ثم حذر الله - تعالى - أهل الكتاب - في ختام الآيات - من التمادي في الكفر والمعصية ، اتكالا على انتسابهم لآباء كانوا من الأنبياء أو من الصالحين ، فقال تعالى : { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
{ تِلْكَ } إشارة إلى أمة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط و ( الأمة ) المراد بها هنا الجماعة من الناس الذين يجمعهم أمر واحد وهو هنا الدين ( قد خلت ) أي مضت وانقرضت .
ومعنى الآية الكريمة : قل يا محمد لأهل الكتاب الذين زعموا أن الهداية في ملتهم وأن إبراهيم وآله كانوا هوداً أو نصارى ، قل لهم : إن إبراهيم وآله يمثلون أمة مضت لسبيلها لها عند الله ما كسبت من خير وعليها ما اكتسبت من شر ولا ينفعها غير صالح أعمالها ، ولا يضرها الأمر كذلك بالنسبة لكم فعليكم أن تسلكوا طريق الإيمان والعمل الصالح وأن تتركوا الاتكال على فضائل الآباء والأجداد فإن كل نفس يوم القيامة ستسأل عن أعمالها دون أعمال غيرها ، كما بين ذلك قوله تعالى : { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } فالمقصد الأول الذي ترمى إليه الآية الكريمة ، هو تحذير المخاطبين من تركهم الإِيمان والطاعة اعتماداً منهم على انتسابهم لآباء كانوا أنبياء أو صالحين ، فإن هذا الاعتماد إنما هو نوع من الأماني الكاذبة والأفكار الفاسدة وقد جاء في الحديث الشريف " من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه "
وكأن الآية تقول لأهل الكتاب في تأكيد : إن أمامكم ديناً دعيتم إلى اتباعه ، واقترنت دعوته بالحجة فانظرو في دلائل صحته ، وسمو حكمته ، ولا تردوه بمجرد أن الأنبياء كانوا على ما أنتم عليه الآن ، فإن دعواكم هذه لا تنفعكم ولو في حال تسليمها لكن ، إذ لا يمنع اختلاف الشرائع باختلاف المصالح ، وعلى سحب ما تقتضيه حكمة عالم الغيب والشهادة .
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد دحضت ما ادعاه اليهود من أن الهدى في اتباع ملتهم ، وأقامت الحجج والشواهد على كذبهم وافترائهم وأرشدتهم إلى الدين الحق ، ودعتهم إلى الدخول فيه ، ووبختهم على المحاجة في دين الله بغير علم ، وحذرتهم من الانحراف عن الصراط المستقيم اعتماداً منهم على آباء لهم كانوا أنبياء أو صالحين ، فإنه لن تجزي نفس عن نفس شيئاً يوم الدين .
وحين يصل السياق إلى هذه القمة في الافحام ، وإلى هذا الفصل في القضية ، وإلى بيان ما بين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وبين اليهود المعاصرين من مفارقة تامة في كل اتجاه . . عندئذ يعيد الفاصلة التي ختم بها الحديث من قبل عن إبراهيم وذريته المسلمين :
( تلك أمة قد خلت . لها ما كسبت ولكم ما كسبتم . ولا تسألون عما كانوا يعملون ) . .
وفيها فصل الخطاب ، ونهاية الجدل ، والكلمة الأخيرة في تلك الدعاوى الطويلة العريضة .
{ تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }
يعني تعالى ذكره بقوله : { تلْكَ أُمّةٌ } إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد ، عن قتادة قوله تعالى : { تِلْكَ أُمّةٌ } قَدْ خَلَتْ يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بمثله .
