يناله من جهاده شيء . وليس في حاجة إلى جهد بشر ضعيف هزيل : ( إن الله لغني عن العالمين ) . وإنما هو فضل من الله أن يعينه في جهاده ، وأن يستخلفه في الأرض به ، وأن يأجره في الآخرة بثوابه :
وقوله تعالى : { ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه } ، إعلان بأن كل واحد مجازى بفعله فهو إذاً له ، وهو حظه الذي ينبغي أن لا يفرط فيه فإن الله غني عن جهاد و «غني عن العالمين » بأسرهم ، وهاتان الآيتان [ . . . . . ]{[9208]} نبذ على سؤال الطائفة المرتابة المترددة في فتنة الكفار التي كانت تنكر أن ينال الكفار المؤمنين بمكروه وترتاب من أجل ذلك ، فكأنهم قيل لهم من كان يؤمن بالبعث فإن الأمر حق في نفسه ، والله تعالى بالمرصاد ، أي هذه بصيرة لا ينبغي لأحد أن يعتقدها لوجه أحد ، وكذلك من جاهد فثمره جهاده له فلا يمن بذلك على أحد ، وهذا كما يقول المناظر عند سوق حجته من أراد أن يرى الحق فإن الأمر كذا وكذا ونحو هذا فتامله ، وقيل : معنى الآية ومن جاهد المؤمنين ودفع في صدر الدين فإنما جهاده لنفسه لا لله فالله غني .
أي ومن جاهد ممن يرجون لقاء الله ، فليست الواو للتقسيم ، وليس { من جاهد } بقسيم لمن كانوا يرجون لقاء الله بل الجهاد من عوارض من كانوا يرجون لقاء الله .
والجهاد : مبالغة في الجهد الذي هو مصدر جَهَد كمنع ، إذا جدُّ في عمله وتكلّف فيه تعباً ، ولذلك شاع إطلاقه على القتال في نصر الإسلام . وهو هنا يجوز أن يكون الصبر على المشاق والأذى اللاحقة بالمسلمين لأجل دخولهم في الإسلام ونبذ دين الشرك حيث تصدى المشركون لأذاهم . فإطلاق الجهاد هنا هو مثل إطلاقه في قوله تعالى بعد هذا { وإن جاهداك لتُشْرِك بي } [ العنكبوت : 8 ] ، ومثل إطلاقه في قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد قفل من إحدى غزواته " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر "
وهذا المحل هو المتبادر في هذه السورة بناء على أنها كلها مكية لأنه لم يكن جهاد القتال في مكة .
ومعنى { فإنما يجاهد لنفسه } على هذا المحمل أن ما يلاقيه من المشاق لفائدة نفسه ليتأتى له الثبات على الإيمان الذي به ينجو من العذاب في الآخرة .
ويجوز أن يراد بالجهاد المعنى المنقول إليه في اصطلاح الشريعة وهو قتال الكفار لأجل نصر الإسلام والذبّ عن حوزته ، ويكون ذكره هنا لإعداد نفوس المسلمين لما سيُلْجَأون إليه من قتال المشركين قبل أن يضطروا إليه فيكون كقوله تعالى { قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون } [ الفتح : 16 ] ومناسبة التعرض له على هذا المحمل هو أن قوله { فإن أجل الله لآت } [ العنكبوت : 5 ] تضمن ترقباً لوعد نصرهم على عدوهم فقُدم إليهم أن ذلك بعد جهاد شديد وهو ما وقع يوم بدر .
ومعنى { فإنما يجاهد لنفسه } على هذا المحمل هو معناه في المحمل الأول لأن ذلك الجهاد يدافع صدّ المشركين إياهم عن الإسلام ، فكان الدوام على الإسلام موقوفاً عليه ، وزيادة معنى آخر وهو أن ذلك الجهاد وإن كان في ظاهر الأمر دفاعاً عن دين الله فهو أيضاً به نصرهم وسلامة حياة الأحياء منهم وأهلهم وأبنائهم وأساس سلطانهم في الأرض كما قال تعالى : { وعَدَ الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنَّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ولَيُمكِّنَنَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم ولَيُبدِّلَنَّهم من بعد خوفهم أمناً } [ النور : 55 ] . وقال علقمة بن شيبان التميمي :
ونقاتل الأعداء عن أبنائنا *** وعلى بصائرنا وإن لم نُبْصِر
والأوفق ببلاغة القرآن أن يكون المحملان مرادين كما قدمنا في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير .
والقصر المستفاد من ( إنما ) هو قصر الجهاد على الكون لنفس المجاهد ، أي الصالح نفسه إذ العلة لا تتعلق بالنفس بل بأحوالها ، أي جهاد لفائدة نفسه لا لنفع ينجر إلى الله تعالى ، فالقصر الحاصل بأداة ( إنما ) قصر ادعائي للتنبيه إلى ما يغفلون عنه حين يجاهدون الجهاد بمعنييه من الفوائد المنجرة إلى أنفس المجاهدين ولذلك عقب الرد المستفاد من القصر بتعليله بأن الله غنيّ عن العالمين فلا يكون شيء من الجهاد نافعاً لله تعالى ولكن نفعة للأمة .
فموقع حرف التأكيد هنا هو موقع فاء التفريع الذي نبّه عليه صاحب « دلائل الإعجاز » وتقدّم غير مرة .