وقد بينا فيما مضى أن الأمة : الجماعة . فمعنى الآية إذا : قل يا محمد لهؤلاء الذين يجادلونك في الله من اليهود والنصارى إن كتموا ما عندهم من الشهادة في أمر إبراهيم ومن سمينا معه ، وأنهم كانوا مسلمين ، وزعموا أنهم كانوا هودا أو نصارى فكذبوا ، أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط أمة قد خلت أي مضت لسبيلها ، فصارت إلى ربها ، وخلت بأعمالها وآمالها ، لها عند الله ما كسبت من خير في أيام حياتها ، وعليها ما اكتسبت من شرّ لا ينفعها غير صالح أعمالها ، ولا يضرّها إلا سيئها . فاعلموا أيها اليهود والنصارى ذلك ، فإنكم إن كان هؤلاء هم الذين بهم تفتخرون وتزعمون أن بهم ترجون النجاة من عذاب ربكم مع سيئاتكم ، وعظيم خطيئاتكم ، لا ينفعهم عند الله غير ما قدّموا من صالح الأعمال ، ولا يضرّهم غير سيئها فأنتم كذلك أحرى أن لا ينفعكم عند الله غير ما قدمتم من صالح الأعمال ، ولا يضرّكم غير سيئها . فاحذروا على أنفسكم وبادروا خروجها بالتوبة والإنابة إلى الله مما أنتم عليه من الكفر والضلالة والفرية على الله وعلى أنبيائه ورسله ، ودعوا الاتّكال على فضائل الاَباء والأجداد ، فإنما لكم ما كسبتم ، وعليكم ما اكتسبتم ، ولا تُسألون عما كان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط يعملون من الأعمال ، لأن كل نفس قدمت على الله يوم القيامة ، فإنما تُسأل عما كسبت وأسلفت . دون ما أسلف غيرها .
{ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون } تكرير للمبالغة في التحذير والزجر عما استحكم في الطباع من الافتخار بالآباء والاتكال عليهم . قيل : الخطاب فيما سبق لهم ، وفي هذه الآية لنا تحذيرا عن الاقتداء بهم . وقيل : المراد بالأمة في الأول الأنبياء ، وفي الثاني أسلاف اليهود والنصارى .
{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ( 141 )
وقوله تعالى : { تلك أمة } الآية ، كررها عن قرب لأنها تضمنت معنى التهديد والتخويف ، أي إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بكسبهم فأنتم أحرى ، فوجب التأكيد ، فلذلك كررها ، ولترداد ذكرهم أيضاً في معنى غير الأول( {[1332]} ) .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{تلْكَ أُمّةٌ}: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط... وقد بينا فيما مضى أن الأمة: الجماعة. فمعنى الآية إذا: قل يا محمد لهؤلاء الذين يجادلونك في الله من اليهود والنصارى إن كتموا ما عندهم من الشهادة في أمر إبراهيم ومن سمينا معه، وأنهم كانوا مسلمين، وزعموا أنهم كانوا هودا أو نصارى فكذبوا، أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط أمة قد خلت أي مضت لسبيلها، فصارت إلى ربها، وخلت بأعمالها وآمالها، لها عند الله ما كسبت من خير في أيام حياتها، وعليها ما اكتسبت من شرّ لا ينفعها غير صالح أعمالها، ولا يضرّها إلا سيئها. فاعلموا أيها اليهود والنصارى ذلك، فإنكم إن كان هؤلاء هم الذين بهم تفتخرون وتزعمون أن بهم ترجون النجاة من عذاب ربكم مع سيئاتكم، وعظيم خطيئاتكم، لا ينفعهم عند الله غير ما قدّموا من صالح الأعمال، ولا يضرّهم غير سيئها فأنتم كذلك أحرى أن لا ينفعكم عند الله غير ما قدمتم من صالح الأعمال، ولا يضرّكم غير سيئها. فاحذروا على أنفسكم وبادروا خروجها بالتوبة والإنابة إلى الله مما أنتم عليه من الكفر والضلالة والفرية على الله وعلى أنبيائه ورسله، ودعوا الاتّكال على فضائل الاَباء والأجداد، فإنما لكم ما كسبتم، وعليكم ما اكتسبتم، ولا تُسألون عما كان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط يعملون من الأعمال، لأن كل نفس قدمت على الله يوم القيامة، فإنما تُسأل عما كسبت وأسلفت. دون ما أسلف غيرها.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قيل في تكرار قوله تلك أمة قد خلت قولان:
أحدهما أنه عنى بالأول: إبراهيم ومن ذكر معه من الأنبياء. والثاني عنى به أسلافهم من آبائهم الذين هم على ملتهم.
والقول الثاني: إن الجواب إذا اختلفت أوقاته فكأن الثاني في غير موطن الأول، وكان بعد مدة من وقوع الأول بحسب ما اقتضاه الحال لم يكن ذلك معيبا عند أهل اللغة ولا عند العقلاء، والاعتراض عليهم بقوله: {تلك أمة قد خلت} إنه إذا لم تشكوا أن يكون فرضهم غير فرض الأمة التي قد خلت قبلكم، ولا تحتجوا بأنه لا يجوز أن يخالفوا عليه، ولو سلم لكم أنهم كانوا على ما تذكرونه ما جاز لكم أن تتركوا ما نقل لكم الله عنه على لسان رسوله محمد (صلى الله عليه وآله) إذ لله تعالى أن ينسخ من الشريعة ما شاء على ما يعلم في ذلك من وجوه الحكمة، وعموم المصلحة...
والخلاء الفراغ يقال: فرغ من عمله، وفرغ من مكانه. وإنما قيل لما مضى خلا، لأنه خلا منه مكانه. والكسب الفعل الذي يجر لفاعله نفعا أو يدفع به ضررا. وإنما قيل كسب السيئة، لأنه أجلب النفع عاجلا.
وقوله: {ولا تسألون} معناه لا تطالبون. والسؤال الطلب. وهو أيضا الأخبار الذي اقتضاه ما تقدم من الكلام، أي: لا يقال لكم لم عصى آباؤكم. وإنما يقال لكم لم عصيتم ولم ظلمتم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {تلك أمة} الآية، كررها عن قرب لأنها تضمنت معنى التهديد والتخويف، أي إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بكسبهم فأنتم أحرى، فوجب التأكيد، فلذلك كررها، ولترداد ذكرهم أيضاً في معنى غير الأول.
اعلم أنه تعالى لما حاج اليهود في هؤلاء الأنبياء عقبه بهذه الآية لوجوه.
(أحدها): ليكون وعظا لهم وزجرا حتى لا يتكلوا على فضل الآباء فكل واحد يؤخذ بعمله.
(وثانيها): أنه تعالى بين أنه متى لا يستنكر أن يكون فرضكم عين فرضهم لاختلاف المصالح لم يستنكر أن تختلف المصالح فينقلكم محمد صلى الله عليه وسلم من ملة إلى ملة أخرى.
(وثالثها): أنه تعالى لما ذكر حسن طريقة الأنبياء الذين ذكرهم في هذه الآيات بين أن الدليل لا يتم بذلك بل كل إنسان مسئول عن عمله، ولا عذر له في ترك الحق بأن توهم أنه متمسك بطريقة من تقدم، لأنهم أصابوا أم أخطئوا لا ينفع هؤلاء ولا يضرهم لئلا يتوهم أن طريقة الدين التقليد.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
تكرير للمبالغة في التحذير والزجر عما استحكم في الطباع من الافتخار بالآباء والاتكال عليهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما لم يدع لهم متمسكاً من جهة إبراهيم عليه السلام أتبع ذلك الإشارة على تقدير صحة دعواهم إلى أن الدين دائر مع أمره في كل زمان لا مع ما قرره لأحد من خلقه، فإنه لا حجر عليه ولا اعتراض، بل له أن يأمر اليوم بأمر وغداً مثلاً بضده وأن يفعل ما يشاء من إحكام ونسخ ونسيء وإنساء فقال: {تلك أمة} أي إبراهيم وآله {قد خلت} أي فهب أنهم على ما زعمتم فقد مضوا وقدم زمانهم فلا ينفعكم إلا ما تستجدونه في وقتكم هذا بحكم ما تجدد من المنزل المعجز لكافة أهل الأرض أحمرهم وأسودهم،.
و يجوز أن يقال: لما كان مضمون ما سبق من إثبات الأعلمية لله وكتمانهم الشهادة بما عندهم ثبوت ما أخبر به سبحانه على لسان هذا النبي الكريم من كون أصفيائه على دينه الإسلام فهم برآء منهم كان المعنى: إن ادعيتم بهتاً أن العلم جاءكم عن الله بما ادعيتموه قيل: إن من تدعون عليه ذلك من الأنبياء قد انقضت معجزته بموته، وكتابكم غير مأمون عليه التحريف والتبديل لكونه غير معجز، وهذا النبي الآتي بالقرآن قائم بين أظهركم وهو يخبركم عن الله بكذب دعواكم، ويؤيد قوله بالمعجزات التي منها هذا القرآن الذي عجزت العرب كلها عن الإتيان بسورة من مثله وأنتم كذلك مع مشاركتكم لهم في الفصاحة نظماً ونثراً واختصاصكم عنهم بالعلم فلزمكم قبوله، لأنكم لا تستندون في ترويج كذبكم بعد الجهد إلا إلى من ثبت صدقه بثبوت رسالته، وثبتت رسالته بظهور معجزته، فوجب عليكم قبول أمره، وذلك ينتج قطعاً أنه يجب عليكم قبول هذا الداعي بهذا القرآن لمثل ذلك سواء، وإلا كان قبول بعض من ثبت له هذا الوصف دون البعض تحكماً واتباعاً للهوى المذموم في كل شرعة المنعي عليكم بقوله تعالى:أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم} [البقرة: 87]
هذا مع أن رد قولكم هذا فيهم أظهر ظاهر من حيث إنه لا يعقل أن يكون السابق على نسبة اللاحق ما حدثت به إلا بعده بمُدد متطاولة، وسيأتي النص الصريح بإبطال ذلك في آل عمران إن شاء الله تعالى والإشارة إلى منابذته للعقل بقوله: {أفلا تعقلون} [آل عمران: 65] ليتطابق على إبطاله صادق النقل وحاكم العقل، وإلى هذا كله الإشارة بقوله: {تلك أمة قد خلت} أي من قبلكم بدهور ولا يقبل الإخبار عنهم بعدها إلا بقاطع، ولا سبيل لكم إليه وقد قام القاطع على مخالفتكم لهم بهذا القرآن المقطوع بصدقه بإعجازه بما تقدم وبما أشار إليه قوله تعالى: {لها ما كسبت} أي من أعمالها {ولكم ما كسبتم} أي من أعمالكم، فلا يسألون هم عن أعمالكم {ولا تسألون} أي أنتم {عما كانوا يعملون}...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال الراغب: إعادة هذه الآية من أجل أن العادة مستحكمة في الناس، صالحهم وطالحهم أن يفتخروا بآبائهم ويقتدوا بهم في متحرياتهم. لاسيما في أمور دينهم. ولهذا حكى عن الكفار قولهم: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون}. فأكد الله تعالى القول في إنزالهم عن هذه الطريقة. وذكر في أثر ما حكى من وصية إبراهيم ويعقوب بنيه بذلك، تنبيها أن الأمر سواء على ما قلت أو لم يكن. فليس لكم ثواب فعلهم ولا عليكم عقابه. وفي الثاني لما ذكر ادعاءهم اليهودية والنصرانية لآبائهم أعاد أيضا تأكيدا عليهم تنبيها على نحو ما قال: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه}، وقوله: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}، وقوله: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} ولما جرت به عادتهم وتفردت به معرفتهم: كل شاة تناط برجليها.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم ختم المحاجة بتأكيد أمر العمل وعدم فائدة النسب فقال: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون} وإنما تسئلون عن أعمالكم وتجازون عليها، فلا ينفعكم ولا يضركم سواها، وهذه قاعدة يثبتها كل دين قويم، وكل عقل سليم، ولكن قاعدة الوثنية القاضية باعتماد الناس في طلب سعادة الآخرة وبعض مصالح الدنيا على كرامات الصالحين تغلب مع الجهل كل دين وكل عقل، ومنبع الجهل التقليد المانع من النظر في الأدلة العقلية والدينية جميعا؛ اللهم إلا مكابرة الحس والعقل، وتأويل نصوص الشرع، تطبيقا لهما على ما يقول المقلَّدون المتبَعون (بفتح اللام والباء) وقد أول المؤولون نصوص أديانهم تقريرا لاتباع رؤسائهم والاعتماد على جاههم في الآخرة لذلك جاء القرآن يبالغ في تقرير قاعدة ارتباط السعادة بالعمل والكسب وتبيينها ونفي الانتفاع بالأنبياء والصالحين لمن لم يتأس بهم في العمل الصالح، ولذلك أعاد هذه الآية بنصها في مقام محاجة أهل الكتاب المفتخرين بسلفهم من الأنبياء العظام، المعتمدين على شفاعتهم وجاههم وإن قصروا عن غيرهم في الأعمال.
وفائدة الإعادة تأكيد تقرير قاعدة بناء السعادة على العمل دون الآباء والشفعاء، بحيث لا يطمع في تأويل القول طامع، والإشعار بمعنى يعطيه السياق هنا وهو أن أعمال هؤلاء المجادلين المشاغبين من أهل الكتاب مخالفة لأعمال سلفهم من الأنبياء فهم في الحقيقة على غير دينهم... وقد سبق القول بأن الآية أفادت في وضعها الأول أن إبراهيم وبنيه وحفدته قد مضوا إلى ربهم بسلامة قلوبهم وإخلاصهم في أعمالهم، وانقطعت النسبة بينهم وبين من جاء بعدهم، فتنكب طريقهم وانحرف عن صراطهم، وإن أدلى إليهم بالنسب فكل واحد من السلف والخلف مجزي بعمله لا ينفع أحدا منهم عمل غيره من حيث هو عمل ذلك الغير ولا شخصه بالأولى. وذلك أنها جاءت عقب بيان ملة إبراهيم وإيصاء بعضهم بعضا بها وبيان دروجهم عليها، ثم جاء بعد ذلك الاحتجاج على القوم بمن يعتقدون فيهم الخير والكمال وكونهم لم يكونوا على هذه اليهودية ولا هذه النصرانية اللتين حدثتا بعدهم، فجاءت قاعدة الأعمال في هذا الموضع تبين أن المتخالفين في الأعمال والمقاصد لا يكونون متحدين في الدين ولا متساوين في الجزاء، فأفادت هنا ما لم تقده هناك.
وللمسلمين أن يحاسبوا أنفسهم. ويحكموا قاعدة العمل والجزاء بينهم وبين سلفهم، ولا يغتروا بالتسمية إن كانوا يعقلون... وأزيد على ما تقدم أن انتفاع الناس بعضهم ببعض في الدنيا إنما يكون بمقتضى سنن الله تعالى في الأسباب والمسببات، ومن المعلوم شرعا وعقلا: أن الميت ينقطع عمله بخروجه من عالم الأسباب إلى البرزخ من عالم الغيب، وأما الآخرة فلا كسب فيها، وأمرها إلى الله وحده ظاهرا وباطنا، كما قال تعالى {82: 19 يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله}
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وحين يصل السياق إلى هذه القمة في الإفحام، وإلى هذا الفصل في القضية، وإلى بيان ما بين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وبين اليهود المعاصرين من مفارقة تامة في كل اتجاه.. عندئذ يعيد الفاصلة التي ختم بها الحديث من قبل عن إبراهيم وذريته المسلمين: (تلك أمة قد خلت. لها ما كسبت ولكم ما كسبتم. ولا تسألون عما كانوا يعملون).. وفيها فصل الخطاب، ونهاية الجدل، والكلمة الأخيرة في تلك الدعاوى الطويلة العريضة...
بعض الناس يقول إن هذه الآية مكررة فقد تقدمتها آية تقول: {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون "133 "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون "134 "} (سورة البقرة)... نقول... الآية الأولى تقول لليهود إن نسبكم إلى إبراهيم واسحق لن يشفع لكم عند الله بما حرفتموه وغيرتموه في التوراة.. وبما تفعلونه من غير ما شرع الله. فاعملوا أن عملكم هو الله ستحاسبون عليه وليس نسبكم. أما في الآية التي نحن بصددها فقد قالوا إن إبراهيم وإسماعيل واسحق كانوا هودا أو نصارى.. [ف] الله تبارك وتعالى لا يجادلهم وإنما يقول لهم لنفرض -وهذا فرض غير صحيح إن إبراهيم وإسماعيل واسحق كانوا هودا أو نصارى- فهذا لن يكون عذرا لكم.. لأن لهم ما كسبوا ولكم ما كسبتم، فلا تأخذوا ذلك حجة على الله يوم القيامة.. ولا تقولوا إننا كنا نحسب أن إبراهيم وإسماعيل واسحق كانوا هودا أو نصارى أي كانوا على غير دين الإسلام لأن هذه حجة غير مقبولة.. وهل أنتم أعلم أم الله سبحانه الذي يشهد بأنهم كانوا مسلمين...